مقالات
الإستراتيجية الفلسطينية ......وضرورة التغيير 2/3
عبد المجيد
حمدان
2015
/ 11 / 23
2/3
الحركة
بفعل القصور الذاتي
قلنا
أن عرفات ، والثورة الفلسطينية الحديثة ، بدآ من حيث انتهى الحاج أمين ، رغم أن الفاصل
الزمني بينهما كان أيضا ،
ويا لغرائب الصدف ، 18 سنة – من 49 إلى 67 - ، تجدد فيها بقاء الشعب الفلسطيني المشتت بلا قيادة . فترة شهدت متغيرات كثيرة وعميقة ؛ وطنيا ، عالميا ، عربيا وإسرائيليا ، أو كما يقال ، مرت فيها مياه كثيرة من تحت الجسر . ومن حقنا الآن أن نسأل : هل وعى عرفات والقيادة الجديدة هذه المتغيرات ، وتأثيراتها المتبادلة ، قبل أن يتخذوا قرارهم بالبدء من حيث انتهى الحاج أمين ؟ أو بعبارة أخرى ، قبل تبني نفس إستراتيجية النضال الوطني ، والتي كما سبق وأوضحنا في الحلقة السابقة ، ولدت وتبلورت عشوائيا قبل أن تتبناها قيادة الحاج أمين ؟ إذن وقبل محاولة الإجابة ، تعالوا نتوقف قليلا عند بعض الخطوط العريضة لتلك المتغيرات .
ويا لغرائب الصدف ، 18 سنة – من 49 إلى 67 - ، تجدد فيها بقاء الشعب الفلسطيني المشتت بلا قيادة . فترة شهدت متغيرات كثيرة وعميقة ؛ وطنيا ، عالميا ، عربيا وإسرائيليا ، أو كما يقال ، مرت فيها مياه كثيرة من تحت الجسر . ومن حقنا الآن أن نسأل : هل وعى عرفات والقيادة الجديدة هذه المتغيرات ، وتأثيراتها المتبادلة ، قبل أن يتخذوا قرارهم بالبدء من حيث انتهى الحاج أمين ؟ أو بعبارة أخرى ، قبل تبني نفس إستراتيجية النضال الوطني ، والتي كما سبق وأوضحنا في الحلقة السابقة ، ولدت وتبلورت عشوائيا قبل أن تتبناها قيادة الحاج أمين ؟ إذن وقبل محاولة الإجابة ، تعالوا نتوقف قليلا عند بعض الخطوط العريضة لتلك المتغيرات .
1- وطنيا
:
كانت
النكبة قد أضافت لحالة تمزيق جسد الشعب وتفرقه في تيه الشتات ، والعصف بهويته الوطنية
، بعد إلحاق الضفة الغربية بالأردن ، وإخضاع قطاع غزة لحكم عسكري مجحف ، أضافت تمزيق
بناه السياسية ، الثقافية ، الاقتصادية والاجتماعية ، وخلقت واقعا جديدا ، ومخالفا
تماما للواقع القديم . ولم تكتف النكبة بتمزيق الأحزاب السياسية ، كما فعلت بالهيئات
والحياة الثقافية ، بل ووأدت أكثرها ، ولم يتبق غير شتاتي الحزب الشيوعي و جماعة الإخوان
المسلمين ، اللذين تواءمت أجزاؤهما مع الأوضاع الجديدة . ولأن الحياة لا تقبل الفراغ
، فقد التحق الفلسطينيون ، خصوصا منتسبو الأحزاب المنحلة ، في الشتات وفيما تبقى من
فلسطين ، بأحزاب وحركات سياسية جديدة ؛ وطنية ، قومية وإسلامية ، ظلت أجزاء من أحزاب
وحركات عربية عابرة للقطرية . أما الهيئة العربية العليا ، وبعد موت سريري طال لبضع
سنوات ، فذهبت دون أن يترحم عليها أحد ، وحتى دون سرادق عزاء .
وكانت
النكبة قد أطاحت بكامل التركيبة الاجتماعية لأغلبية الشعب ، عقب تجريد الطبقات والفئات
السابقة من ممتلكاتها . خلقت طبقة جديدة ، تتساوى في الفقر وفي انعدام أدنى مقومات
الحياة الإنسانية ، عرفت باسم اللاجئين . صحيح أن التركيبة الاجتماعية ، في الأجزاء
المتبقية من فلسطين ، بقيت على حالها ، لكن إغراقها بالطبقة الجديدة المعدمة من جهة
، وإلحاقها بالتركيبة الاجتماعية للدولة الحاضنة – إسرائيل ، مصر والأردن - ، من جهة
أخرى ، قضى على ما كان لها من قوى ونفوذ . ولأن الحياة لا تعرف السكون ، فقد تواصل
الفرز الاجتماعي في الظروف الجديدة ، ونشأت نواة لطبقة رأسمالية وطنية وكومبرادورية
، حلت محل طبقة الإقطاع وكبار الملاكين المنهارة ، إلى جانب فئة فلاحين ضعيفة ، واصلت
البقاء في ريف الضفة والقطاع .
وكان
منطقيا أن يبحث اللاجئون أولا ، وباقي الفئات الاجتماعية ، عن تعويض لحالة الفقر وكوابيس
المعاناة التي وجدوا أنفسهم فيها ، وأن يجدوا ضالتهم في التعليم الذي وفرته وكالة الغوث
، وطورته لغير اللاجئين الأردن ومصر . وجاءت النتيجة بفئة واسعة من المتعلمين ، الموظفين
والمثقفين ، لعبت أدوار متعاظمة في كل من الحياة السياسية ، الاجتماعية ، الاقتصادية
والثقافية أولا ، ثم الثورية فيما بعد . ومن هذه الفئة الأخيرة ، انحدرت القيادة الجديدة
، والشابة ، للثورة الحديثة . أي من أصول اجتماعية مغايرة لسالفتها ، الهيئة العربية
العليا ، وبرصيد وتأهيل سياسي ومعرفي مغاير تماما .
2- عالميا
:
على الصعيد
العالمي ، وفي فترة أل 18 سنة الجديدة – من 49 إلى 67 - ، والتي بقي الشعب الفلسطيني
فيها بلا قيادة ، تعززت نتائج الحرب العالمية الثانية ، وكان أبرزها : 1- سقطت الإمبراطوريتان
الاستعماريتان ؛ بريطانيا ، صاحبة وعد بلفور ، راعية تطبيقه ، وحليفة وحاضنة الحركة
الصهيونية ، وفرنسا المستعمرة للمغرب العربي ، والحليفة للحركة الصهيونية ، من على
عرشهما العالمي ، متحولتين إلى دولتين من الدرجة الثانية . 2- صعد الاتحاد السوفييتي
، والولايات المتحدة ، كقوتين عظميين ، إلى موقع قيادة العالم . 3- دشنت نتيجة الحرب
بداية انقسام العالم لكتلتي الاشتراكية والرأسمالية ، ووضعت حجر الأساس لنهاية عصر
الاستعمار . 4- نشأ العديد من حركات التحرر الوطني ، ونشب العديد من الثورات الاشتراكية
والوطنية ، والتي تكلل أكثرها بالنجاح . 5- ولم ينقض عقد الستينات حتى كانت عشرات المستعمرات
قد تحولت إلى دول مستقلة ، حظيت بعضوية الأمم المتحدة . وفي العديد منها ،انتقلت حركاته
الوطنية وبنجاح ، من طور الثورة الوطنية إلى طور الثورة الاشتراكية ، وليتسع معها تفهم
قضيتنا الوطنية ، والتضامن معها ، تضامنا واتساعا غير مسبوق . 6 – ولأن الحرب الباردة
نشبت مباشرة عقب انتهاء الحرب ، ولأن العالم انقسم إلى كتلتين اقتصاديتين اجتماعيتين
كبيرتين ، الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي ، والرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة
، كان بديهيا أن تنشأ الأحلاف العسكرية ، وأن ينحاز الاتحاد السوفييتي إلى ، وأن يحتضن
حركات التحرر الوطني ، وأن تحتضن الولايات المتحدة القوى المحافظة ، وأن تنشئ ، تمول
، تسلح ، وتقود الثورات المضادة ، وأن تتخذ من إسرائيل قاعدة متقدمة لها في المنطقة
.
3- عربيا
:
العالم
العربي لم يكن بعيدا عن هذه التطورات . ففي هذه الفترة – من 49 – 67 - انتقلت دول الاستقلال
الشكلي ، في ظل الحماية البريطانية والفرنسية ، إلى الاستقلال الفعلي . وبثورات مجيدة
حققت أكثرية المستعمرات العربية استقلالها . وفيه نشأت ، إلى جانب الأحزاب الشيوعية
وجماعة الإخوان المسلمين ، أحزاب وحركات وطنية وقومية وإسلامية جديدة ، كلها عابرة
للقطرية الوليدة ، كما سبق وأشرنا . وفي هذه الأحزاب والحركات انخرط الفلسطينيون ،
مؤمنين أن طريق الوحدة العربية ، والوحدة الإسلامية ، هو الطريق لتحرير فلسطين . ونجح
ممثلو الأحزاب والحركات القومية في اعتلاء سدة الحكم في كل من مصر ، سوريا ، العراق
والجزائر . ومع أنها كلها ، باستثناء مصر ، تعرضت لسلسلة من الانقلابات العسكرية ،
وبالتالي عدم استقرار الحكم ، إلا أن كل انقلاب كان يستهل بيانه بشعار تحرير فلسطين
، باعتبار قضيته المركزية .
ومثل
كل العالم ، انقسم العالم العربي بين ملتصق بالقائم ، ويسعى للحفاظ عليه ، ولم يجد
مجالا غير اللجوء للحماية الأميركية ، وبين ثائر على هذا القائم ، يسعى إلى تغييره
والتخلص من إرثه الثقيل ، ويمهد الأرض للانطلاق إلى أمام . ومن ثم وجد نفسه ، مضطرا
أو مختارا ، في الجبهة العالمية للتحرر الوطني . ومبكرا جدا أدى هذا الانقسام إلى صراعات
عربية عربية . الطرف الأول وجد في الأحلاف التي دعت لها بريطانيا وأمريكا فرصته ، فيما
وجد الطرف الثاني نفسه مجبرا على رفضها وقيادة الشعوب العربية وحركاتها التحررية لمواجهتها
. وفي هذه المعركة الضارية ، والتي امتدت على مساحة الوطن العربي ، حقق الطرف الثاني
انتصارا مؤقتا ، ساهم مساهمة فعالة في انجاز استقلال من تأخر منها على الاستقلال .
ولأن
فترة مواجهة الأحلاف وإسقاطها شهدت فورانا شعبيا هائلا ، وصعودا للنشاط السياسي غير
مسبوق ، فقد دفع هذا الفوران النظم العربية إلى تجريب تحقيق الوحدة . وحدة بين دول
ترفع لواء التحرر الوطني ، مصر وسوريا أولا ، ثم مصر ، سوريا والعراق ، ثم مصر وليبيا
، ومصر والسودان فيما بعد . كما شهد وحدة مضادة بين مملكتي الأردن والعراق وبمباركة
السعودية وأمريكا بالطبع .....الخ . وجاءت النتائج بفشل كل هذه التجارب ، حتى أن دولتين
– سوريا و العراق - حكمهما حزب واحد هو البعث ، انتقلتا من حالة حسن الجوار ، إلى حالة
الخصومة القاسية .
ولسخرية
القدر شذت وحدة الضفة الغربية مع الأردن ، وهي الوحدة الإلحاقية ، والمطيحة بهوية الشعب
الفلسطيني ، وبحقه في تقرير المصير ، وبدولته المستقلة ، كما أقرتها قرارات الأمم المتحدة
، شذت عن حالة الفشل العامة تلك ، وثبتت . والمدهش ، في الفكر الفلسطيني ، أن القوميين
الفلسطينيين ، ورغم معرفتهم بدور النظام الأردني في ضياع فلسطين ، رأوها ، وباقتناع
تام ، بداية الطريق للوحدة العربية الشاملة ، ولتحرير فلسطين .
4 – إسرائيليا
:
ولقد
جرت العادة فلسطينيا ، وعلى الأخص ما بين 49 و 67 ، ألا نتوقف عند المتغيرات والتطورات
التي حدثت وتحدث في إسرائيل . لماذا ؟ لأن إسرائيل ، من منظور رؤانا الحقوقية ، القانونية
، التاريخية ، الإنسانية ، الثقافية ....الخ ، ليست دولة ، وإنما كيان غاصب ، وحتمية
زواله مؤكدة . وهذه الحتمية هي ما يتوجب أن تكون مدار الاهتمام ، ومقتضى التركيز ،
وليس المتغيرات والتطورات العابرة في ، وعلى كيان عابر .
وكي لا
نستبق الأمور ، ونقول أن هذا الفهم ، فالتعامل مع بند الحق التاريخي في إستراتيجية
النضال الوطني الفلسطيني ، كشف عن عيب ، وعن خلل خطير ، في هذه الإستراتيجية ، تعالوا
نطالع بعض تلك المتغيرات ، والتطورات الكبيرة التي سبقت ولادة القيادة الفلسطينية الجديدة
.
أولاها
أن القيادة الصهيونية ، وقد لاحظت تحول بريطانيا ، عقب الحرب العالمية الثانية ، إلى
دولة من الدرجة الثانية ، وصعود الولايات المتحدة لقيادة العالم الرأسمالي ، لم تتوان
عن الانتقال للحضن الأميركي ، وعن تركيز نشاطها الإعلامي ، الدعائي ، الدبلوماسي
....الخ في الأرض الأمريكية ، مع الحفاظ على قوة تحالفها مع كل بريطانيا وفرنسا ، ودول
أوروبية أخرى . وبهذا التغيير لم تضمن سندا وحاميا دوليا لمشروعها فقط ، بل وتثبيت
وحماية مكتسباتها المنتظرة ، وصيانتها من أي تهديد خارجي .
وثانيها
أن حصول إسرائيل على عضوية الأمم المتحدة ، لم يكسبها الشرعية الدولية ، القانونية
والحقوقية فقط ، بل ووفر لها ضمانات بقائها وتطورها . ولأننا أدركنا خطورة هذه العقبة
الجديدة ، والتي تجعل من مشروع تحرير فلسطين بإزالة إسرائيل ، ضربا من الخيال ، كانت
التعبئة عندنا بالنقمة على الأمم المتحدة ، والرفض للشرعية الدولية ، والذي ساد خطابنا
السياسي قبل الإعلامي .
وثالثها
أن إسرائيل لم تكتف بكل هذه الضمانات الجديدة لتأكيد بقائها وحفظ أمن مكتسباتها ، ونصف
أرض الدولة الفلسطينية في مقدمتها . عملت على تحويل قوتها العسكرية إلى قوة ردع باطشة
، انتقلت بها سريعا من الاعتماد على الجيوش العربية في حفظ أمن حدودها ، من تسلل أصحاب
الأرض ، وأخذ ما يسدون به الرمق ، إلى التهديد والغارات الإجرامية عبر هذه الحدود
.
ورابعها
أنها أخذت على محمل الجد ، تهديدات بيانات الانقلابات العربية بإزالتها . طورت إستراتيجيتها
العسكرية ، استنادا لدعم الحليفة أمريكا ، لتحقيق تفوق مطلق على الجيوش العربية مجتمعة
، وذلك عبر امتلاكها لأحدث التكنولوجيات العسكرية ، اعتمادا على بنيتها الحضارية ،
والتي سبق وأشرنا لها في الحلقة السابقة ، من جهة ، والإسراع ، بمساعدة الحلفاء ، فرنسا
وأمريكا ...الخ ، في بناء وتشغيل مفاعلها النووي ، وامتلاك ترسانة نووية من جهة أخرى
. الأمر الذي جعل أي تفكير مسؤول في إزالتها ، نوعا من مغامرة مهلكة .
وخامسها
أنه وفي نهاية العام 48 انتقلت حيازة الحركة الصهيونية ، ثم إسرائيل ، من 7 % إلى
78 % من مساحة فلسطين . ذلك عنى أن القيادة الصهيونية واجهت فراغا ، احتاجت فيه لمساعدة
النظم العربية في الحفاظ على حدود هذا الفراغ من جهة ، والسرعة في تعبئته السكانية
من جهة أخرى . وكان قانون حق العودة ومنح اليهودي الجنسية لحظة أن تطأ أقدامه أرض فلسطين
، أول ثمارها . ورغم أن تدفقا هائلا في الهجرة قد حدث ، إلا أنه لم يسد غير جزء من
ذلك الفراغ . وجريا على العادة في كل العقود الماضية ، سارعت النظم العربية لمد يد
العون ، وفتح طاقة الفرج . فتحت مزاعم الثأر والانتقام من الهزيمة العربية ، تم اقتلاع
وطرد الجاليات اليهودية من أوطانها العربية ، وإلقاؤها في فلسطين . ومن عجب أننا ،
نحن الفلسطينيين ، قبلنا هذه الجريمة وبررناها . كما قبلتها الشعوب العربية وبررتها
. والأنكى أن حركات تحرر وطنية وقومية ، وتيارات إسلامية شاركت فيها . والكل نظر إليها
كنوع من الثأر لما حل بنا ، ولم ير الحقيقة المرة أن كل النظم العربية ، وبلا أي استثناء
، شاركت فيها ، وأكثرها بتعاون مباشر مع القيادة الإسرائيلية . أيضا تغافلنا ، أو غفلنا
عن حقيقة أن عدد هؤلاء المطرودين من أوطانهم ، 650 ألفا ، قارب عدد لاجئينا ، وأنهم
حلوا بديلا لهؤلاء اللاجئين في بيوتهم وحقولهم . وبكلمات أخرى تمت تعبئة الفراغ السكاني
، نتيجة الفرار الجماعي لأهلها .
وسادسها
أن القيادة الصهيونية استغلت كارثة المحرقة النازية أبشع استغلال . ليس فقط أنها ،
باحتكارها تمثيل الضحايا ، نجحت في إخراس كل الأصوات اليهودية المعارضة للمشروع الصهيوني
، وإلى حد دمغها بالخيانة لذكرى الضحايا ، بل وذهبت أبعد من ذلك ، وإلى حد ابتزاز الضمير
الإنساني ، تحت زعم السكوت على جريمة معاداة السامية . وانتقل هذا الابتزاز إلى طور
أعلى ، بجعل أي نقد لجرائم إسرائيل في فلسطين معادلا لمعاداة للسامية ، وخالقا لمناخ
وقوع محرقة جديدة ، وبأيد عربية هذه المرة .
وسابعها
أن البنية الحضارية التي عملت القيادة الصهيونية عليها في عقود الانتداب ، أهلت إسرائيل
، الدولة الناشئة ، لتحتل مكانة متقدمة بين دول العالم الأول ، فيما بقيت الدول العربية
تستقر قريبا من قاع العالم الثالث . أكثر من ذلك ساعدت هذه البنية المتقدمة ؛ التعليمية
، الثقافية ، القانونية ، الديموقراطية ، السياسية ، الصحية ، الإدارية ، الاقتصادية
، الاجتماعية ......الخ ، على استيعاب وصهر هذا الخليط المتنافر ، عرقيا وثقافيا وإنسانيا
....الخ ، من مهاجري يهود العالم ، في بوتقة المجتمع الجديد ، وليغدو أكثر وحدة وأشد
تماسكا من أي مجتمع عربي محيط .
والآن
:
والآن
، وبعد هذا الاستعراض السريع لبعض ، أهم المتغيرات التي وقعت مابين العامين 49 و67
، نعود للسؤال الذي سبق وطرحناه : هل وعى عرفات ، والقيادة الجديدة ، هذه المتغيرات
، وانعكاساتها على قضيتنا ، وتأثيراتها المتبادلة ، قبل أن يقرر البدء من حيث انتهى
الحاج أمين ؟ هل فكرت مليا ، أو سريعا ، في صلاحية إستراتيجية النضال الوطني ، ومدى
ملاءمتها للأوضاع الجديدة ، أي ذلك التغير الكبير على هدف ومهمات النضال ؟
ففي الفترة
التي سبقت النكبة ، وعلى مدى يزيد على السبعين عاما ، تركز هدف النضال ، على الحيلولة
بين الحركة الصهيونية ، وحليفتها بريطانيا ، وبين تنفيذ مشروع إقامة الوطن القومي اليهودي
في فلسطين . وكان أن تناسبت المهمات ، وتحددت الوسائل والأساليب ، بالقدر الذي تلاءم
مع الوعي الشعبي آنذاك ، مع هذا الهدف . وبعد النكبة وتحقق المشروع الصهيوني ، وقيام
دولة اسمها إسرائيل ، وتشرد الشعب الفلسطيني ، فقد تبدل الهدف من منع تنفيذ المشروع
الصهيوني البريطاني ، إلى تحرير الأرض المحتلة ، وإزالة هذا الكيان الغاصب . أو بعبارة
أخرى ، العودة لما كان عليه الحال في ثلاثينات القرن الماضي . ومع ذلك لم يتم طرح السؤال
: ألم يستلزم تغير الهدف تغيير الإستراتيجية ، ومن ثم تغيير المهمات ، الأساليب ، الوسائل
والآليات ؟
الانطلاقة
:
كانت
التحضيرات للثورة الحديثة قد وقعت أواسط الستينات . وفيها استلهمت القيادة الجديدة
تجربة الحركة الفدائية / قطاع غزة ، العام 55 . وحفز ضرب إسرائيل لهذه الحركة ، وإذلال
مصر ، الرئيس عبد الناصر لإعادة تسليح الجيش ، فخوض معركة كسر احتكار السلاح . وبعد
دحر العدوان الثلاثي ، أو حرب السويس العام 56 ، بدا لنا نحن الفلسطينيين ، أن معركة
تحرير الوطن باتت قريبة . فليست مصر وحدها من نجح في تحديث الجيش ، ونقله من قوة محدودة
العدد والتسليح ، إلى قوة ضخمة ، بل وانضم إليها كل من سوريا والعراق ، وهي معا من
تتجه له الأنظار لإنجاز مهمة التحرير .
ورغم
فشل تجارب الوحدة بين الدول الثلاث ، وانعكاسه على العلاقات بينها ، وعداء النظم العربية
الأخرى ، شديد الشراسة لها ، واصطفافها الواضح مع إسرائيل ، رغم كل ذلك ، بقي الأمل
في وفاء الدول الثلاث لالتزامها بالتحرير قائما . ذلك أن إعلامها واصل المبالغة في
دغدغة حواس الجماهير ، عن تنامي قوة هذه الجيوش ، وفعالية أسلحتها ، واقتراب لحظة الحسم
...الخ . لكن الانتظار طال ، والصبر الفلسطيني أخذ في النفاذ . إذ بدا أن هذه الدول
، خصوصا مصر عبد الناصر ، منشغلة في معالجة مشاكلها الداخلية . ولهذا كله ، جاء استلهام
تجربة الحركة الفدائية ، العام 55 ، لغرض الضغط على مصر عبد الناصر ، وفض حالة السكون
القائمة ، والدفع لبدء معركة التحرير الواقعة على عاتق هذه الدول الثلاث . وكما قلت
في كتابي : " دخول إلى حقل المحرمات " ، وقفت أهداف الثورة الفلسطينية الحديثة
، عند حدود التحريك لا التحرير ، رغم تصدر عبارة التحرير لأسماء الفصائل الفلسطينية
الناشئة .
لكن وقبل
أن تدخل استعدادات الثورة دائرة الفعل ، وقبل أن يكون لها أي دور في التحريك ، انفضت
حالة السكون ، وجاءت حرب حزيران ، العام 67 ، بتلك الهزيمة المروعة للجيوش العربية
المشاركة ، وسقوط فلسطين كلها في قبضة الاحتلال ، ومعها سيناء المصرية والجولان السورية
، وشكلت لحظة الولادة الفعلية للثورة الفلسطينية الحديثة . وكما نعرف كلنا ، نقلت الفصائل
قواها المنظمة من الداخل الفلسطيني إلى الخارج ، ولتباشر منه فعل المقاومة . لكن ،
ورغم الاندفاع الكثيف على عضوية التنظيمات ، فقد توفرت دلالات ، أشكال التنظيم ، الإدارة
والانضباط ، وعمليات العبور والاشتباك ، أن مهمة التحرير بقيت موكلة إلى الجيوش العربية
. ورغم أن عبد الناصر باشر فورا في إعادة بناء الجيش ، تفعيلا لمقولته الشهيرة ؛
" ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها " ، ورغم أن الحليف السوفييتي سارع لمد
حليفتيه ؛ مصر وسوريا ، بما تحتاجانه من أجل إعادة البناء ، إلا أن هدف المقاومة بقي
على حاله ؛ الضغط على مصر وسوريا ، للإسراع في إعادة بناء جيوشها ، واستئناف حرب التحرير
.
وفي
" دخول إلى حقل المحرمات " طرحت السؤال التالي : هل لو تحقق للعرب ، في حرب
حزيران ، أو في أية حرب لاحقة ، نصر كامل على إسرائيل ، يمكن إعادة عقارب الساعة إلى
وراء ، إلى وضع ما قبل نكبة 48 ؟ وأضفت : ولو افترضنا أن حلفاءها ، الولايات المتحدة
، فرنسا وبريطانيا وآخرين ، التزموا موقف الحياد ، وهو المستحيل بعينه ، فماذا عن ترسانتها
النووية ؟ وأجبت أن عرفات كان يعرف ، ومعه كل قادة الفصائل ، أن مثل هذا النصر ، لو
حصل ، لن يفعل أكثر من تحسين شروط العرب في مفاوضات سياسية ، سقفها الأعلى تطبيق قرار
التقسيم ، وإعادة اللاجئين إلى بيوتهم وممتلكاتهم . وفوق ذلك ، فإن إسرائيل ، في حال
تحقق قادتها من هزيمة قد تنذر بالإزالة ، ستلجأ إلى استخدام ترسانتها النووية ، تطبيقا
لخطة شمشون التاريخية المعروفة ؛ علي وعلى أعدائي يا رب . هذا استنتاج كان عبد الناصر
قد أشار له مطلع الستينات ، وجر عليه غضب الشعب الفلسطيني آنذاك ، الأمر الذي اضطره
إلى التفكير ، فإقناع جامعة الدول العربية ، العام 64 ، ومع تحفظات عربية كثيرة ، بإعادة
إحياء القيادة الفلسطينية ، تحت مسمى منظمة التحرير الفلسطينية هذه المرة . حينها ،
وبعد كل ما مرت به الثورة من تطورات ؛ نجاحات وانتكاسات ، لم يطرح في أي من أروقتها
السؤال : إذن ولما كان الأمر كذلك ، فلماذا تم تبني إستراتيجية للنضال ، نشأت وتطورت
في ظروف أخرى مغايرة تماما ؟ ولماذا تمت تعبئة الجماهير على أهداف التحرير ، مستحيلة
التحقيق في الظروف الدولية الجديدة ؟ ومن أي حالق ستسقط الجماهير ، حين تحين لحظة الحقيقة
، ويتم التفاوض على أهداف أدنى بكثير من هدف التحرير الشامل ؟
ربما
وقف التطور الصاعق للثورة ، وراء ذلك التأجيل غير المبرر ، لطرح الأسئلة السالفة والإجابة
عليها . إذ لم تمض سوى شهور قليلة على انطلاقة الثورة ، حتى حظيت بدعم شعبي ، وطني
، عربي وعالمي هائل . كما حظيت بمساندة دولية عربية وعالمية ؛ سياسية ، مادية ، معنوية
وأدبية ...الخ ، غير مسبوقة في التاريخ المعاصر . لكن وبدل استيعاب التطورات الجديدة
، ومنها سقوط مقولة عداء العالم ، والأمم المتحدة لقضيتنا ، أصيبت القيادة ، وفصائلها
، بداء الغرور القاتل لأية ثورة تواجه عدوا بشراسة ولؤم وخبث وقدرات العدو الإسرائيلي
، وحلفائه على امتداد العالم ، والإدارة الأمريكية في المقدمة . وبدل استثمار هذا الدعم
المتنوع ، وطرح إستراتيجية نضال جديدة ، وتعبئة الجماهير على الهدف القابل للتحقيق
، هدف استعادة الدولة الفلسطينية التي أطاحت بها النكبة ، جرى رفع سقف الأهداف . ويا
ليت الأمور وقفت عند هذا الحد . ذلك أن الفعل على الأرض جرى على عكس النوايا والأماني
تماما . كيف ؟ ..........................يتبع في الحلقة القادمة .