جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

مقالات أعجبتني

يعقوب قوجمان (ابو سلام) .. كان ابناً باراً للعراق وحمل لواء الحزب الشيوعي العراقي إلى آخر يوم في حياته



لم يأت إلى فلسطين مستوطناً كولونيالياً أو لإيمانه بأن الله وعده بحصة فيها
يعقوب قوجمان (ابو سلام) .. كان ابناً باراً للعراق وحمل لواء الحزب الشيوعي العراقي إلى آخر يوم في حياته
إلياس نصرالله



هذا هو نص الكلمة التي ألقاها إلياس نصرالله مساء السبت 19كانون الأول/ديسمبر 2015 بمناسبة الاحتفال الذي دعت إليه في لندن منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاة الرفيق يعقوب قوجمان
.

أيها الحفل الكريم،
مات يعقوب قوجمان أما أفكاره ومبادؤه فلن تموت

أبدأ بتقديم تعازيّ الحارة إلى عائلة الفقيد، إلى زوجته حبيبية وابنتهما إيتيل وابنهما سلام وعائلته، وأخيه حزقيل وعائلته وحقي ويوري وميلو أبناء داود كوهين وكلير مشعل، وباقي أفراد عائلة قوجمان.
وأعزي في شكل خاص أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، رفاق الدرب الذي لم يحد يعقوب عنه يوماً.
خسارتنا فادحة بفقدان يعقوب قوجمان الذي قلّ أمثاله في المبدأ والكرم والطيبة والإنسانية والتسامح. فحياته كانت حافلة بالنضال على أكثر من صعيد وسنفتقده دائماً.

تعرّفتُ على يعقوب قوجمان عام 1969، أثناء الاحتفال الكبير الذي عقده الحزب الشيوعي في إسرائيل بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان أول تنظيم شيوعي تمّ تأسيسه عام 1919 في الشرق الاوسط، أما الحزب الشيوعي في إسرائيل، فتأسس عام 1948 وضم شيوعيين عرباً ويهوداً رأوا بأنفسهم استمراراً للحزب الشيوعي الفلسطيني وساروا تحت لواء الأممية الذي رفعه ذلك الحزب.
كثيراً ما كنت أسمع الرفاق من حولي يتحدثون عن الدور المهم الذي لعبه يعقوب قوجمان عام 1965 عندما وقع الانقسام التاريخي في الحزب الشيوعي في إسرائيل الذي تزعمه شموئيل ميكونيس وزميله موشيه سنيه، وتبيّن أن عملية الانقسام كانت مؤامرة صهيونية خبيثة استهدفت فصل الرفاق اليهود عن العرب في محاولة لضرب الحزب الشيوعي وإضعافه والاستفراد بكوادره العرب في شكل خاص وحرف الكوادر اليهودية باتجاه الحركة الصهيونية، فوقف يعقوب قوجمان ضد هذه المؤامرة وجنّد إلى جانبه غالبية الرفاق العراقيين اليهود، وقَطعَ الطريق على المتآمرين.

عندما تعرّفت على يعقوب، وجدتُ أن الشخصية العربية العراقية الأصيلة التي ارتسمت في ذهني عن العراقيين تجسّدتْ فيه. كنا نحن الفلسطينيون الذين بقينا في وطننا ممنوع علينا الإلتقاء بإخوتنا العرب في كل الدول العربية وكان مجرد الاتصال بهم بعد نكبة فلسطين عام 1948 جريمة عقوبتها السجن في إسرائيل. كنت أجلس مع يعقوب باستمرار وأتبادل معه الأحاديث التي لم يسبق لي أن سمعتُ بمثلها من قبل عن العراق والحزب الشيوعي العراقي وتضحيات رفاقه الجسام. كان يعقوب يحن إلى العراق ويتحدث باعتزاز عن رفاقه هناك، وكان الألم يعتصره على ما يجري في وطنه ولشعبه. لم يكن تعلـُّق يعقوب بالعراق مسألة عادية، وبدا كما لو أنه عصفور في قفص، يبحث من دون كلل عن مخرج من ذلك الوضع الذي كان فيه.
كان يعقوب في طريقه إلى الاتحاد السوفياتي عندما وصل إلى إسرائيل عام 1949، هارباً من حكم بالإعدام صدر ضده في بغداد، فلم يتمكن من مواصلة رحلته وانضم إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل. فبحث يعقوب عن رفاق الحزب الشيوعي العراقي من اليهود الذين هجّرتهم مؤامرات الحركة الصهيونية ونظام الحكم الرجعي في العراق إلى إسرائيل. فالقصة الكاملة لهذا التهجير القسري لجزء من الشعب العراقي لم تَردْنا بعد. فالحركة الصهيونية أغرَتْ نظام الحكم الملكي في العراق على قبول المال مقابل تهجير اليهود من العراق، وعندما كانت تفشل في مخططها كانت تضع المتفجرات لليهود في أحيائهم وأماكن العبادة لتخويفهم ودفعهم إلى الهجرة إلى إسرائيل، على نحو قضى على أقدم طائفة يهودية في العالم خارج فلسطين وألحق ضرراً فادحاً بالنسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي وتعدديته الدينية والعرقية.

بلغ عدد اليهود في العراق عام 1946 حوالي 135 ألف نسمة، وفقاً لأرقام عراقية شبه رسمية وهو رقم كبير نسبياً بمفاهيم تلك الفترة. وبترتيب من الحكومة العراقية في حينه جرى نقل غالبيتهم من العراق إلى إسرائيل. وسبق ليعقوب أن انتمى في بغداد الى عصبة مكافحة الصهيونية التي شكّلها الشيوعيون العراقيون عام 1946، لشعورهم بخطر هذه الحركة على اليهود وغيرهم. ولم يَسْلمْ الشيوعيون العراقيون اليهود الذين كانوا في السجون من التهجير أيضاً، فجرى نقلهم من نُقرة السلمان وسجون أخرى مباشرة إلى مطار الحبانية، هُجِّروا بعدها إلى إسرائيل عنوة. منهم نعيم سلمان من السليمانية، الذي تعرّفت عليه شخصياً في القدس والذي تعمّد ضابط المخابرات العراقية في مطار الحبانية تشويه جواز سفره العراقي، فشطبَ صفحات الجواز وكتب على كل صفحة بقلم أحمر "مجرم شيوعي"، بحيث لم يعد جواز السفر صالحاً للاستخدام.
كان يهود العراق مندمجين كلياً في المجتمع العراقي وجزءاً أساسياً من مكوناته، ولم يعتبروا أنفسهم أقلية قومية، فشاركوا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية، وبرز من بينهم الأطباء والصيادلة والمهندسون والفنانون والموسيقيون والأدباء والصحافيون وما إلى ذلك من تخصصات. مع ذلك نظر أتباع الحركة الصهيونية في إسرائيل القادمون من أوروبا والغرب نظرة دونية إلى يهود العراق ويهود الدول العربية وإلى اليوم، واعتبروا أنفسهم أرقى وأرفع شأناً منهم.

كان أحد أصدقاء يعقوب المُقربين إليه الرفيق داود كوهن، (أبو حقي) طيب الذكر الذي توفي في لندن في عام 1988، حاملاً في صدره ألماً رهيباً من المعاملة السيئة التي لاقاها عندما جلبوه من العراق إلى إسرائيل. إذ ما أن هبطت المجموعة التي وصل معها داود من يهود العراق إلى أرض مطار اللد، حتى اقتادهم الموظفون الإسرائيليون كالأغنام إلى صالة جانبية، فحشروهم فيها ورشوهم بمادة "الدي دي تي" التي تُستخدم لقتل الحشرات، اعتقاداً منهم بأن يهود العراق يأتون حاملين معهم الأمراض والجراثيم.
وَجَدَ يعقوب أن إسرائيل تقوم على التمييز القومي ضد الفلسطينيين العرب والتمييز الطائفي ضد اليهود الشرقيين ومن ضمنهم يهود العراق. فاليهود الغربيون عوملوا معاملة مُمَيَّزة، أما يهود البلدان العربية، فزُجّ بهم في مخيمات أطلِق عليها اسم "معبروت"، وهي جمع كلمة "معبراة" العبرية التي تعني معسكر السكن الانتقالي أو المؤقت وبيوتها مبنية من الخشب والصفيح، أو زُجّ بهم في أحياء الفقر في المدن الفلسطينية التي أفرغت من أهلها. فسرعان ما اكتشف سكان "المعبروت" أن المسألة لم تكن مؤقتة فعاشوا فيها حتى منتصف عقد الستينات الماضي. فلم يرضَ اليهود العراقيون بهذا الوضع وكانوا أول من انتفض ضد سياسة التمييز الاسرائيلية وذلك في عام 1952 في ما عُرف في حينه "انتفاضة المعبروت". كان يعقوب قوجمان وداود كوهين على رأس هذه الانتفاضة التي وقعت في "معبراة برديس حنا" مع مجموعة من رفاق الحزب الشيوعي العراقي الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في إسرائيل.

في عام 1972 هبّ أبناء أحياء الفقر في القدس الغربية وكان معظمهم من اليهود المغاربة ضد سياسة التمييز التي انتهجتها الحكومة الاسرائيلية ضدهم. فسرعان ما انتشرت شرارة الاحتجاجات لتشمل معظم أحياء الفقر في المدن الاسرائيلية، فانضم إلى هذه الحركة التي عُرفت باسم "الفهود السود" أبناء الجاليات اليهودية الأخرى من العالم العربي ولعب يعقوب دوراً بارزاً في توحيد صفوف هذه الحركة.
في عام 1974 شاركتُ مع أصدقاء لي في افتتاح دار نشر أطلقنا عليها اسم "منشورات صلاح الدين" في القدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، فكان يعقوب قوجمان من أوائل المشجعين لنا والمبادرين للتعاون معنا، فقدّم لنا دروساً في تحدي السلطة الإسرائيلية ونظام الرقابة العسكرية المفروضة على الصحف والإنتاج الفكري والأدبي بموجب قوانين الطوارئ التي خلّفها الاحتلال البريطاني لفلسطين وأبقتها إسرائيل سارية المفعول إلى اليوم. فمن دون حصوله على إذن من الرقابة بادر يعقوب إلى طباعة كتاب "بأم عيني" الذي ألفته المحامية الشيوعية فليتسيا لانغر وهو أول شهادة حية على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الأسرى الفلسطينيين. وشجع يعقوب أخاه حزقيل على تأليف القاموس العبري العربي فطبع يعقوب القاموس في مطبعته الخاصة وقام بتوزيعه.

كما تعاون يعقوب معنا في "منشورات صلاح الدين" فأعدنا طباعة عدد من الكتب لمؤلفين عراقيين، منها: كفاحنا ضد الصهيونية لعبدالرزاق الصافي، والقضية الكردية في العراق لماجد عبدالرضا، وكتاب بعنوان الرفيق فهد من وثائق الحزب الشيوعي العراقي. بل عَلّقْنا في صدر مكتبنا مُلصقاً أهدانا إياه يعقوب يحمل صورة الرفيق فهد والشعار الخالد "وطن حرٌ وشعبٌ سعيد".

في تلك الفترة توطدت علاقتي بيعقوب وصديقه داود (أبو حقي)، فكانا يواظبان على زيارتنا في "منشورات صلاح الدين" ويناقشان معنا مواضيع مختلفة في السياسة والأدب والتراث. كنت أشعر في تلك اللقاءات بأنني أجلس مع رجلين عراقيين لا علاقة لهما بإسرائيل. كان واضحاً من دون أدنى شك أن يعقوب وأبو حقي كانا على قناعة تامة بأنهما موجودان في المكان الخطأ، وكانا يبحثان عن مخرج من ذلك الوضع. ففي عام 1978 جئت في زيارة خاصة إلى بريطانيا، فوجدتُ عائلة أبو حقي موجودة في لندن، فأوضحتْ لي الرفيقة كلير (أم حقي) أنهم قرروا الخروج من إسرائيل لمنع تجنيد أولادهما في الجيش الإسرائيلي. فيما كان يعقوب قوجمان قد أجرى ترتيباً شبيهاً لابنه سلام وابنته إيتيل بالحصول على مِنحتين دراسيتين لهما في الاتحاد السوفياتي أبعدتهما عن إسرائيل. وعندما عُدتُ إلى لندن عام 1979 وأستقرّيتُ فيها وجدتُ أن يعقوب وزوجته حبيبة لحقا بصديقيهما داود وكلير وتركا إسرائيل إلى الأبد.

ليس سراً أنه كانت ليعقوب قوجمان نقاشات مع قيادة الحزب الشيوعي في إسرائيل حول الموقف من قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 ورقمه 181. فيعقوب وافق كغيره من الشيوعيين على قرار تقسيم فلسطين قبل أن يُغادر العراق، فخلافه مع قيادة الحزب الشيوعي في إسرائيل نشأ لاحقاً عندما شعر يعقوب بأن الحزب بدأ يتخلى عن هذا القرار، وبرز التخلي جلياً عقب موافقة الحزب على قرار مجلس الأمن رقم 242 على أثر حرب حزيران/يونيو 1967. من أجل فهم موقف يعقوب قوجمان في هذه المسألة ينبغي العودة قليلاً إلى الوراء.
قبل عام 1948 كان في فلسطين حزبان شيوعيان هما الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تأسس عام 1919 وضمّ في صفوفه شيوعيين عرب ويهود إلى أن خرج منه الشيوعيون العرب عام 1943 وشكلوا عصبة التحرر الوطني الفلسطيني. ودعا كلا الحزبين لإنشاء دولة ديمقراطية في فلسطين يعيش فيها العرب واليهود على قدم المساوة. لكنهما تراجعا في عام 1947 عن هذه الدعوة عقب موافقة الاتحاد السوفياتي على قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين وقَبِلا مثلهما مثل غالبية الأحزاب الشيوعية العربية التقسيم الذي رفضاه سابقاً.
حال صدور قرار التقسيم نشب القتال بين اليهود والعرب في فلسطين. فالحركة الصهيونية، التي شَكّلتْ بمساعدة الجيش البريطاني وحداتاً عسكرية خاصة بها أشبه بجيش منظم، فرضت سيطرتها بسرعة على معظم الجزء الذي خُصِّص لليهود من فلسطين بموجب قرار التقسيم. ولم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق إنجاز شبيه لعدم امتلاكهم قوة عسكرية منظمة أو أسلحة وكانوا من دون قيادة وطنية منذ عام 1937، نظراً لسجن عدد من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية وهروب مفتي القدس الحاج أمين الحسيني وبعض مساعديه من فلسطين بسبب المطاردة البريطانية لهم.

على أثر سيطرتها على الجزء المخصص لها وفقاً لقرار التقسيم سارعت الحركة الصهيونية إلى عقد مؤتمر تأسيسي للدولة اليهودية في تل أبيب في 15 أيار/مايو 1948، بموجب قرار تقسيم فلسطين، فتهافت مندوبو الدول المختلفة لدى الأمم المتحدة على الاعتراف بهذه الدولة تنفيذا لقرار الجمعية العمومية 181، ومن ضمنهم المندوب السوفياتي الذي رأت بلاده أن خروج الاستعمار البريطاني من فلسطين أهم بالنسبة للسياسة الدولية من النزاع فيها بين اليهود والعرب.

وشارك الشيوعيون اليهود من الحزب الشيوعي الفلسطيني في المجلس التأسيسي لدولة إسرائيل واحتلوا مقاعد فيه وغيّروا اسم تنظيمهم وتبنّوا اسم الحزب الشيوعي في إسرائيل، لأنهم رأوا في تأسيس الدولة تنفيذاً لقرار تقسيم فلسطين الذي قبلوه مثلهم مثل الشيوعيين العرب. فيما سادت الفوضى في الجانب العربي فناضل شيوعيو عصبة التحرر الوطني الفلسطيني بلا هوادة من أجل إقناع القيادة الفلسطينية المتمثلة بالحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا في فلسطين من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه والإسراع في إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة في الجزء المتبقي من فلسطين الذي لم تكن إسرائيل احتلته بعد، ففشلوا في مسعاهم، ودخلت الجيوش العربية إلى فلسطين بحجة إنقاذها ومن ضمنها الجيش العراقي، فانتقلتْ الحرب إلى مرحلة جديدة انتهت بالنكبة في صيف عام 1948 واحتلال اليهود، بالإضافة لحصتهم، غالبية الأراضي التي كانت مخصصة للدولة الفلسطينية بموجب قرار التقسيم، وتحوُّل غالبية الشعب الفلسطيني إلى لاجئين ومن ضمنهم غالبية أعضاء قيادة عصبة التحرر الوطني الفلسطيني وكوادرها. ولم يبق من الفلسطينيين في الأراضي التي أصبحت تحت سيطرة إسرائيل بعد انتهاء الحرب في عام 1948 سوى حوالي 160 ألف فلسطيني، من ضمنهم مجموعة من أعضاء عصبة التحرر الوطني الفلسطيني وبعض قيادييها.
فأجرى الشيوعيون اليهود اتصالاتهم بأعضاء العصبة في المدن والقرى التي أصبحت تحت سيطرة إسرائيل، واتفقوا في تشرين الأول/أكتوبر 1948 على توحيد صفوفهم ضمن الحزب الشيوعي في إسرائيل الذي أصبح حزباً مُعترفاً به وله نوابٌ في المجلس النيابي المؤقت. جرى توحيد صفوف الشيوعيين اليهود والعرب ضمن اتفاق واضح على أساس اعتراف الطرفين بقرار التقسيم وبحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وأن يواصل الطرفان العمل في إطار الحزب الشيوعي في إسرائيل إلى أن تصبح الظروف ملائمة لتنفيذ الشق الفلسطيني لقرار التقسيم. هذا هو الأساس الذي بناء عليه وافق ما تبقى من أعضاء عصبة التحرر الوطني الفلسطيني في المناطق التي احتلتها إسرائيل على الانضمام إلى الحزب الشيوعي في إسرائيل وشاركوا في أول انتخابات نيابية للبرلمان التي جرت في 25 كانون الثاني/يناير 1949 وكان توفيق طوبي من ضمن النواب الشيوعيين الذين احتلوا أربعة مقاعد في أول برلمان منتخب في إسرائيل.

يُشار إلى أن الاتحاد السوفياتي الذي اعترف بإسرائيل بموجب الحدود التي أقِرتْ لها في قرار التقسيم وافتتحَ له سفارة في تل أبيب لم يتخلَّ عن قرار التقسيم بعد أن احتلت إسرائيل لاحقاً أجزاء واسعة من الأراضي التابعة للدولة الفلسطينية، وإلى حين قُطِعَتْ العلاقات الديبلوماسية بين البلدين عقب حرب حزيران/يونيو عام 1967 ظل السفير السوفياتي وأعضاء السلك الديبلوماسي في السفارة يرفضون مجرد زيارة المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1948 خارج الحدود المقررة لها بموجب قرار التقسيم، كان موقفهم في هذه النقطة بالذات مبدئي صلب لدرجة أنهم كانوا يرفضون مجرد تلبية الدعوات التي كانت تُوجّه إليهم من فروع الحزب الشيوعي لحضور احتفالاتها في المناطق التي تقع ضمن حدود الدولة الفلسطينية بموجب قرار التقسيم واحتلتها إسرائيل بقوة السلاح عام 1948.

لم يكن مضى وقت طويل على هذا الاتفاق بين الشيوعيين اليهود والعرب عندما وصل يعقوب قوجمان إلى إسرائيل، فبارك هذا الاتفاق وانضم بنفسه إلى صفوف الحزب الشيوعي في إسرائيل. لكن ما حصل أن التسلل الصهيوني إلى داخل صفوف الحزب الشيوعي بدأ يبرز تدريجياً، وبدأت أصوات يهودية داخل الحزب تتحدث علناً عن أن قرار تقسيم فلسطين شيءٌ من الماضي. وروى نعيم الأشهب أحد قادة حزب الشعب الفلسطيني (الشيوعي سابقا) في مذكراته أن فؤاد نصار، زعيم الحزب الشيوعي الأردني صُعِقَ عندما التقى في أواخر عقد الخمسينات الماضي في موسكو مع شموئيل ميكونس سكرتير الحزب الشيوعي في إسرائيل، إذ طلب منه ميكونس أن ينسى قرار التقسيم. وتمادى التيار الصهيوني في الحزب الشيوعي في إسرائيل في الدعوة لاتخاذ مواقف معادية لحركة التحرر الوطني العربية التي كانت تمرّ في أوج نهوضها في عقدي الخمسينات والستينات الماضيين، مما أدى في النهاية إلى الانقسام في الحزب الشيوعي في إسرائيل الذي حصل في عام 1965 وعارضه يعقوب بقوة.

في عام 1967 اعتَدَتْ إسرائيل مجدداً على الدول العربية واحتلت أراضي مصر وسورية والأردن. فسارع المجتمع الدولي إلى التدخل وصدر عن مجلس الأمن الدولي القرار 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في تلك الحرب، على اعتبار أنها كانت حرباً بين إسرائيل والدول العربية المجاورة ولا شأن للفلسطينيين فيها، سوى أن القرار أكد على قرارات الأمم المتحدة السابقة، خاصة حق العودة أو التعويض للاجئين الفلسطينيين. فلاحظ يعقوب قوجمان حدوث انحراف في موقف الحزب الشيوعي في إسرائيل الذي تبنى قرار 242 وبدأ يتجاهل قرار تقسيم فلسطين الذي بناء عليه تم توحيد صفوف الشيوعيين اليهود والعرب عام 1948. فعل الحزب ذلك في شكل غير ديمقراطي من دون طرح هذه المسألة إلى النقاش كما ينبغي في خلايا الحزب ومؤتمراته الدورية ومن دون أن يُتخذ قرارٌ رسميٌ في هيئات الحزب بالتخلي عن قرار التقسيم إلى هذا اليوم.

كان ليعقوب قوجمان موقفاً مختلفاً، إذ رأى أن هذا التخلي عن قرار التقسيم خاطئ ويشكّل رضوخاً لغطرسة القوة الإسرائيلية المدعومة من الغرب وأن إسرائيل أخذت حصتها من قرار التقسيم عام 1948 وأن التخلي عن الشق الفلسطيني لهذا القرار هو شأن فلسطيني وأي تخل للآخرين عنه هو تجاوز للفلسطينيين، وشدّد يعقوب على خطورة التخلي عن قرار التقسيم بالذات في الوقت الذي انتقلت فيه القضية الفلسطينية إلى مستوى جديد على الساحة السياسية في المنطقة وفي العالم، بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وعقب تعاظم المقاومة الفلسطينية بأشكالها المختلفة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية عام 1967، ثم وقوف عرفات عام 1974 على منصة الأمم المتحدة وتذكيره المجتمع الدولي بقرار تقسيم فلسطين الذي يمنح الفلسطينيين الحق في إقامة دولة مستقلة على جزء من وطنهم، وأعقب ذلك في 29 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977 اتخاذ الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارٍ جديدٍ لإحياء قرار التقسيم يَعتَبَر يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ورغم توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ظل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يعتبر أن عدم موافقة العرب على قرار التقسيم عام 1947 كان خطأ ووعد بالعمل على إصلاح هذا الخطأ، وفقاً لتصريح له في عام 2007.

انتقد يعقوب قوجمان تخلي الحزب الشيوعي في إسرائيل عن قرار التقسيم، فاشتد النقاش بينه وبين قيادة الحزب التي كانت تخشى من أن يؤدي الجدل حول هذا الموضوع إلى وقوع انقسام جديد في الحزب، وهو ما كان يحرص يعقوب على عدم وقوعه، فكانت النتيجة أن يعقوب الذي استبشر خيراً بالجبهة التي تشكلت بين حزب البعث والحزب الشيوعي في العراق في عام 1973 وصل إلى قناعة تامة في حينه بأنه من الأفضل له أن يعود إلى العراق.

فيعقوب قوجمان لم يأت إلى فلسطين مستوطناً كولونيالياً أو لإيمانه بأن الله وعده بحصة فيها. بل كان معادياً صلباً للصهيونية العنصرية المقيتة، وتآخى مع الفلسيطنيين الذين التقى بهم في الحزب وخارجه من مختلف أنحاء فلسطين وارتبط معهم بصداقات حتى نهاية عمره واندمج مع الفلسطينيين وقضيتهم بكل جوارحه وبإخلاص شديد.

لم يكن انتقال يعقوب قوجمان وداود كوهن وعائلتيهما إلى لندن ناتج عن يأس وإحباط أو هروبٍ من ساحة النضال في إسرائيل، بل كان عبارة عن انتقال إلى ساحة نضال أوسع، فهم لم يتخلوا عن مبادئهم الشيوعية ومعاداتهم للصهيونية وواصلوا معركتهم ضد السياسة الإسرائيلية ودعم القضية الفلسطينية بلا هوادة من موقعهم الجديد. كان الانتقال إلى لندن بالنسبة لهم بداية لرحلة العودة إلى العراق التي شاءت الظروف ألا تتحقق بانتظار أن يُصبح تحقيقها ممكناً بالنسبة لأبنائهم وأحفادهم لاحقاً.

في لقائي الأول مع يعقوب في لندن في الأسبوع الأول من أيار/مايو 1979، أوضح لي أنه على اتصال بالشيوعيين العراقيين الموجودين في لندن، وسرعان ما تحوّل منزل يعقوب ومكان عمله إلى بؤرة نشاط لفرع الحزب الشيوعي العراقي في بريطانيا. في ذلك اللقاء طلب مني يعقوب أن أتعاون معه في تأسيس المطبعة التي أطلق عليها "لندن برنت أند بابلشينغ سنتر" في شارع كنغز كروس وسط لندن التي ظل يعقوب وكلير مشعل يعملان فيها إلى أن خرجا إلى التقاعد. فاستجبتُ لرغبة يعقوب وساعدتُه على شراء الآلات والأجهزة اللازمة للمشروع، وبذلنا جهداً كبيراً للترويج له. ومنذ البداية كان معظم الأشغال التي حصلنا عليها ذا طابع سياسي، تتعلق بنشاطات الجالية العربية في بريطانيا والتنظيمات الطلابية وحركات المعارضة الفارة من وجه الظلم والاضطهاد في أوطانها الأصلية، مما حوّل مطبعة يعقوب إلى مركز دائم للحركات والأحزاب الشيوعية واليسارية العربية ودول العالم الأخرى.

كان يعقوب يعمل في مشروعه هذا بنشاط منقطع النظير، إيماناً منه بأنه يعمل للقضية التي نذر حياته من أجلها، ألا وهي قضية تحرير العراق من الطغيان.

لن أنسى ذلك اليوم الذي ذهب فيه يعقوب وأفراد عائلته إلى المركز الانتخابي للجالية العراقية في لندن عام 2005 للإدلاء بأصواتهم في أول انتخابات نيابية جرت في العراق عقب سقوط الطاغية صدام حسين. كان يعقوب فرحاً وشعر أنه استرد هويته الحقيقية التي تمسّك بها وناضل من أجلها حتى الرمق الأخير.
ظل يعقوب مُفعماً بالأمل إلى آخر لحظة في حياته بأن يتعافى العراق من الكوارث المتعاقبة التي حلّت به ومؤمناً ببزوغ فجر جديد يَطلع على الشعب العراقي الذي دفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه في مواجهة الأطماع الإمبريالية بثرواته.

رحل يعقوب لكن العراق وشعبه وحزبه الشيوعي باقون إلى الأبد، فهنيئاً لهم بهذا الابن البار للعراق، فنحن واثقون بأن الشعب العراقي لن يبخل علينا بإنجاب أمثاله.
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *