مقالات
الحنين إلى كارل ماركس
أتذكر
أنّني بالكاد أتممت المجلد الأول من كتاب (رأس المال) لـ(كارل ماركس). هناك فصول
في منتهى الصعوبة والغموض، وما دفعني لإكماله هو دعم فصول أخرى رشيقة وممتعة. لن
أزعم الآن أنّني فهمت كلّ ما قرأته آنذاك، لكنّني أؤكّد أنّني لم أخرج بلا شيء،
على الأقلّ عند الحدّ الأدنى من المعرفة الّتي يستفيدها القارئ من قراءة الكتاب
والفلاسفة الكبار؛ فهناك المعرفة المتعلّقة بالنّقاشات المنهجيّة وكيفيّة تسلسل
الأفكار، والمهارة في العرض الّتي يتحوّل فيها السرد التاريخي إلى تفكير تاريخيّ،
والطّريقة الّتي يُنجز بها التّحليل، وتُقدّم بها الحجج.
إضافة إلى
ذلك، أتذكّر أنّ انطباعي الّذي احتفظت به لم يكن مرضيا، فقد اعتقدت أنّ الكتاب
جامد ومتزمت وغامض، عميق ومعقّد وغير ميسّر لقراءة غير المتخصّصين، يغرق في
تأمّلات وتحليلات مجرّدة تحتاج إلى خلفيّة فلسفيّة؛ فكارل ماركس أوّلا وأخيرا
فيلسوف، ثمّ إنّه خبير بالفلاسفة لا سيّما (هيجل) الّذي أقامه ماركس على رجليه
(قدميه) بعد أن كان على رأسه.
ترتّب على
هذا الانطباع أن توقفت عند المجلد الأوّل؛ مبرّرا توقفي بما أعتبره الآن مبرّرا
غير مقبول. قلت لنفسي: يكفي أنّني قرأت المجلّد الأوّل والوحيد الّذي صدر في حياة
ماركس، إذ صدرت بقية المجلّدات بعد موته، جمعها آخرون على أساس ملاحظاته ومسوداته
الّتي وجدوها في مكتبه.
مع تتالي
الأيّام جفّت رغبتي في أن أكمل قراءته، أو أعيد ما قرأته؛ فانطباعي الأوّل تطوّر
إلى أن يكون حاجزا نفسيّا يكبحني كلّما فكّرت أن أقترب منه. وبعد التّطورات
التاريخيّة الّتي أدّت إلى خفوت أو تلاشي تيّارات استلهمت
الكتاب اعتقدت أنّ الوقت قد فات، وأنّ هناك الأهمّ في ما سأقرأ. اعتقدت ذلك كما لو
أنّ الرأسماليّة قد انتهت، وأنّ رأس المال تلاشى. نسيانا أو جهلا بأنّ موضوعه (رأس المال)
ما زال يتحكّم في حياتنا، وأنّ كتاب رأس المال يُقرأ وسيُقرأ ما دامت الرأسماليّة
قائمة، ورأس المال موجودا.
في
الأسابيع الماضية رغبت في قراءة الكتاب، أو على الأقلّ إعادة ما قرأت منه
على سبيل التجربة. رغبت في ذلك لأنّني قرأت الترجمة العربيّة لكتاب بديع يتحدّث عن
حكاية كتاب رأس المال وسيرته. وهو سيرة للكتاب وليس للمؤلّف. ألّف الكتاب (فرانسيس
وين) كاتب سيرة ماركس، وترجمه (ثائر ديب). عنوان الكتاب (رأس المال لكارل ماركس،
سيرة) وعبرت فصول الكتاب الثلاثة عن ذلك بعناوين تشير إلى حمل الكتاب
وولادته وحياته اللاّحقة، وقد صدر عن مكتبة (العبيكان 2007).
يؤكدّ هذا
الكتاب الصغير (159 صفحة) بأنّ كتاب رأس المال يبعث على البهجة، وأنه ليس كتابا
جامدا ومتزمتا كما ظننت، بل هو كتاب نابض بالحياة والفنّ والفكر، يشبه أيّ كتاب
عظيم في الأدب، وهو تحفة ماركس الفنيّة الّتي وهب عمره كلّه لها. إنّه بحث الفنّان
عن رؤية أخرى للواقع، وقد ظلّ نزوع ماركس الهوسي إلى الكمال عشرين سنة هي مدّة
تأليفه، يجلب إلى تحفته الفنيّة ألوانا لم تكن مألوفة أو معروفة من قبل.
يكشف
الكتاب أنّ ماركس تكوَّن أدبيا، وقد قرأ بنهم مخيف جلّ الأعمال الأدبيّة إلى عصره،
وقد دفعته قراءته إلى أن يتصوّر نفسه كاتبا سيكتب شعرا أو مسرحيّة أو رواية. جرب
الكتابة وكان بإمكانه أن يكتب، لكنه لم يرد أن يكتب كتابة عاديّة وعابرة؛ لذلك
تخلى عن رواية كان قد أتمّ كتابتها. وفي لحظة يأس اعترف بعد كلّ تجاربه بخسارته،
وبدا له كما يقول في اعتراف مثير أنّ عالم الفنّ الحقيقي ناءٍ وبعيد مثل “أرض
الجنّ النائية”. بعدها انهار عصبيا، حتّى أنّ طبيبه نصحه بأن يلجأ إلى الرّيف كي
تهدأ أعصابه.
في تلك
الرّحلة عثر على الفلسفة (هيجل)، عثر عليها من غير أن يتخلّى عن
هاجسه
الدّائم(الفنّ). وفيما كان يكتب بحوثا فلسفيّة كان يعود أثناء الكتابة إلى الفنّ
وتاريخه وروائعه؛ يعود لكي تساعده على أن “يبثّ الحياة في تجريد فاقد الحياة”.
تزوّج وقضى شهر زواجه الأول في باريس (شهر العسل). قضاه في غرفة عمل مغلقة: يقرأ ويكتب على
نحو كثيف ومحموم. وفي لندن كان يجلس في قاعة القراءة في المتحف البريطاني من
السّاعة التّاسعة صباحا إلى السّاعة السّابعة مساء. كلّ هذا الوقت، وكلّ هذه
القراءة، وكما كتب في رسائل عديدة لكي “يقدّم عملا من أعمال الفنّ”.
كان يقرأ
ويكتب وينشر وهو غير راض عمّا يفعل. فمرّة يشبّه ما يكتبه بـ “طبيخ
الغجر” لأنّه متشظٍّ وغير متماسك، ومرّة يصف أسلوبه في الكتابة بـ”ملطخ باضطراب
الكبد” لأنّه يكتب وهو مريض بالتهاب خطير ومميت. يكتب ليتمرّن؛ لأنّه يعرف أنّ
خشبته الخام (كتاب رأس المال) في حاجة “إلى مزيد من النّجارة، قبل أن تكون
جاهزة للصقل النّهائي”، وأنّه يلزم أن ينظّف طفله “باللّعق بعد آلام ولادة طويلة”. وحينما
وصل إلى الصفحات النهائيّة من الكتاب، كتبها وهو واقف إلى جوار مكتبه” لأنّ طفحا
من البثور في وركيه جعل الجلوس مؤلما أشدّ الألم”. وبعد أن رأى (إنجلز)
مقاطع من الكتاب وقع عليها آثار دمامل. قال:
-أضفت إلى
المكتوب مسحة حيويّة.
ردّ ماركس:
-آمل أنّ
البرجوازيّة لن تنسى دماملي إلى الممات.
وأضاف:- يا
لهم من خنازير!!
قبل أن
يسلّم النسخة النهائيّة من المجلّد الأوّل، طلب من صديق عمره (إنجلز) أن يقرأ قصّة
(بلزاك) “التحفة المجهولة”؛ تلك القصّة الّتي تحكي عن فنان (فرنهوفر) أمضى
سنوات من عمره وهو يعمل على لوحة، أراد منها أن تحدث قطيعة وقورة على الفنّ
القديم. ما الّذي دفعه إلى ذلك؟ لأنّ ماركس يشبه ذلك الفنّان في تلك
القصّة، الّذي يخشى أن يكون الجهد الشّاق الّذي بذله عبئا وبلا طائل. يضيف (وين):
“لا شكّ أنّ بعضا من هذه الهواجس قد انتابته؛ فشخصيّة ماركس كانت خليطا من الثّقة
العنيفة بالنّفس والتّشكك المبرح فيها”.
أمّا أنا
فأعتقد أنّ ماركس يشبه مالك جوهرة نادرة يريد أن يريها أحد أصدقائه. قبل أن يفتح
العلبة يحذر صديقه قائلا “لا جوهرة بلا عيوب”. كتب في إحدى رسائله إلى إنجلز
“والآن فيما يتعلّق بعملي، سوف أفضي إليك بالحقيقة الواضحة. مهما تكن العيوب
القائمة في كتاباتي، فإنّ مزيّتها تكمن في أنّها كلّ فنّيّ”.
كانت خلفية
ماركس الفنيّة والأدبيّة قابعة خلف جمجمته، تظهر في اللّحظة المناسبة لكي ترطب
جفاف العلم وتجريديته. هكذا يظهر (شايلوك) التّاجر اليهودي في مسرحيّة شكسبير
(تاجر البندقيّة) عند الحديث عن رأس المال، وخطباء كـ(ثيمون الأثني) وهو يخطب عن
الذّهب، “عاهرة مبذولة للجميع” و(سوفوكليس) وهو يتحدّث عن المال:”
المال! المال أسوأ ما اخترعه الإنسان، ذلك ما يخرّب المدن، ويطرد البشر من بيوتهم،
ويفسد الأنفس النبيلة ويغويها” وروائيون كـ(كثربانتس)، فعلماء الاقتصاد
كـ(دونكشوت) الّذي “دفع ثمن تصوّره الخاطئ أنّ الفروسيّة الجوّالة
تتلاءم بالقدر ذاته مع جميع أشكال المجتمع الاقتصاديّة”.
بعد أن صدر
المجلّد الأول، مات ماركس. تتالت المجلّدات الباقية، وفي السنوات والعقود الّتي
تلت شرع قلّة من الباحثين يبحثون عن مكانة كتاب “رأس المال” الأدبية. قال باحث:
إنّه رواية غوطية يستعبد أبطالًها ويستنزفهم وحش خلقوه هم أنفسهم (رأس المال).
وقال باحث ثان: إنّه ميلودراما فكتورية، وهزليّة ساخرة استخدم فيها ماركس تقنيّة
فنيّة كوميديّة قديمة؛ حيث يُعرّى الفارس الأنيق من دروعه لتكشف ملابسه الداخليّة
عن رجل قصير وبدين. وقال ثالث: هو رواية يشبه فيها اقتراح ماركس اقتراح ً(سويفت)
لمداواة بؤس إيرلندا عبر إقناع الفقراء الجائعين بالتهام صغارهم الزائدين.
يقدّم كتاب
(رأس المال لماركس، سيرة) تفاصيل كثيرة وممتعة عن كتاب “رأس المال” اهتممنا منها
هنا بالتّفاصيل الأدبيّة؛ يورد الكتاب أنّ باحثا تتبّع المصادر
الأدبيّة لماركس في المجلّد الأوّل فقط، وفي(450) صفحة هو حجم كتاب (المصادر الأدبية
لماركس) وجد هذا الباحث اقتباسات من واحد وعشرين كاتبا من كتاب البشريّة العظام.
فضلا عن ذلك، وجد إحالات إلى قصص وروايات، وحكايات شعبيّة، وأغان، وأشعار،
وأساطير، وحكم، وأقوال خالدة ومأثورة.
على هذه
الخلفيّة سأعيد قراءة المجلّد الأوّل. سأعيد قراءته على أنّه عمل أدبيّ خالد يجمع
مثلما تجمع الأعمال الأدبيّة الخالدة الفكر والفنّ والأدب. كتاب نقّاش منح حياته
كلّها للجمال. فكتاب رأس المال كالنّقش البديع في المدوّنات الفارسيّة، تلك
المدونات الّتي تورد أنّ النّقش بحث عن الرؤية الإلهيّة للعالم. ولكي يتحقّق
المنظر الفريد، منظر النّقش وهو في الذّاكرة، كان لا بدّ للنّقاش أن ينهار لكي يصل
إلى لحظة العمى.