اللد: سجنٌ عربيّ في مدينة محتلة
انتفضت اللد؛ مواجهات في الشوارع بين الفلسطينيين والمستوطنين، وحرق لسيّارات ومنازل، وشهيد برصاص المستوطنين، وزجاجات حارقة وإطلاق نار. وعندما تبدأ بالبحث عن دوافع هذا الانتفاض، عن ظروف المدينة التي تُسمّى كذبًا «مُختلطة» وظروف سكّانها الفلسطينيين، تسأل نفسك مرارًا مع كُلّ معلومة جديدة، كيف صبرت اللد أصلًا على الانتفاض حتّى عام 2021؟ فالمدينة التي هُجّرت في مجزرة عام 1948، ولم يبق فيها من الفلسطينيين، بحسب المؤرخين، إلّا أقلّ من 1000 شخص، تحمّلت في مراحل عديدة للصراع ثقلَ النتائج في الظلال، دون ضوء يركّز على «غيتوهات» العرب فيها.
لقد تأثّرت اللد، حرفيًا، بكُلّ حدثٍ كبيرٍ في فلسطين؛ تفكيك مستوطنات غزّة، وتوسيع سكّة القطار، واتفاق «أوسلو»، ووصول «الصهيونيّة الدينيّة» إلى مركز النظام السياسيّ الإسرائيليّ، لتسقط على كتفيْ المدينة نتائج تلك الأحداث، ومعها بات السجن أضيق، حتى لم يبق نور في نهاية النفق. ومن ذلك السجن الواقع على هامش الهامش، لا نسمع إلّا أخبارًا من قبيل؛ عملية هدم هنا أو هناك، مصنع يبث سمومه في اللد، إطلاق نار في المدينة، ناتج عن ثأر، يودي بحياة عائلة بأكملها.
هذا السجن الكبير، هذه المدينة المحتلّة، عاشت ولا تزال، عمليّة إبادة يوميّة، بأشكال مُختلفة تبدأ بالتسلسل من إفقار مُمنهج في أحياء على هامش «مدينة اليهود»، يتبعها إجرام مُنظّم يُنهك أهلها، وصولًا إلى ما يُسمّى إسرائيليًا بالتهويد. هذه ليست قصّة مدينة اللد، إنّها قصّة ضحايا احتلال اللد، الذين يعيشون في غيتوهات تبيَّن اليوم أنّها أيضًا كثيرة على العرب بالنسبة إلى «الدولة اليهوديّة»، وتحتاج إلى عمليّة تهويد.
في النكبة، أبقت «إسرائيل» على 1030 فلسطينيًّا في اللد بسبب الحاجة إلى قوّة عاملة لبناء المستوطنة الحديثة.[1] ومع الوقت شهدت المدينة موجات لجوء عربية؛ من النقب في ستينيات القرن الفائت، ومن المناطق المحيطة كيافا والرملة وغيرها، وهو ما أعاد للمدينة بعضًا من طابعها العربي، لكنّه تواجد عربي بقي تحت الحكم العسكري. وهو ما جعل من المُجتمع في اللد بدايةً مجتمع لجوء داخليّ، جزء كبير منه مُجتمع بدويّ تم تهجيره من النقب وتوطينه في «حي المحطّة»، ما وراء سكّة القطار، ليبدأ رويدًا رويدًا بالتحوّل إلى كارثة ما بعد سكّة القطار، فالمدينة اليهوديّة تتوسّع، والسجون العربيّة فيها تضيق.
يتوزع الفلسطينيون في اللد على ثلاثة تجمّعات رئيسية تضاف إلى حي المحطة، البلدة القديمة وحي «شنير» و«رمات أشكول». واستجابة للنمو الطبيعي في عددهم، ولأن سلطات الاحتلال لا تمنحهم تراخيص بناء، يضطرّ الأهالي، في حي المحطة خاصة، إلى البناء دون تراخيص، بناء تسمّيه السلطة غير قانوني، لتغدو أوامر الهدم سيفًا مسلطًا على رؤوس السكّان، وهو ما تؤكّده المُهندسة اللدّاوية بثينة ضابيط بالقول إنّه، وفي اللد وحدها، هناك ما يُعادل 3000 وحدة سكنيّة «غير مرخّصة»، 3000 وحدة سكنيّة يعيش سكّانها وكف الجرّافة فوق سقف البيت.[2] أمّا من يسكنون في أحياء اليهود الهادئة بعض الشيء، فإنّهم من أصحاب الإمكانيّات الماديّة المُتمكّنة، جدًا.
مخيّمات في مُدن اليهود
تعبير «المدن المُختلطة» كذبة إسرائيليّة. في الحقيقة هُناك مُدن مُحتلة تمّت السيطرة عليها في العام 1948، وباتت مُدنًا يهوديّة بكُل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالحيّز العام يهوديّ، والمسرح يهوديّ، والصحيفة يهوديّة، ورئيس البلديّة يهوديّ ونائبه أيضًا يهوديّ، والحراك الثقافيّ يهوديّ أيضًا والطابع العام للمُدن يهوديًا. أمّا العرب، فإنّهم يعيشون إمّا في البلدة العربيّة التي تتوسّع عدديًا لمستوى «مدينة» ولكنّها تظلّ تجمّعًا سكانيًّا أقرب إلى المُخيّم منه للمدينة. وباستثناء الناصرة التي حافظت في مراحل معيّنة على روح مدينة فلسطينيّة بسبب وجود الحركة السياسيّة فيها، وحيفا التي تحوّلت حديثًا إلى فضاء ثقافيّ واجتماعيّ فلسطينيّ مفصول عن اليهوديّ، لا وجود لمدينة فلسطينيّة، ولا لمدينة مختلطة.[3] في هذه المدن المحتلة يعيش العرب في غيتوهات فقيرة على هامش الدولة اليهوديّة، مُجتمعَ عالمٍ ثالثٍ داخل مُجتمع عالم أول اقتصاديّ وتكنولوجيّ حصريّ لليهود. في عكّا، تُسمّى هذه الغيتوهات بالـ«شيكونات» وفي حيفا يعيشون في حي «الحلّيصا»، وفي يافا في حي «العجميّ».
لقد تأثّرت اللد، حرفيًا، بكُلّ حدثٍ كبيرٍ في فلسطين؛ تفكيك مستوطنات غزّة، وتوسيع سكّة القطار، واتفاق «أوسلو»، ووصول «الصهيونيّة الدينيّة» إلى مركز النظام السياسيّ الإسرائيليّ.
أمّا في اللد، فإن الواقع مختلف للأسوأ، ففي الوقت الذي تُشكّل حيفا مثلًا مركز ثقل في منطقتها، وتشكّل عكّا أساس منطقتها أيضًا، تشكّلَت اللدُ كساحة خلفيّة للوحش؛ «تل أبيب». وفيما كانت يافا محط أنظار اليهود للاستيطان البرجوازيّ القريب من المدينة ليلبّي حاجات المستوطنين الاستشراقيّة، وكانت عكّا مقسومة ما بين المستوطنين والفلسطينيين، كانت اللد بمثابة محطّة قطار لليهود؛ يأتيّ إليها اليهوديّ، وعندما تتحسّن ظروفه الاقتصاديّة ينتقل إلى تل أبيب أو يافا أو المستوطنات الكبيرة المُجاورة مثل ريشون ليتسيون وحولون وغيرها من مُدن المركز المُغرية بسبب وضعها الاقتصاديّ الاجتماعيّ المُتقدّم على اللد.
وبناء على هذا، كانت اللد أحد أكثر الأماكن التي شهدت تبدلًا وتنوعًا ديموغرافيًا في سكانها من اليهود، أمّا العرب ففي غيتوهاتهم. عندما استقطبت دولة الاحتلال ما يُسمّى بالـ«قادمين الجُدد» من دول الاتّحاد السوفييتي سابقًا، أسكنتهم في اللد، وعندما أراد شارون تعويض مستوطني غزّة بعد الانسحاب من القطاع أعلن أن اللد ستكون أمام عمليّة «تطوير». أمّا التغيير الأكبر والأساسيّ على العرب في اللد فكان عندما أسكنت المخابرات الإسرائيلية خلال الانتفاضة الأولى العملاءَ الذين لا تستطيع إبقاءهم في الضفة الغربية أو غزة في المدينة.[4] لم تمنح دولة الاحتلال هؤلاء العملاء أوراقًا ثبوتية، ما عنى تحوّلهم إلى مجرّد مرميين في شوارع المدن المحتلة دون عمل ودون عائلات، وهو ما قادهم إلى الانخراط سريعًا في منظومة الإجرام والإدمان، ما زاد من أوضاع الأحياء العربية في المدينة سوءًا.
كانت قوات الاحتلال قد حاوت إسكان هؤلاء العملاء في بلدات عربية أخرى، لكن البنية الاجتماعية لتلك البلدات لفظتهم ورفضتهم، إلا أن اللد لم تستطع، وذلك بسبب التركيبة السكّانية المُعقّدة أصلًا فيها، إذ تجد العشائرية، ومشاكل الثأر، دون إطار اجتماعي سياسي في مساحة يهودية واسعة. وتُشير الباحثة الإسرائيليّة، ليئات ليفي إلى أنّه -بحسب تقديراتها- يوجد في اللد اليوم أكثر من 2000 شخص،[5] دون أي أوراق ثبوتيّة، ما يعنيّ أنهم خارج القانون، والطريق للإجرام المُنظّم قصيرة إن كُنت أصلًا خارج الإطار.
شبح الموت في شوارع «مدينة اليهود»
«اللد بلّشت فيها الجريمة قبل ما مُجتمعنا يغرق كلّه بالجريمة»، يقول الفنّان الفلسطينيّ ابن مدينة اللد، تامر نفّار، في إشارة إلى أن الجريمة والعنف بدآ في اللد قبل أن يغرق المُجتمع الفلسطينيّ في أراضيّ 48 في وحل الجريمة المنظّمة. وهذا ما تؤكده أزمة تجارة المُخدّرات ما قبل العام 2000. ففي هذا العام شهدت أراضي 48 هبّة أكتوبر، التي كانت جزءًا من الانتفاضة الثانيّة. ويقول العديد من الباحثين إن منظومة الجريمة في أراضيّ 1948 جاءت كخطّة إسرائيليّة استهدفت القوى السياسيّة ما بعد أكتوبر 2000، لتفتيت المُجتمع والبُنى السياسيّة فيه. لكن المُلاحظ أن اللدّ قد غرقت في وحل الجريمة إلى جانب الحلّيصا في حيفا خلال التسعينيات. ولا وجود لتجارة مخدّرات دون منظومة يندمج فيها السلاح لحماية المُخدّرات، والسوق السوداء لتبييض أموال المُخدّرات، كما تجنيد شبّان للتجارة والتهريب.
المشروع التوراتيّ في المدينة بات تحت الضوء، وهذا في مجتمع استعماريّ يؤدّي إلى المزيد من الدعم، خاصة من الشركاء في جريمة استيطان الضفّة.
وما زاد الطين بلّة في اللد، كان التركيبة الاجتماعيّة القبليّة التي تم تعزيزها بمشاكل داخليّة بين العائلات وثأر ودم، دائرة من العنف الذي يحتاج إلى تمويل وأسلحة وعمليّات قتل مُستمرة راح ضحيّتها العشرات من أفراد العائلات داخل غيتوهات الموت العربيّة. وباختصار: تحوّلت الأحياء العربيّة في اللد إلى حفر موت، في تنوّع ديموغرافيّ غريب جدًا، يتشكّل أولًا من مجتمع لجوء، وثانيًا من اليهود الذين لا يملكون الإمكانيّات الكافيّة للهروب، وثالثًا مجتمع عملاء «إسرائيل». وعندما يُقال تجارة مُخدّرات، فالحديث لا يدور عن محطّة هنا وأخرى هناك، بل يدور عن تجارة منظّمة، وصلت إلى أنه، في مرحلة من المراحل، كان هناك خط مواصلات عامّة، حافلات صغيرة، تنقل المدمنين من مركز المدينة اليهوديّة إلى حي المحطّة لشراء المُخدّرات والعودة. وبحسب تقديرات الشُرطة الإسرائيليّة، كان في هذه المرحلة وتحديدًا قبل العام 2000، يُباع ما يُعادل 12 ألف حقنة مُخدّر يوميًا. وعندما بادر السكّان لمحاربة الظاهرة، اعتبرتها شُرطة «الدولة اليهوديّة» أخذًا للقانون باليد، فمنعتهم، واستمرّت المأساة.
هذا الواقع لا يُمكن أن يستمر بالبقاء فقط داخل غيتوهات العرب: الإعدامات تحصل وتخرج إلى الشوارع، المُدمنون في سيّارات الأجرة، وتجارة المُخدرات تبدأ بالانتشار على الطريق من وإلى المحطّة. وهو ما دفع اليهود من أصحاب الدخل المُرتفع واليهود من أصول غربيّة، إلى الهجرة عكسيًا من اللد باتجاه مستوطنة «موديعين»، التي تأسست في بداية الألفيّة الثانية. هذا بالإضافة إلى أن حي «رمات أشكول» الذي أقيم لاستقبال «الوافدين الجدد» من دول الاتحاد السوفييتي سابقًا، تحوّل إلى حي «مُختلط»، بعد أن تركه المستوطنون الجدد عند معرفة ظروفه وظروف المدينة. وباختصار، حصلت في اللد هجرة عكسيّة يهوديّة. فارتفعت نسبة السكّان الفلسطينيين من 9% في العام 1950 إلى 20% عام 2000، في الوقت الذي تراجعت فيه نسبة الإسرائيليين من 91% في العام ذاته إلى أقل من 80%. أمّا في العام 2018، فكانت النسبة 30% مُقابل 70%. وهو ما يشير إلى هجرة عكسيّة سببها الأساسيّ الظرف الاقتصاديّ الاجتماعيّ للمدينة المُحتلة.
أمّا العلاقات بين من بقي في اللد، فيقول نفّار إن «الفقر جمعنا»، في إشارة إلى أن من بقي في اللد عمليًا، هُم الفقراء: عرب بطبيعة الحال، ويهود لا يستطيعون الهروب من هذا الوحل لأسباب اقتصاديّة. ولكن العنف الذي غذّته دولة الاحتلال داخل غيتوهات العرب، بدأ يخرج إلى الشوارع الرئيسيّة، يبث الرُعب في كُل من كان يرى العرب يموتون وحدهم، يقتلون أحدهم الآخر، ويراقب من بعيد. حتّى إن اليهود الذين جمعهم الفقر بالعرب وأحياءهم، بحسب نفّار والناشط اللداوي رامي يونس، رأوا أن فقر المدينة ووحلها قد جمعهم بالعرب أمام دولة البيض، ليخوضوا أحيانًا شجارات برفقة «عرب اللد» ضد يهود تل أبيب.
وباختصار، توسّع الغيتو وانتشر في شوارع المدينة اليهوديّة، بكُلّ أمراضه الداخليّة.
«نواة توراتيّة» لقلع البذور العربيّة
مع بدايات الألفيّة الثالثة، وفي هذا الظرف الذي تعيشه اللد، ظهرت فيها «النواة التوراتيّة». وهي الذراع الاجتماعيّ-العسكريّ «للصهيونيّة الدينيّة»، وهي تيّار أيديولوجيّ في الحركة الصهيونيّة، نما وتطوّر في مستوطنات الضفّة الغربيّة وغزّة، كإطار أيديولوجيّ «مُحارِب» قادر على حمل المشروع الاستيطانيّ والقتال لأجله. وللوصول إلى أهدافه، اتخذ هذا التيار قرارين رئيسين بعد مرحلة انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة وإخلاء مستوطناته، الأول كان قرارًا استراتيجيًا بالتغلغل داخل ما يُسمّى «المينستريم الإسرائيليّ»، لأجل منع عمليّة إخلاء مستقبليّة من الضفّة الغربيّة، لأن التيار لاحظ أن ما منعه من إيقاف عملية إخلاء مستوطنات قطاع غزة هو كونه تيارًا نخبويًا أيديولوجيًا لا تيارًا شعبويًا. وكان القرار الثاني التغلغل داخل مؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسات الأمنيّة والخدماتيّة، لأجل إحباط أي مُحاولة إخلاء مستوطنات في حال اتّخاذ القرار السياسيّ.[6] إذ يعتبر هذا التيّار أن عمليّة إخلاء مستوطنات غزّة كانت بمثابة خيانة من قبل الدولة لمشروعهم الاستيطانيّ، وكانوا أمام خيارين: إمّا مُقاطعة الدولة الإسرائيليّة وإمّا التغلغل فيها والسيطرة عليها لاحقًا. وجاء القرار بالسيطرة على الدولة أيضًا لأسباب دينية، إذ يرى هذا التيّار الأيديولوجيّ أن خلاص اليهود سيكون على يد «دولة يقيمها الكفرة»، في إشارة إلى المؤسسين الأوائل للحركة الصهيونيّة.
العنف الذي غذّته دولة الاحتلال داخل غيتوهات العرب، بدأ يخرج إلى الشوارع الرئيسيّة، يبث الرُعب في كُل من كان يرى العرب يموتون وحدهم، يقتلون أحدهم الآخر، ويراقب من بعيد.
أيديولوجيًا، يختلف هؤلاء المستوطنون عن مستوطني حرب 1948 في أن مستوطني النواة التوراتية لا يرون أي إمكانية للتعايش مع العرب في الداخل، ويعتبرون التعامل مع العرب مخالفًا للتوراة والتعاليم الدينيّة. أمّا علاقتهم بالدولة الإسرائيليّة ذاتها، فإنها مركّبة، فبينما يعتقدون أن قيادة الدولة كافرة، فإنهم يسعون في خطّة استراتيجيّة للسيطرة على الدولة لتحقيق الخلاص اليهوديّ.
برز هذا السعي في التحقيقات التي أجرتها المُخابرات الإسرائيليّة في أعقاب حرق عائلة دوابشة، حيث اتضح أنهم قد خططوا لتأجيج الصراع مع العرب، بهدف خلق حالة فوضى تساعدهم على التأثير في المجتمع والسيطرة على الدولة لاحقًا.[7] يموّل هذا التيّار ماديًا من الدولة ومن أموال عدد من الإنجيليين في الولايات المتحدة والعالم،[8] ويدير مجتمعهم ذاته، ويقوم على فكرة التطوع.
في اللد، التقت مجموعة من العوامل مكّنت النوارة التوراتية من دخول المدينة تحت ذريعة «حماية الطابع اليهوديّ»، هذه العوامل هي؛ مُجتمع فلسطينيّ مُفتّت بالجريمة والعملاء وانعدام الإطار السياسيّ، وهجرة اليهود من المدينة مما تسبب بمخاوف للنواة التوراتية من خسارة المدينة للعرب، والعامل الأهم وصول يائير رفيفو، أحد أبناء حزب الليكود، إلى رئاسة بلديّة اللد في العام 2013، والذي مكنها من السيطرة على المدينة، لدرجة اعتبار نموذج النواة التوراتية في اللد النموذج الأكبر والأنجح في كل فلسطين.[9]
أمّا كيف تعمل النواة التوراتية في اللد؛ فيجيب الناشط اللداوي رامي يونس على هذا السؤال قائلًا إن النواة التوراتية وبالتعاون مع رئيس البلدية قد حصلت على 25 دونمًا في حي «رمات إشكول» مُقابل حوالي دولارين. كما أقامت «المدرسة التحضيريّة للخدمة العسكريّة» وفيها يتم استقبال المستوطنين من أبناء الصهيونيّة الدينيّة واستقطابهم قبل الانخراط في الجيش، لتحضيرهم للخدمة الأيديولوجيّة وليس الخدمة العسكرية. وثالثًا، شراء المنازل في قلب الأحياء العربيّة بهدف «تهويدها»، وهي خطّة استراتيجيّة لـ«استعادة الطابع اليهوديّ» الدينيّ طبعًا من المناطق التي حُشر فيها العرب. ويتم شيء شبيه بهذا في يافا وعكّا وحيفا، إذ يأتي أعضاء النواة التوراتية والمستوطنون إلى معازل العرب، ويبدأون بعمليّة «التهويد» في أكثر الأماكن فقرًا وتهميشًا، عن طريق شراء البيوت بأسعار فلكية. تقول المُهندسة بثينة ضابيط إنّ العمارة التي كانت تباع قبلًا بمليون شيكل (217 ألف دينار) صارت الشقة الواحدة فيها تباع بمليون.
يشرح مُسلسل إسرائيليّ وثائقيّ تحت عنوان «اللد بين اليأس والأمل»، كيف كانت اللد وظروفها مع بدء دخول «النواة التوراتيّة». ويظهر المسلسل بدايات المشروع التهويديّ. ويظهر بوضوح أنّه من العام 2013 تحديدًا، فُتحت جميع الأبواب أمام «النواة»، وفي هذا العام تحديدًا دخل رئيس البلديّة الجديد، فقاموا ببناء ثلاثة تجمّعات سكّانية حصرًا لهم، وبما أن الشرطة الإسرائيليّة لا تستطيع حمايتهم في اللد بسبب الظرف الخاص والجريمة وغيرها، قاموا بتنظيم عمليّة حماية ذاتيّة تتشكّل من شركائهم في مستوطنات الضفّة الغربيّة، فأقاموا مؤسساتهم، وحتّى إنهم في المسلسل ذاته يمنعون العرب من استعمال «المركز الجماهيريّ»،[10] وعندما رفضت شركة المراكز الجماهيريّة هذا التمييز ضد العرب بادّعاء أنها حكوميّة، اقترحوا تمويله بشكل خاص والاستحواذ عليه. أمّا أين ينتشرون تحديدًا، فهذا لا يقل أهميّة، إذ بالإضافة إلى السيطرة على الأحياء المُهمّشة، استوطنوا في البلدة القديمة في اللد وجعلوا من أسعار البيوت فيها خُرافيّة، وذلك لمنع تواصل العرب مع منبع التاريخ في المدينة.[11]
اللد بين تهجير وتهجير
بعد نكبة 1948 وتأسيس «الدولة اليهوديّة» وقوانينها ومن ثم النكسة والحكم العسكريّ، بات هُناك نوعان من التهجير: الأول هو التهجير الناتج عن القوانين والحصار في الغيتوهات والقمع والقوانين الإثنيّة، الذي يجعل من حياة الفلسطينيّ في وطنه أشبه بالجحيم في ظل البطالة والفساد والقتل اليوميّ في الشوارع، وهذا ينتشر في المدن المحتلة عام 1948، أمّا الثانيّ فهو التهجير الاستيطانيّ التقليديّ من خلال الآلة العسكريّة والاستيطان بعد الطرد، وينتشر في الضفّة الغربيّة تحديدًا. أمّا ما يحصل في اللد تحديدًا ويُميّزها، فهو التقاء هذين الشكلين من التهجير: التهجير من خلال القانون وما يُسمّى بـ«البناء غير المُرخّص» والفقر والجريمة والموت؛ ومن خلال «النواة التوراتيّة»، وهي الشكل الثانيّ العسكريّ الإرهابيّ غير المخفي. وليس اعتباطًا أن يأتي المستوطنون من الضفّة الغربيّة بعد أن انتفضت اللد لحماية شركائهم في الجريمة.
ستنتهي المواجهة الحالية، وستبدأ معارك من نوع آخر، ستقف الحرب في غزة وتبدأ معركة إعادة الإعمار، وستخفت الهبة الشعبية في المدن الفلسطينية المختلفة، وتعود «إسرائيل» إلى ممارسة الهندسة الاجتماعية والقمع منخفض الحدّة فيها، أمّا اللد، فبعد الهبة سيزيد واقعها سوءًا، إذ هناك دعوات للاستيطان في اللد على يد «النواة التوراتيّة» كنوع من التحدّي. المشروع التوراتيّ في المدينة بات تحت الضوء، وهذا في مجتمع استعماريّ يؤدّي إلى المزيد من الدعم، خاصة من الشركاء في جريمة استيطان الضفّة. وباختصار؛ الهجمة على اللد ستتفاقم، ستغدو أكثر عنفوانيّة وأكثر منهجيّة. إنّها حرب على بقايا النكبة.
- الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق