جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

مقالات

الإستراتيجية الفلسطينية ......وضرورة التغيير 2/3



عبد المجيد حمدان
2015 / 11 / 23
2/3
الحركة بفعل القصور الذاتي
قلنا أن عرفات ، والثورة الفلسطينية الحديثة ، بدآ من حيث انتهى الحاج أمين ، رغم أن الفاصل الزمني بينهما كان أيضا ،
ويا لغرائب الصدف ، 18 سنة – من 49 إلى 67 - ، تجدد فيها بقاء الشعب الفلسطيني المشتت بلا قيادة . فترة شهدت متغيرات كثيرة وعميقة ؛ وطنيا ، عالميا ، عربيا وإسرائيليا ، أو كما يقال ، مرت فيها مياه كثيرة من تحت الجسر . ومن حقنا الآن أن نسأل : هل وعى عرفات والقيادة الجديدة هذه المتغيرات ، وتأثيراتها المتبادلة ، قبل أن يتخذوا قرارهم بالبدء من حيث انتهى الحاج أمين ؟ أو بعبارة أخرى ، قبل تبني نفس إستراتيجية النضال الوطني ، والتي كما سبق وأوضحنا في الحلقة السابقة ، ولدت وتبلورت عشوائيا قبل أن تتبناها قيادة الحاج أمين ؟ إذن وقبل محاولة الإجابة ، تعالوا نتوقف قليلا عند بعض الخطوط العريضة لتلك المتغيرات .

1- وطنيا :
كانت النكبة قد أضافت لحالة تمزيق جسد الشعب وتفرقه في تيه الشتات ، والعصف بهويته الوطنية ، بعد إلحاق الضفة الغربية بالأردن ، وإخضاع قطاع غزة لحكم عسكري مجحف ، أضافت تمزيق بناه السياسية ، الثقافية ، الاقتصادية والاجتماعية ، وخلقت واقعا جديدا ، ومخالفا تماما للواقع القديم . ولم تكتف النكبة بتمزيق الأحزاب السياسية ، كما فعلت بالهيئات والحياة الثقافية ، بل ووأدت أكثرها ، ولم يتبق غير شتاتي الحزب الشيوعي و جماعة الإخوان المسلمين ، اللذين تواءمت أجزاؤهما مع الأوضاع الجديدة . ولأن الحياة لا تقبل الفراغ ، فقد التحق الفلسطينيون ، خصوصا منتسبو الأحزاب المنحلة ، في الشتات وفيما تبقى من فلسطين ، بأحزاب وحركات سياسية جديدة ؛ وطنية ، قومية وإسلامية ، ظلت أجزاء من أحزاب وحركات عربية عابرة للقطرية . أما الهيئة العربية العليا ، وبعد موت سريري طال لبضع سنوات ، فذهبت دون أن يترحم عليها أحد ، وحتى دون سرادق عزاء .
وكانت النكبة قد أطاحت بكامل التركيبة الاجتماعية لأغلبية الشعب ، عقب تجريد الطبقات والفئات السابقة من ممتلكاتها . خلقت طبقة جديدة ، تتساوى في الفقر وفي انعدام أدنى مقومات الحياة الإنسانية ، عرفت باسم اللاجئين . صحيح أن التركيبة الاجتماعية ، في الأجزاء المتبقية من فلسطين ، بقيت على حالها ، لكن إغراقها بالطبقة الجديدة المعدمة من جهة ، وإلحاقها بالتركيبة الاجتماعية للدولة الحاضنة – إسرائيل ، مصر والأردن - ، من جهة أخرى ، قضى على ما كان لها من قوى ونفوذ . ولأن الحياة لا تعرف السكون ، فقد تواصل الفرز الاجتماعي في الظروف الجديدة ، ونشأت نواة لطبقة رأسمالية وطنية وكومبرادورية ، حلت محل طبقة الإقطاع وكبار الملاكين المنهارة ، إلى جانب فئة فلاحين ضعيفة ، واصلت البقاء في ريف الضفة والقطاع .
وكان منطقيا أن يبحث اللاجئون أولا ، وباقي الفئات الاجتماعية ، عن تعويض لحالة الفقر وكوابيس المعاناة التي وجدوا أنفسهم فيها ، وأن يجدوا ضالتهم في التعليم الذي وفرته وكالة الغوث ، وطورته لغير اللاجئين الأردن ومصر . وجاءت النتيجة بفئة واسعة من المتعلمين ، الموظفين والمثقفين ، لعبت أدوار متعاظمة في كل من الحياة السياسية ، الاجتماعية ، الاقتصادية والثقافية أولا ، ثم الثورية فيما بعد . ومن هذه الفئة الأخيرة ، انحدرت القيادة الجديدة ، والشابة ، للثورة الحديثة . أي من أصول اجتماعية مغايرة لسالفتها ، الهيئة العربية العليا ، وبرصيد وتأهيل سياسي ومعرفي مغاير تماما .
2- عالميا :
على الصعيد العالمي ، وفي فترة أل 18 سنة الجديدة – من 49 إلى 67 - ، والتي بقي الشعب الفلسطيني فيها بلا قيادة ، تعززت نتائج الحرب العالمية الثانية ، وكان أبرزها : 1- سقطت الإمبراطوريتان الاستعماريتان ؛ بريطانيا ، صاحبة وعد بلفور ، راعية تطبيقه ، وحليفة وحاضنة الحركة الصهيونية ، وفرنسا المستعمرة للمغرب العربي ، والحليفة للحركة الصهيونية ، من على عرشهما العالمي ، متحولتين إلى دولتين من الدرجة الثانية . 2- صعد الاتحاد السوفييتي ، والولايات المتحدة ، كقوتين عظميين ، إلى موقع قيادة العالم . 3- دشنت نتيجة الحرب بداية انقسام العالم لكتلتي الاشتراكية والرأسمالية ، ووضعت حجر الأساس لنهاية عصر الاستعمار . 4- نشأ العديد من حركات التحرر الوطني ، ونشب العديد من الثورات الاشتراكية والوطنية ، والتي تكلل أكثرها بالنجاح . 5- ولم ينقض عقد الستينات حتى كانت عشرات المستعمرات قد تحولت إلى دول مستقلة ، حظيت بعضوية الأمم المتحدة . وفي العديد منها ،انتقلت حركاته الوطنية وبنجاح ، من طور الثورة الوطنية إلى طور الثورة الاشتراكية ، وليتسع معها تفهم قضيتنا الوطنية ، والتضامن معها ، تضامنا واتساعا غير مسبوق . 6 – ولأن الحرب الباردة نشبت مباشرة عقب انتهاء الحرب ، ولأن العالم انقسم إلى كتلتين اقتصاديتين اجتماعيتين كبيرتين ، الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي ، والرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة ، كان بديهيا أن تنشأ الأحلاف العسكرية ، وأن ينحاز الاتحاد السوفييتي إلى ، وأن يحتضن حركات التحرر الوطني ، وأن تحتضن الولايات المتحدة القوى المحافظة ، وأن تنشئ ، تمول ، تسلح ، وتقود الثورات المضادة ، وأن تتخذ من إسرائيل قاعدة متقدمة لها في المنطقة .
3- عربيا :
العالم العربي لم يكن بعيدا عن هذه التطورات . ففي هذه الفترة – من 49 – 67 - انتقلت دول الاستقلال الشكلي ، في ظل الحماية البريطانية والفرنسية ، إلى الاستقلال الفعلي . وبثورات مجيدة حققت أكثرية المستعمرات العربية استقلالها . وفيه نشأت ، إلى جانب الأحزاب الشيوعية وجماعة الإخوان المسلمين ، أحزاب وحركات وطنية وقومية وإسلامية جديدة ، كلها عابرة للقطرية الوليدة ، كما سبق وأشرنا . وفي هذه الأحزاب والحركات انخرط الفلسطينيون ، مؤمنين أن طريق الوحدة العربية ، والوحدة الإسلامية ، هو الطريق لتحرير فلسطين . ونجح ممثلو الأحزاب والحركات القومية في اعتلاء سدة الحكم في كل من مصر ، سوريا ، العراق والجزائر . ومع أنها كلها ، باستثناء مصر ، تعرضت لسلسلة من الانقلابات العسكرية ، وبالتالي عدم استقرار الحكم ، إلا أن كل انقلاب كان يستهل بيانه بشعار تحرير فلسطين ، باعتبار قضيته المركزية .
ومثل كل العالم ، انقسم العالم العربي بين ملتصق بالقائم ، ويسعى للحفاظ عليه ، ولم يجد مجالا غير اللجوء للحماية الأميركية ، وبين ثائر على هذا القائم ، يسعى إلى تغييره والتخلص من إرثه الثقيل ، ويمهد الأرض للانطلاق إلى أمام . ومن ثم وجد نفسه ، مضطرا أو مختارا ، في الجبهة العالمية للتحرر الوطني . ومبكرا جدا أدى هذا الانقسام إلى صراعات عربية عربية . الطرف الأول وجد في الأحلاف التي دعت لها بريطانيا وأمريكا فرصته ، فيما وجد الطرف الثاني نفسه مجبرا على رفضها وقيادة الشعوب العربية وحركاتها التحررية لمواجهتها . وفي هذه المعركة الضارية ، والتي امتدت على مساحة الوطن العربي ، حقق الطرف الثاني انتصارا مؤقتا ، ساهم مساهمة فعالة في انجاز استقلال من تأخر منها على الاستقلال .
ولأن فترة مواجهة الأحلاف وإسقاطها شهدت فورانا شعبيا هائلا ، وصعودا للنشاط السياسي غير مسبوق ، فقد دفع هذا الفوران النظم العربية إلى تجريب تحقيق الوحدة . وحدة بين دول ترفع لواء التحرر الوطني ، مصر وسوريا أولا ، ثم مصر ، سوريا والعراق ، ثم مصر وليبيا ، ومصر والسودان فيما بعد . كما شهد وحدة مضادة بين مملكتي الأردن والعراق وبمباركة السعودية وأمريكا بالطبع .....الخ . وجاءت النتائج بفشل كل هذه التجارب ، حتى أن دولتين – سوريا و العراق - حكمهما حزب واحد هو البعث ، انتقلتا من حالة حسن الجوار ، إلى حالة الخصومة القاسية .
ولسخرية القدر شذت وحدة الضفة الغربية مع الأردن ، وهي الوحدة الإلحاقية ، والمطيحة بهوية الشعب الفلسطيني ، وبحقه في تقرير المصير ، وبدولته المستقلة ، كما أقرتها قرارات الأمم المتحدة ، شذت عن حالة الفشل العامة تلك ، وثبتت . والمدهش ، في الفكر الفلسطيني ، أن القوميين الفلسطينيين ، ورغم معرفتهم بدور النظام الأردني في ضياع فلسطين ، رأوها ، وباقتناع تام ، بداية الطريق للوحدة العربية الشاملة ، ولتحرير فلسطين .
4 – إسرائيليا :
ولقد جرت العادة فلسطينيا ، وعلى الأخص ما بين 49 و 67 ، ألا نتوقف عند المتغيرات والتطورات التي حدثت وتحدث في إسرائيل . لماذا ؟ لأن إسرائيل ، من منظور رؤانا الحقوقية ، القانونية ، التاريخية ، الإنسانية ، الثقافية ....الخ ، ليست دولة ، وإنما كيان غاصب ، وحتمية زواله مؤكدة . وهذه الحتمية هي ما يتوجب أن تكون مدار الاهتمام ، ومقتضى التركيز ، وليس المتغيرات والتطورات العابرة في ، وعلى كيان عابر .
وكي لا نستبق الأمور ، ونقول أن هذا الفهم ، فالتعامل مع بند الحق التاريخي في إستراتيجية النضال الوطني الفلسطيني ، كشف عن عيب ، وعن خلل خطير ، في هذه الإستراتيجية ، تعالوا نطالع بعض تلك المتغيرات ، والتطورات الكبيرة التي سبقت ولادة القيادة الفلسطينية الجديدة .
أولاها أن القيادة الصهيونية ، وقد لاحظت تحول بريطانيا ، عقب الحرب العالمية الثانية ، إلى دولة من الدرجة الثانية ، وصعود الولايات المتحدة لقيادة العالم الرأسمالي ، لم تتوان عن الانتقال للحضن الأميركي ، وعن تركيز نشاطها الإعلامي ، الدعائي ، الدبلوماسي ....الخ في الأرض الأمريكية ، مع الحفاظ على قوة تحالفها مع كل بريطانيا وفرنسا ، ودول أوروبية أخرى . وبهذا التغيير لم تضمن سندا وحاميا دوليا لمشروعها فقط ، بل وتثبيت وحماية مكتسباتها المنتظرة ، وصيانتها من أي تهديد خارجي .
وثانيها أن حصول إسرائيل على عضوية الأمم المتحدة ، لم يكسبها الشرعية الدولية ، القانونية والحقوقية فقط ، بل ووفر لها ضمانات بقائها وتطورها . ولأننا أدركنا خطورة هذه العقبة الجديدة ، والتي تجعل من مشروع تحرير فلسطين بإزالة إسرائيل ، ضربا من الخيال ، كانت التعبئة عندنا بالنقمة على الأمم المتحدة ، والرفض للشرعية الدولية ، والذي ساد خطابنا السياسي قبل الإعلامي .
وثالثها أن إسرائيل لم تكتف بكل هذه الضمانات الجديدة لتأكيد بقائها وحفظ أمن مكتسباتها ، ونصف أرض الدولة الفلسطينية في مقدمتها . عملت على تحويل قوتها العسكرية إلى قوة ردع باطشة ، انتقلت بها سريعا من الاعتماد على الجيوش العربية في حفظ أمن حدودها ، من تسلل أصحاب الأرض ، وأخذ ما يسدون به الرمق ، إلى التهديد والغارات الإجرامية عبر هذه الحدود .
ورابعها أنها أخذت على محمل الجد ، تهديدات بيانات الانقلابات العربية بإزالتها . طورت إستراتيجيتها العسكرية ، استنادا لدعم الحليفة أمريكا ، لتحقيق تفوق مطلق على الجيوش العربية مجتمعة ، وذلك عبر امتلاكها لأحدث التكنولوجيات العسكرية ، اعتمادا على بنيتها الحضارية ، والتي سبق وأشرنا لها في الحلقة السابقة ، من جهة ، والإسراع ، بمساعدة الحلفاء ، فرنسا وأمريكا ...الخ ، في بناء وتشغيل مفاعلها النووي ، وامتلاك ترسانة نووية من جهة أخرى . الأمر الذي جعل أي تفكير مسؤول في إزالتها ، نوعا من مغامرة مهلكة .
وخامسها أنه وفي نهاية العام 48 انتقلت حيازة الحركة الصهيونية ، ثم إسرائيل ، من 7 % إلى 78 % من مساحة فلسطين . ذلك عنى أن القيادة الصهيونية واجهت فراغا ، احتاجت فيه لمساعدة النظم العربية في الحفاظ على حدود هذا الفراغ من جهة ، والسرعة في تعبئته السكانية من جهة أخرى . وكان قانون حق العودة ومنح اليهودي الجنسية لحظة أن تطأ أقدامه أرض فلسطين ، أول ثمارها . ورغم أن تدفقا هائلا في الهجرة قد حدث ، إلا أنه لم يسد غير جزء من ذلك الفراغ . وجريا على العادة في كل العقود الماضية ، سارعت النظم العربية لمد يد العون ، وفتح طاقة الفرج . فتحت مزاعم الثأر والانتقام من الهزيمة العربية ، تم اقتلاع وطرد الجاليات اليهودية من أوطانها العربية ، وإلقاؤها في فلسطين . ومن عجب أننا ، نحن الفلسطينيين ، قبلنا هذه الجريمة وبررناها . كما قبلتها الشعوب العربية وبررتها . والأنكى أن حركات تحرر وطنية وقومية ، وتيارات إسلامية شاركت فيها . والكل نظر إليها كنوع من الثأر لما حل بنا ، ولم ير الحقيقة المرة أن كل النظم العربية ، وبلا أي استثناء ، شاركت فيها ، وأكثرها بتعاون مباشر مع القيادة الإسرائيلية . أيضا تغافلنا ، أو غفلنا عن حقيقة أن عدد هؤلاء المطرودين من أوطانهم ، 650 ألفا ، قارب عدد لاجئينا ، وأنهم حلوا بديلا لهؤلاء اللاجئين في بيوتهم وحقولهم . وبكلمات أخرى تمت تعبئة الفراغ السكاني ، نتيجة الفرار الجماعي لأهلها .
وسادسها أن القيادة الصهيونية استغلت كارثة المحرقة النازية أبشع استغلال . ليس فقط أنها ، باحتكارها تمثيل الضحايا ، نجحت في إخراس كل الأصوات اليهودية المعارضة للمشروع الصهيوني ، وإلى حد دمغها بالخيانة لذكرى الضحايا ، بل وذهبت أبعد من ذلك ، وإلى حد ابتزاز الضمير الإنساني ، تحت زعم السكوت على جريمة معاداة السامية . وانتقل هذا الابتزاز إلى طور أعلى ، بجعل أي نقد لجرائم إسرائيل في فلسطين معادلا لمعاداة للسامية ، وخالقا لمناخ وقوع محرقة جديدة ، وبأيد عربية هذه المرة .
وسابعها أن البنية الحضارية التي عملت القيادة الصهيونية عليها في عقود الانتداب ، أهلت إسرائيل ، الدولة الناشئة ، لتحتل مكانة متقدمة بين دول العالم الأول ، فيما بقيت الدول العربية تستقر قريبا من قاع العالم الثالث . أكثر من ذلك ساعدت هذه البنية المتقدمة ؛ التعليمية ، الثقافية ، القانونية ، الديموقراطية ، السياسية ، الصحية ، الإدارية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ......الخ ، على استيعاب وصهر هذا الخليط المتنافر ، عرقيا وثقافيا وإنسانيا ....الخ ، من مهاجري يهود العالم ، في بوتقة المجتمع الجديد ، وليغدو أكثر وحدة وأشد تماسكا من أي مجتمع عربي محيط .
والآن :
والآن ، وبعد هذا الاستعراض السريع لبعض ، أهم المتغيرات التي وقعت مابين العامين 49 و67 ، نعود للسؤال الذي سبق وطرحناه : هل وعى عرفات ، والقيادة الجديدة ، هذه المتغيرات ، وانعكاساتها على قضيتنا ، وتأثيراتها المتبادلة ، قبل أن يقرر البدء من حيث انتهى الحاج أمين ؟ هل فكرت مليا ، أو سريعا ، في صلاحية إستراتيجية النضال الوطني ، ومدى ملاءمتها للأوضاع الجديدة ، أي ذلك التغير الكبير على هدف ومهمات النضال ؟
ففي الفترة التي سبقت النكبة ، وعلى مدى يزيد على السبعين عاما ، تركز هدف النضال ، على الحيلولة بين الحركة الصهيونية ، وحليفتها بريطانيا ، وبين تنفيذ مشروع إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين . وكان أن تناسبت المهمات ، وتحددت الوسائل والأساليب ، بالقدر الذي تلاءم مع الوعي الشعبي آنذاك ، مع هذا الهدف . وبعد النكبة وتحقق المشروع الصهيوني ، وقيام دولة اسمها إسرائيل ، وتشرد الشعب الفلسطيني ، فقد تبدل الهدف من منع تنفيذ المشروع الصهيوني البريطاني ، إلى تحرير الأرض المحتلة ، وإزالة هذا الكيان الغاصب . أو بعبارة أخرى ، العودة لما كان عليه الحال في ثلاثينات القرن الماضي . ومع ذلك لم يتم طرح السؤال : ألم يستلزم تغير الهدف تغيير الإستراتيجية ، ومن ثم تغيير المهمات ، الأساليب ، الوسائل والآليات ؟
الانطلاقة :
كانت التحضيرات للثورة الحديثة قد وقعت أواسط الستينات . وفيها استلهمت القيادة الجديدة تجربة الحركة الفدائية / قطاع غزة ، العام 55 . وحفز ضرب إسرائيل لهذه الحركة ، وإذلال مصر ، الرئيس عبد الناصر لإعادة تسليح الجيش ، فخوض معركة كسر احتكار السلاح . وبعد دحر العدوان الثلاثي ، أو حرب السويس العام 56 ، بدا لنا نحن الفلسطينيين ، أن معركة تحرير الوطن باتت قريبة . فليست مصر وحدها من نجح في تحديث الجيش ، ونقله من قوة محدودة العدد والتسليح ، إلى قوة ضخمة ، بل وانضم إليها كل من سوريا والعراق ، وهي معا من تتجه له الأنظار لإنجاز مهمة التحرير .
ورغم فشل تجارب الوحدة بين الدول الثلاث ، وانعكاسه على العلاقات بينها ، وعداء النظم العربية الأخرى ، شديد الشراسة لها ، واصطفافها الواضح مع إسرائيل ، رغم كل ذلك ، بقي الأمل في وفاء الدول الثلاث لالتزامها بالتحرير قائما . ذلك أن إعلامها واصل المبالغة في دغدغة حواس الجماهير ، عن تنامي قوة هذه الجيوش ، وفعالية أسلحتها ، واقتراب لحظة الحسم ...الخ . لكن الانتظار طال ، والصبر الفلسطيني أخذ في النفاذ . إذ بدا أن هذه الدول ، خصوصا مصر عبد الناصر ، منشغلة في معالجة مشاكلها الداخلية . ولهذا كله ، جاء استلهام تجربة الحركة الفدائية ، العام 55 ، لغرض الضغط على مصر عبد الناصر ، وفض حالة السكون القائمة ، والدفع لبدء معركة التحرير الواقعة على عاتق هذه الدول الثلاث . وكما قلت في كتابي : " دخول إلى حقل المحرمات " ، وقفت أهداف الثورة الفلسطينية الحديثة ، عند حدود التحريك لا التحرير ، رغم تصدر عبارة التحرير لأسماء الفصائل الفلسطينية الناشئة .
لكن وقبل أن تدخل استعدادات الثورة دائرة الفعل ، وقبل أن يكون لها أي دور في التحريك ، انفضت حالة السكون ، وجاءت حرب حزيران ، العام 67 ، بتلك الهزيمة المروعة للجيوش العربية المشاركة ، وسقوط فلسطين كلها في قبضة الاحتلال ، ومعها سيناء المصرية والجولان السورية ، وشكلت لحظة الولادة الفعلية للثورة الفلسطينية الحديثة . وكما نعرف كلنا ، نقلت الفصائل قواها المنظمة من الداخل الفلسطيني إلى الخارج ، ولتباشر منه فعل المقاومة . لكن ، ورغم الاندفاع الكثيف على عضوية التنظيمات ، فقد توفرت دلالات ، أشكال التنظيم ، الإدارة والانضباط ، وعمليات العبور والاشتباك ، أن مهمة التحرير بقيت موكلة إلى الجيوش العربية . ورغم أن عبد الناصر باشر فورا في إعادة بناء الجيش ، تفعيلا لمقولته الشهيرة ؛ " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها " ، ورغم أن الحليف السوفييتي سارع لمد حليفتيه ؛ مصر وسوريا ، بما تحتاجانه من أجل إعادة البناء ، إلا أن هدف المقاومة بقي على حاله ؛ الضغط على مصر وسوريا ، للإسراع في إعادة بناء جيوشها ، واستئناف حرب التحرير .
وفي " دخول إلى حقل المحرمات " طرحت السؤال التالي : هل لو تحقق للعرب ، في حرب حزيران ، أو في أية حرب لاحقة ، نصر كامل على إسرائيل ، يمكن إعادة عقارب الساعة إلى وراء ، إلى وضع ما قبل نكبة 48 ؟ وأضفت : ولو افترضنا أن حلفاءها ، الولايات المتحدة ، فرنسا وبريطانيا وآخرين ، التزموا موقف الحياد ، وهو المستحيل بعينه ، فماذا عن ترسانتها النووية ؟ وأجبت أن عرفات كان يعرف ، ومعه كل قادة الفصائل ، أن مثل هذا النصر ، لو حصل ، لن يفعل أكثر من تحسين شروط العرب في مفاوضات سياسية ، سقفها الأعلى تطبيق قرار التقسيم ، وإعادة اللاجئين إلى بيوتهم وممتلكاتهم . وفوق ذلك ، فإن إسرائيل ، في حال تحقق قادتها من هزيمة قد تنذر بالإزالة ، ستلجأ إلى استخدام ترسانتها النووية ، تطبيقا لخطة شمشون التاريخية المعروفة ؛ علي وعلى أعدائي يا رب . هذا استنتاج كان عبد الناصر قد أشار له مطلع الستينات ، وجر عليه غضب الشعب الفلسطيني آنذاك ، الأمر الذي اضطره إلى التفكير ، فإقناع جامعة الدول العربية ، العام 64 ، ومع تحفظات عربية كثيرة ، بإعادة إحياء القيادة الفلسطينية ، تحت مسمى منظمة التحرير الفلسطينية هذه المرة . حينها ، وبعد كل ما مرت به الثورة من تطورات ؛ نجاحات وانتكاسات ، لم يطرح في أي من أروقتها السؤال : إذن ولما كان الأمر كذلك ، فلماذا تم تبني إستراتيجية للنضال ، نشأت وتطورت في ظروف أخرى مغايرة تماما ؟ ولماذا تمت تعبئة الجماهير على أهداف التحرير ، مستحيلة التحقيق في الظروف الدولية الجديدة ؟ ومن أي حالق ستسقط الجماهير ، حين تحين لحظة الحقيقة ، ويتم التفاوض على أهداف أدنى بكثير من هدف التحرير الشامل ؟
ربما وقف التطور الصاعق للثورة ، وراء ذلك التأجيل غير المبرر ، لطرح الأسئلة السالفة والإجابة عليها . إذ لم تمض سوى شهور قليلة على انطلاقة الثورة ، حتى حظيت بدعم شعبي ، وطني ، عربي وعالمي هائل . كما حظيت بمساندة دولية عربية وعالمية ؛ سياسية ، مادية ، معنوية وأدبية ...الخ ، غير مسبوقة في التاريخ المعاصر . لكن وبدل استيعاب التطورات الجديدة ، ومنها سقوط مقولة عداء العالم ، والأمم المتحدة لقضيتنا ، أصيبت القيادة ، وفصائلها ، بداء الغرور القاتل لأية ثورة تواجه عدوا بشراسة ولؤم وخبث وقدرات العدو الإسرائيلي ، وحلفائه على امتداد العالم ، والإدارة الأمريكية في المقدمة . وبدل استثمار هذا الدعم المتنوع ، وطرح إستراتيجية نضال جديدة ، وتعبئة الجماهير على الهدف القابل للتحقيق ، هدف استعادة الدولة الفلسطينية التي أطاحت بها النكبة ، جرى رفع سقف الأهداف . ويا ليت الأمور وقفت عند هذا الحد . ذلك أن الفعل على الأرض جرى على عكس النوايا والأماني تماما . كيف ؟ ..........................يتبع في الحلقة القادمة .

 
الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *