أبحاث
استشراف المستقبل العربي
الأحد
31 آب (أغسطس) 2014
بقلم:
محمد
أحمد الصغير علي عيد
محاور
الدراسة
تمهيد:
أولاً
: حول مفهوم استشراف المستقبل:
ثانياً
: أهداف الدراسات الاستشرافية:
ثالثاً
: مناهج وأدوات الدراسات الاستشرافية.
رابعأً
: معايير تقسيم طرق البحث فى المستقبل:
خامساً
: الجهود العربية والإسلامية في مجال الدراسات الاستشرافية للمستقبل:
1)
الجهود التوجيهية:
2)
الجهود التقنية في مجال استشراف المستقبل:
3)
أدبيات المستقبليات الإسلامية:
- تمهيد:
أن
يتساءل المرء عن مستقبل الدول العربية والإسلامية لا يعني في اعتقادنا التساؤل عن آفاق
الأنظمة الراهنة وما ستؤول إليه في المستقبل القريب فحسب ولكن أيضاً وبالخصوص، عما
يجب أن تكون عليه هذه الأنظمة في قرن يتنبأ الكل -خبراء وغير خبراء- عن كونه سيكون
قرن المفاجأت العلمية المتلاحقة، والتلاعب بخريطة الجينوم البشري، والهندسات الوراثية،
قرن التكنولوجيا والتقنية وثورة الاتصالات التي ستشهد تطوراً متلاحقاً تنعكس أثاره
على مجتمعاتنا العربية المأزومة، قرن الصراعات والثورات التي لا تهدأ حتى تنال الشعوب
العربية ما تريد من حرية وديمقراطية وحقوق إنسانية.
والحقيقة
أن التساؤل عن مستقبل الشعوب العربية بما تملكه من إمكانيات بشرية وحيوية، يبدو لنا
أكثر موضوعية وواقعية، من التساؤل عن مآلات الأنظمة الحاكمة لها. ذلك لأن هذه الأنظمة
تدور في فلك نظام عالمي أحادي القطب، يستولي على ثروات شعوبها ومقدراتها الحيوية.
ولا
شك أن الأمم القوية هى الأمم التي تدرك ما يحيط بها من تغيرات عالمية، وتعي ما يزخر
به العالم من تناقضات وصراعات، وهذه الأمم المتقدمة تسعى لصنع مستقبلها، أو على الأقل
تسعى للمشاركة بفعالية فى صنعه.
أما
الأمم الضعيفة فهى الدول الغافلة عما يجرى حولها، والتى تترك مستقبلها للمصادفات أو
لأطماع الآخرين، ذلك لأنها لا تمتلك خريطة واضحة المعالم والتضاريس لهذا العالم سريع
التغير، شديد التعقيد. فعندما لا تبادر الأمة إلى صنع مستقبلها، ينشأ فراغ. ومن طبيعة
الأشياء أن يسارع أصحاب المصلحة إلى ملء هذا الفراغ. ومن ثم فإنهم سيصنعون لتلك الأمة
مستقبلها، ولكن على هواهم وحسبما تقضى به مصالحهم. وهذا هو الحاصل في مجتمعاتنا العربية
على العموم وفي بعض المجتمعات الإسلامية أيضاً.
وبطبيعة
الحال، فإن الأمة العربية تعرض مستقبلها لأخطار عظيمة. ذلك لأن مستقبلها في هذه الظروف
الحالكة، لن يخرج عن أحد احتمالين : الاحتمال الأول، أن يأتى هذا المستقبل محصلة لعوامل
عشوائية متضاربة، أى أنه يخضع لاعتبارات من صنع المصادفة، لا من صنع العقل والتدبير
والمصلحة الوطنية والقومية. والاحتمال الثانى : أن تتحكم فى تشكيل هذا المستقبل قوى
خارجية لا يهمها من مستقبل هذه الأمة إلا أن يخدم مصالحها هى، سواء أكانت هذه المصالح
متوافقة مع مصالح الناس فى هذه الأمة أم لم تكن. وفى الحالتين، يصبح مستقبل الأمة العربية
مرهوناً بمقادير خارجية أو مصالح أجنبية، أى أنه يصبح معلقاً بعوامل لا دخل لإرادة
شعوب هذه الأمة ومواطنيها فى تشكيلها أو التأثير فيها. وهذا بالقطع وضع بائس، يرثى
له حال أمتنا العربية، التي تمتلك الكثير من العقول والموارد البشرية، ناهيك عن الثروات
والأموال الطائلة المستثمرة في بنوك سويسرا وغيرها من دول أوروبية وأمريكية متقدمة.
وإذا
أردنا أن نشارك بفاعلية فى صنع مستقبلنا العربي والإسلامي، فينبغي علينا إذن أن نمتلك
الخريطة الواضحة لهذا العالم الجديد، وأن نمتلك البوصلة التى نهتدى بها فى التعرف على
الطريق إلى المستقبل الذى نريده - وهو ما يفترض ضمناً تحديد ملامح هذا المستقبل المرغوب
فيه من جانبنا. وهنا يصبح السؤال ميسوراً : وما الطريق إلى امتلاك تلك الخريطة وتلك
البوصلة، وما السبيل إلى اختيار الطريق الذى يفضى إلى المستقبل الذى نطمح إليه، وكيف
يمكن اكتشاف ملامح هذا المستقبل المنشود .
والجواب
عن كل هذه الأسئلة يكمن فى عبارة واحدة : الدراسات المستقبلية، أو بحوث استشراف المستقبل.
ومعلوم
أن الدراسات المستقبلية ميدان جديد من ميادين المعرفة يساعدنا في إعادة تشكيل مجتمعاتنا
العربية والإسلامية بشكل أكثر مرونة وحراكية، من خلال الرؤى والتصورات القائمة على
منهجيات علمية موضوعية.
ولا
يزال يشهد ميدان الدراسات المستقبلية تطورات متلاحقة فى منهجياته وأساليبه وتطبيقاته
حتى صارت له مكانة مرموقة بين سائر ميادين المعرفة، ولم يعد ثمة حرج فى الإشارة إلى
هذا الميدان باعتباره علما من العلوم الاجتماعية، هو علم المستقبليات.
ولكن
حظ الدول النامية بوجه عام، والدول العربية بوجه خاص، من الدراسات المستقبلية يسير
للغاية، واقبالها عليه ضئيل جداً. ولذلك مازالت مساهمة هذه الدراسات فى عمليات التخطيط
وصناعة القرارات ضعيفة، إن لم تكن غائبة كلية فى هذه الدول.
ومن
هنا، تظهر أهمية التعرف على منطلقات هذا العلم الاستشرافي، وتوسيع دائرة المعرفة بهذا
النوع من الدراسات المستقبلية فى بلادنا، وبما تهدف إلى تحقيقه من أغراض، وبما تتبعه
من منهجيات وأساليب للبحث فى المستقبل، وبصلتها بعمليات التنمية والتخطيط فى سياق السعى
للخروج من التخلف وتحقيق التنمية الشاملة، خصوصاً بعد الأحداث الجارية على الساحة العربية
والتي تعرف بالربيع العربي.
أولاً
: حول مفهوم استشراف المستقبل:
يقصد
بمصطلح الاستشراف الاستقصاء والتوقع أو التحري والاستكشاف والتصور والتنبؤ. والاستشراف
في اللغة من الفعل استشراف أي علا وانتصب وأستشرف الشيء أي رفع بصرة ينظر اليه. وجاء
في لسان العرب: “تشرف الشيء واستشرفه: وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس حتى
يبصره ويستبينه”(1).
والاستشراف
يتضمن التطلع والنظر وحديث النفس والتوقع. وهو أول ما نبدأ به، والتشوف هو الاستجلاء
من خلال التطلع والنظر الشامل وفيه معنى الارتفاع بغية الإحاطة بالنظر. فالتشوف إذن
قرين الاستشراف، وهو خطوة تالية له في الدراسات المستقبلية، يصل الدارس من خلاله إلى
الاستجلاء بعد أن يكون قد تطلع وأمعن النظر، والرؤية هي ذروة عملية الدراسة المستقبلية
وهي النظر بالعين والقلب، والنظر بالعين والعقل وإدراك المرئي بطرق عدة هي … الحاسة
والتخيل والتفكر والعلم(2).
وبذلك
نستطيع القول بأن استشراف المستقبل “هو اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صوغ مجموعة من التنبؤات
المشروطة، والتي تشمل المعالم الرئيسة لأوضاع مجتمع ما، أو مجموعة من المجتمعات، وعبر
فترة مقبلة تمتد قليلا لأبعد من عشرين عاما، وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي
والحاضر، ولاستكشاف أثر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع. بهذا الشكل فإن استشراف المستقبل
لا يستبعد أيضا إمكانية استكشاف نوعية وحجم التغيرات الأساسية الواجب حدوثها في مجتمع
ما، حتى يتشكل مستقبله على نحو معين منشود(3).
ويعرف
استشراف المستقبل أيضاً بأنه اجتهاد علمي منظم يهدف إلي صياغة مجموعة من التوقعات المشروطة
أو السيناريوهات التي تشمل المعالم الريئسية لمجتمع ما. وينظر اليه بأنه”جهد استطلاعي
الأساس يتسع لرؤى مستقبلية متباينة ويسعى لاكتشاف وتكشف العلاقات المستقبلية “المحتملة”
أو “الممكنة” بين الأشياء والنظم والأنساق الكلية والفرعية في عالم ينمو ويتغير بسرعة
شديدة. وأيضاً هو التبصر بالشؤون المستقبلية لمجتمع معين من حيث موقعة في المجتمع الدولي،
وبالتالي ما يؤول إلية حال البشر في ذلك المجتمع.
والاستشراف
ليس مجرد رسم تخيلات مستقبلية يرضي بها الإنسان النزعة البشرية التوقة إلي كشف ستر
الغيب ، وهو لا يقف عند حد أمال وأعمال الفكر والخيال واستخدام الحساب لقياس برامج
المستقبل وبلورة نقاط الالتقاء التي تميز بين الأساسي والثانوي والتي تختار ماهو علمي
مما هو دون ذلك، أن الاستشراف يتجاوز ذلك إلي تناول مشاهد المستقبل وتوقعاتة المطروحة
في أذهاننا وإلي إعادة قراءة الواقع بكل جوانبة الحضارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية
بالقدر الذي يخدم أمكانية التغير علي ما يقدر أنة وضع مرغوب في المستقبل وعلي آليات
الوصول إليه.
ويعتبر
عالم الاجتماع الأمريكي جيلفيلان (s.gilfillain) أول باحث استخدم تعبير علم المستقبل science
of the future في أطروحة تقدم بها إلى جامعة
كولومبيا لنيل درجة الدكتوراه عام 1920 وكان قد استخدم في مقال له عام 1907 مصطلح mellontology
وهي كلمة لاتينية تعني أحداث المستقبل، كما أطلقه عام 1943 عالم السياسة
الألماني أوسيب فلختايم ossip felecchtheim
الذي كان يدعو لتدريس المستقبليات منذ عام 1941، وكان يعني به إسقاط
التاريخ على بعد زمني لاحق.. وقد انتقد العالم الهولندي فريد بولاك fred
bolak هذا المصطلح على أساس أن المستقبل مجهول فكيف نرسي
علما للمجهول(4).
ويعرف
أحمد زكي بدوي «علم المستقبل» بأنه العلم الخاص بالتنبؤ بالأوضاع السياسية والاقتصادية
والاجتماعية في المستقبل. ويستند في دراستها على الاستقراء والاستنباط، بجمع الوقائع
الفردية المتعددة ليستخلص منها المبادئ العامة التي تحكمها، ويخرج بعد ذلك بالصور التي
سيكون عليها المجتمع في الأجيال القادمة(5).
ويجمع
المنشغلون بالدراسات المستقبلية على أنها اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صوغ مجموعة من
التنبؤات المشروطة تشمل المعالم الرئيسية المجتمع أو المجتمعات عبر فترة عقدين أو أكثر،
وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الحاضر والماضي لاستكشاف أثر دخول عناصر مستقبلية
على المج تمع أو المجتمعات، وقد سماها البعض نمط علمياً في التنبؤ يعتمد الحساب، أو
أكد الجميع على أنها تخضع لشروط تنأى بها عن أن تكون عملاً خيالياً طوبوياً، لكن المتأمل
في هذا التحديد للدراسات المستقبلية يلاحظ وجود حذر من اعتبارها علماً تجريبياً اختبارياً
مع حرصها على اعتماد المنطق الاختباري، لأنها تتطلب في نهاية المطاف رؤية تتبلور، يكون
للفطنة والحدس دور في بلورتها، وتقوم على اعتماد النظرة الشاملة، وقد آثر (آلفين توفلر)
“أن يصفها مؤخراً، بعد سنوات طويلة من الاشتغال فيها بأنها”فن وليست شكلا هندسي“(6).
وأمام
تضارب المصطلحات والمفاهيم في هذا الحقل”كان علينا أن نبحث عن مسمى نستخدمه للتعبير
عن هذه النظرة الأبعد مدى، والتي فضلنا لها كلمة (استشراف المستقبل) وسوف يعفينا هذا
كثيراً من مشكلة الترجمة عن مصطلحات أجنبية تثير مشكلات عدم الاتفاق، أكثر مما تفيد
به القارئ في استدلاله، وبهذا الشكل نحصر اهتمامنا في مدى زمني معين ومنهجية معينة.
ويتميز
“منهج التحليل المستقبلي الاستشرافي”، وهو منهج مركب لا يسعى إلى تنبؤ أو تخطيط، بل
يقوم بإجراء مجموعة من التنبؤات المشروطة أو المشاهد التي تفترض الواقع تارة والمأمول
فيه تارة أخرى، دون أن تنتهي إلى قرار بتحقيق أي من هذه الصور، فهذا أمر يدخل في حيز
التخطيط، والقصد هو اطلاع القوى الفاعلة في المجتمع على متطلبات تحقيق إحدى الصور المأمول
فيها.
ويشير
(ريتشارد سلوتر) إلى أن عملية “الاستشراف تقع ضمن القابليات الفطرية لدماغ الإنسان،
وإن كل فرد لديه القدرة على التفكير حول المستقبل وما إن يدرك الأفراد ذلك، حتى يبدأوا
بغمر أنفسهم في مفاهيم وطرق وأساليب المستقبليات، قبل أن يبدأوا باستخدام المستقبليات
أو طرق الاستشراف في أعمالهم، أما المواقع الدائمة في المؤسسة فيجب إنشاؤها لتشجيع
استخدام الاستشراف في المؤسسة بحيث يصبح القاعدة في العمل الداخلي، وسيتم الوصول أخيراً
إلى الاستشراف الاجتماعي وذلك عندما يكون هناك عدد كاف من المؤسسات تستخدم القدرة على
الاستشراف(7).
ثانياً
: أهداف الدراسات الاستشرافية:
ينبغي
علينا إدراك أمرين أساسين فيما يتعلق بأهمية الدراسات المستقبلية: أولهما، أن الدراسات
المستقبلية باتت من الحتميات، أى أنها صارت دراسات ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها.
وهى لا تجرى (كما كان يظن البعض فى فترة سابقة) من باب الرفاهية الثقافية أو التسلية
الذهنية فى الدول الغنية وحدها. بل إنها ضرورية للدول كافة على اختلاف حظوظها من الغنى
أو الفقر، ومن التقدم أو التخلف، وذلك لما سبق إيضاحه من اعتبارات متصلة بالعالم الجديد
وما يحفل به من تغير سريع واضطراب شديد ولا يقين متزايد، فضلاً عن أهميتها لترشيد عملية
صناعة القرارات(8).
ولا
شك أن الدراسات المستقبلية تشهد نمواً متسارعاً فى الدول المتقدمة التى تصنع العلم
وتنتج التكنولوجيا، فضلاً عن امتلاكها أسباب التقدم الإقتصادى والقوة العسكرية. كما
أن الدول الرائدة فى هذا النوع من الدراسات ليست من دول التخطيط المركزى، بل هى دول
رأسمالية تسير على نظام اقتصاد السوق مع درجات متفاوتة من التدخل والتوجيه الحكومى.
ويندر أن تجد دولة رأسمالية متقدمة لا تستند إلى دراسات لاستشراف المستقبل فى صنع قراراتها
الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية. كما يندر أن تجد شركة كبرى، وبخاصة إذا كانت تنتمى
إلى فصيلة الشركات متعددة أو متعدية الجنسيات، لا يشتمل بنيانها التنظيمى على مركز
أو قسم للدراسات المستقبلية والتخطيط الإستراتيجي. وإذا كان الأمر كذلك عند الأقوياء
والمتقدمين من الدول والشركات الكبرى، فإن الدول النامية التى لم تزل تسعى إلى بناء
نفسها وتنمية اقتصادها والعثور على موقع أفضل لها على خريطة تقسيم العمل الدولى فى
حاجة أشد إلى القيام بالدراسات المستقبلية، لاسيما إذا كانت من الدول ذات الموقع الاستراتيجى
المتميز أو المكانة السياسية البارزة التى تجعلها مستهدفة من جانب القوى الكبرى فى
العالم، فيحاولون التأثير على قراراتها وتوجهاتها ومستقبلها.
أما
الأمر الثانى الذى يتعين إدراكه فى شأن الدراسات المستقبلية، فهو أن هذه الدراسات،
وإن كانت تتطلب بالضرورة قدراً من الخيال والقدرة الذاتية على التصور المسبق لما هو
غير موجود أو غير معروف الآن، إلا أن أنشطتها تختلف نوعياً عن الأنشطة التى تقع فى
حقل الخيال العلمى أو فى ميدان التنجيم والرجم بالغيب. فما يطلق عليه اليوم الدراسات
المستقبلية إنما يتمثل - على العموم - فى دراسات جادة تقوم على مناهج بحث وأدوات درس
وفحص مقننة أو شبه مقننة، وتحظى بقدر عالٍ من الاحترام فى الأوساط العلمية، وتنهض بها
معاهد ومراكز بحثية وجمعيات علمية ذات سمعة راقية(2).
وبطبيعة
الحال، فليس الهدف المباشر للدراسات المستقبلية هو التخطيط فقط، أو وضع الاستراتيجيات،
وإن كانت هذه الدراسات تفيد دون شك فى إعداد العدة لوضع الخطط أو رسم الاستراتيجيات.
إذ أنها توفر لأهل التخطيط والاستراتيجيات جانباً مهماً من القاعدة المعرفية التى تلزم
لصياغة الاستراتيجيات ورسم الخطط. فكل عمل تخطيطى جاد غالباً ما يكون مسبوقاً بنوع
ما وبقدر ما من العمل الاستشرافى (طرح بدائل أولية غالبا لمعدلات مختلفة للنمو والتراكم).
ولكن شتان بين أن يأتى العمل الاستشرافى كمقدمة سريعة للعمل التخطيطى، وبين أن تتاح
الفرصة لكى ينمو كعمل قائم بذاته، يأخذ وقته اللازم ويستعمل المنهجيات المتعارف عليها،
وتستوفى مقوماته.
كذلك
ليس الهدف من الدراسات المستقبلية هو الإنباء بالمستقبل، بمعنى تقديم نبوءات، أى تنبؤات
غير شرطية وغير احتمالية بالأحداث المستقبلية. فكل ما تقدمه الدراسات المستقبلية من
مقولات حول المستقبل إنما هى مقولات شرطية واحتمالية. ولذا تتعدد المقولات أو الرؤى
أو السيناريوهات المستقبلية التى يقدمها الاستشراف، نظراً لتعدد الشروط والاحتمالات
التى تحيط بالحدث أو الأحداث المستقبلية موضع الاهتمام. وهذا الوضع ناشئ بطبيعة الحال
مما تتسم به الأحداث المستقبلية من” لا يقينية “.
ومما
سبق نستطيع القول، أن غاية الدراسة المستقبلية هو توفير إطار زمنى طويل المدى لما قد
نتخذه من قرارات اليوم . ومن ثم العمل، لا على هدى الماضى، ولا بأسلوب” من اليد إلى
الفم “وتدبير أمور المعاش يوماً بيوم، ولا بأسلوب إطفاء الحرائق بعد ما تقع، بل العمل
وفق نظرة طويلة المدى وبأفق زمنى طويل نسبياً. فهذا أمر تمليه سرعة التغير وتزايد التعقد
وتنامى” اللايقينى “فى كل ما يحيط بنا، وذلك فضلاً عن اعتبارات متصلة بالتنمية والخروج
من التخلف لمجتمعات أمتنا العربية والإسلامية.
ثالثاً
: مناهج وأدوات الدراسات الاستشرافية:
تحقق
الدراسات المستقبلية ما أشرنا إليه من أغراض من خلال إنجاز عدد من المهام المحددة.
وقد يكون من المناسب أن نبدأ بالتعريف الذى قدمه أحد أعلام الدراسات المستقبلية”ويندل
بيل “للمهام التى ينشغل بها حقل الدراسات المستقبلية، وهى :” اكتشاف أو ابتكار، وفحص
وتقييم، واقتراح مستقبلات ممكنة أو محتملة أو مفضلة “. وبشكل أكثر تحديداً ، يذكر”
بيل “تسع مهام محددة للدراسات المستقبلية ، وهى(3) :
1. إعمال الفكر والخيال فى دراسة مستقبلات ممكنة
possible
futures، أى بغض النظر عما إذا كان احتمال وقوعها كبيراً
أو صغيراً ؛ وهو ما يؤدى إلى توسيع نطاق الخيارات البشرية.
2. دراسة مستقبلات محتملة probable
futures، أى التركيز على فحص وتقييم المستقبلات الأكبر
احتمالاً للحدوث خلال أفق زمنى معلوم، وفق شروط محددة وغالبا ما تسفر هذه الدراسة عن
سيناريوهات متعددة.
3. دراسة صور المستقبل images
of the future، أى البحث فى طبيعة الأوضاع المستقبلية المتخيلة
وتحليل محتواها، ودراسة أسبابها وتقييم نتائجها.
4. دراسة الأسس المعرفية للدراسات المستقبلية، أى
تقديم أساس فلسفى للمعرفة التى تنتجها الدراسات المستقبلية، والاجتهاد فى تطوير مناهج
وأدوات البحث فى المستقبل.
5. دراسة الأسس الأخلاقية للدراسات المستقبلية. وهذا
أمر متصل بالجانب الاستهدافى للدراسات المستقبلية، ألا وهو استطلاع المستقبل أو المستقبلات
المرغوب فيها.
6. تفسير الماضى وتوجيه الحاضر. فالماضى له تأثير
على الحاضر وعلى المستقبل، والكثير من الأمور تتوقف على كيفية قراءة وإعادة قراءة الماضى.
7. إحداث التكامل بين المعارف المتنوعة والقيم المختلفة
من أجل حسن تصميم الفعل الاجتماعى. ذلك أن معظم المعارف التى يستخدمها دارسو المستقبل
من أجل التوصية بقرار أو تصرف ما هى معارف تنتمى إلى علوم ومجالات بحث متعددة لها خبراؤها
والمتخصصون فيها. ولذلك يطلق على الدارسات المستقبلية وصف الدراسات التكاملية integrative
أو الدراسات العابرة للتخصصات transdisciplinary.
8. زيادة المشاركة الديمقراطية فى تصور وتصميم المستقبل
، أو مقرطة التفكير المستقبلى والتصرفات ذات التوجهات المستقبلية، وإفساح المجال لعموم
الناس للاشتراك فى اقتراح وتقييم الصور البديلة للمستقبل الذى سيؤثر فى حياتهم وحياة
خلفهم .
9.
تبنى
صورة مستقبلية مفضلة والترويج لها، وذلك باعتبار ذلك خطوة ضرورية نحو تحويل هذه الصورة
المستقبلية إلى واقع. ويتصل بذلك تبنى أفعال اجتماعية معينة من أجل قطع الطريق على
الصور المستقبلية غير المرغوب فيها، والحيلولة دون وقوعها.
رابعاً:
معايير تقسيم طرق البحث فى المستقبل:
ويمكن
تقسيم طرق البحث المستقبلى وفق معايير متنوعة. فقد تصنف هذه الطرق حسب درجة اعتمادها
على قياسات كمية صريحة إلى طرق كمية quantitative
وطرق كيفية qualitative . ولكن يعيب هذا التقسيم أن التمايزات ليست قاطعة بين ما هو كمى وما
هو كيفى من طرق البحث المستقبلى . وكثيراً ما يكون الفرق بينهما فرقاً فى الدرجة -
لا فى النوع . ذلك أن غالبية الطرق التى يستخدمها دارسو المستقبل تستخدم شيئا من” التكمية
“، مهما كان محدوداً . كما يندر أن تعتمد الدراسات المستقبلية الجيدة على القياسات
الكمية وحدها دون اللجوء إلى الطرق الكيفية، على الأقل فى مرحلة التحليل والتفسير والتوصل
إلى استنتاجات.
كذلك
قد تصنف طرق البحث المستقبلى إلى طرق استطلاعية exploratory
تقدم صوراً مستقبلية احتمالية ، وطرق استهدافية normative
تقدم صوراً لمستقبلات مرغوب فيها.
ولكن
هذا التقسيم ليس حاداً كما يبدو . إذ قد يشترك هذان النوعان من الطرق فى وسائل البحث
المستقبلى ، بمعنى أن الصور المستقبلية التى يؤدى إليها كل نوع منهما قد تنتج باستخدام
وسائل كمية أو وسائل كيفية ، أو بمزيج من الاثنين . كذلك فإن الدراسة المستقبلية قد
تتوصل إلى عدد من الصور المستقبلية الاحتمالية ، ثم تختار من بينها صورة أو أكثر من
الصور المرغوب فيها . أى أن الصفة الاستطلاعية والصفة الاستهدافية قد تجتمعان فى دراسة
مستقبلية واحدة.
وأخيراً
، قد يميز بين طرق نظامية formal
أو موضوعية objective
من جهة ، وطرق غير نظامية informal
أو ذاتية subjective
من جهة أخرى. والعبرة هنا هى بما إذا كانت الطريقة المستخدمة فى البحث
المستقبلى تعتمد على أساليب مقننة codified
واضحة المعالم ، أو على نماذج صريحة للظاهرة محل الدراسة (فحينئذ
تعتبر من الطرق النظامية أو الموضوعية) ، أو أنها تعتمد على الحدس والخيال والخبرة
والتقدير الذاتى ، دون تبنى نماذج صريحة للظاهرة موضع البحث (فحينئذ تعتبر من الطرق
غير النظامية أوالذاتية) . ولكن هذا المعيار قد يصعب تطبيقه على الكثير من طرق البحث
المستقبلى . فما يبدو لأول وهلة موضوعياً (كالنماذج) كثيراً ما يعتمد على اختيارات
ذاتية (للمتغيرات أو لتعريفها وغير ذلك كثير) ولا يستغنى عن قدر من الحدس والخبرة
. وما يبدو لأول وهلة ذاتياً ، كثيراً ما يمكن استنتاج خطوات أو إجراءات محددة لتطبيقه
(مثل طريقة دلفى).
خامساً
: الجهود العربية والإسلامية في مجال الدراسات الاستشرافية للمستقبل:
جاء
اهتمام الباحثين العرب والمسلمين بالدراسات المستقبلية متأخراً مقارنة بنظيرهم الغربي،
ولذلك فمن الصعب على الباحث أن يحدد سنة معينة كنقطة انطلاق للدراسات المستقبلية في
العالم العربي، ورغم ظهور بعض الكتابات الخاصة بالتنبؤ في بداية الثمانينات فإن الدراسات
المستقبلية بمفهومها المستخدم حالياً لم تتبلور بشكل كاف حتى هذه الفترة من دون إنكار
ظهور محاولات جادة ومهمة لكنها متناثرة في مناطق مختلفة من العالم العربي.
على
أن موضوع التنبؤ بشكل عام كان ضمن الاهتمامات في عدد من الدراسات العربية ولا سيما
الدراسات الإحصائية، فالإحصاء يشتمل في بعض جوانبه على بعض الجوانب المعنية بالتنبؤ،
ومن هنا شكل الإحصاء قاعدة علمية أولى استند لها البعض للشروع في دراسات مستقبلية أولية(9).
وأول
دراسة شملت العالم العربي حسب الدكتور (المنجرة)”قامت بها منظمة التعاون الاقتصادي
والتنمية في باريس وكلفت أكثر من ستة ملايين دولار، وقد خرجت هذه الدراسة بنماذج وسيناريوهات
خاصة بالقرن الواحد والعشرين بما فيها ما يخص العالم العربي وقد تمت هذه الدراسة بدون
أية مشاركة عربية(10)، وهو ما أثار انتقاد (المنجرة) لرفضه أن يرسم مستقبل الشعوب بدون
استشارتها ومشاركتها، “ثم بدأنا في العالم العربي إجراء بعض الدراسات منذ العقد الماضي،
وانتهينا إلى أهميتها إلا أنها لم تصل إلى ما نرجوه.
وقد
أدى غياب الدراسات المستقبلية في الفترة الماضية إلى تعاملنا مع الأحداث كرد فعل في
حين أن العالم العربي يتغلب على المشاكل بتأجيلها إلى المستقبل حيث لا تتوفر إلا أمنيات
على الأداء الاقتصادي في المستقبل، مثل توقع زيادة في عدد السياح برقم معين، أو تطور
الخدمات الصحية بتوفير عدد معين من الأسرة بدون أن تكون هذه التوقعات مبنية على اختيارات
ودراسات(11).
وقد
كثر الحديث عن”هموم المستقبل العربي ومطالب المستقبل العربي، فتعددت الكتابات والمحاولات
التي تسعى لاستشراف بعض الجزئيات المتعلقة بآفاق المستقبل العربي، وتراوحت تلك المحاولات
بين الخطاب الفكري والسياسي المرسل، وبين الدراسات القطاعية الجزئية، وبين الدراسات
الخاصة بقطر أو مجموعة من الأقطار العربية. وعلى الرغم من أن تلك المحاولات ظلت جزئية
ولا ترقى إلى مستوى الرؤية الشاملة، فإنها جميعاً عبرت عن شعور عميق بالقلق إزاء المستقبل
العربي وما يحمله في طياته من مخاطر ونذر“(12).
”ولم
تخرج الكتابات على تنوعها، عن كونها صرخات لاستثارة الاهتمام بعلوم المستقبل في الضمير
العربي، في عصر سادت فيه روح السلبية والاستسلام والتواكل، ولكن تلك الدراسات والصرخات
ساعدت على إيقاظ الوعي المستقبلي لدى النخبة، وساعدت على استضافة المستقبل في مداولاتنا
اليومية ومشاغلنا الفكرية“(13).
وميز
الدكتور (وليد عبدالحي) بين نمطين من الجهود في هذا الجانب:
1)
الجهود التوجيهية:
التي
انشغلت بالحث على التوجه بالدراسات نحو البعد المستقبلي، دون أن تولي تقنيات التعامل
مع هذا البعد اهتماماً، أي أنها انصبت على الدعوة إلى التفكير في المستقبل والإعداد
له، والتأكيد على أهميته، لكنها لم تقدم جهداً واضحاً للكيفية التي يمكن أن نتنبأ بها،
أو أن نرجح بين احتمالات متعددة لظاهرة معينة.
وقد
شكل كتاب (قسطنطين زريق)”نحن والمستقبل“عام 1977، ما يمكن اعتباره أول الجهود التوجيهية
المهمة، وقد كتبه متأثراً بالنتائج التي آلت إليها الأوضاع العربية بعد هزيمة عام
1967، ثم أضاف إلى هذا الجهد كتاباً آخر هو:”مطالب المستقبل العربي هموم وتساؤلات“،
عام 1983.
ويندرج
ضمن هذه الجهود التوجيهية دراسات (المهدي المنجرة) الأولى التي توَّجها بتلخيص هذه
الجهود في كتابه:”الحرب الحضارية الأولى: مستقبل الماضي وماضي المستقبل“عام 1991، ورغم
أن أحداث حرب الخليج عام 1991 كان لها الدور البارز في الدفع نحو إنتاج هذا الكتاب،
فإن (المنجرة) يتقدم خطوة على (زريق) من خلال الدخول في مناقشة مكونات التخلف العربي
واستخدام بعض التقنيات كالإسقاط لتصور الأوضاع المستقبلية، حيث يتناول القضايا الديموغرافية
والطاقة البديلة وعصر ما بعد الحقبة النفطية والديمقراطية والعلاقات بين الشمال والجنوب
والغزو الثقافي والنظام العالمي الجديد”(14).
ورغم
طغيان المنهج المعياري الإرشادي في كتابات (زريق والمنجرة) والميل للجانب التوجيهي،
مع تفاوت بينهما، فإن جهودهما التنظيرية والتأسيسية في الدراسات المستقبلية العربية
والإسلامية كانت مقدمة أساسية للجهود العملية التطبيقية، فقد عنى (زريق) بالتأكيد على
“العقلية المستقبلية” وهي “العقلية المطلوبة في الحاضر المتوجهة إلى المستقبل الواعية
لمشكلاته، العاملة على الإعداد له”(15). ومن خلال دعواته للوحدة العربية والحرية والعلم
والأخلاق أثمرت جهوده الفلسفية والتبشيرية في الدراسات المستقبلية في التوجه نحو استخدام
التقنيات والأنماط العلمية التي يزخر بها هذا الحقل.
أما
(المنجرة) فقد شارك زريق إلى حد ما في هذا الاتجاه ويظهر ذلك جلياً في أكثر كتبه الصادرة
بالعربية، غير أن كتاباته بالفرنسية والإنجليزية، وقسم منها بالعربية، كان التحليل
العلمي الاستشرافي واعتماد التقنيات العلمية حاضراً كتقنية الإسقاط والسيناريوهات،
لاسيما في تقريره إلى نادي روما، ودراسة له عن: “العولمة وأثرها على دول العالم الثالث”
وتوظيف تقنيات الإحصاء ودراسة المتغيرات الديموغرافية والبيئية والعلاقات بين الشمال
والجنوب.
2)
الجهود التقنية في مجال استشراف المستقبل:
وتتمثل
في محاولة تطبيق التقنيات العلمية في الدراسات المستقبلية، وقد كان لجهود الباحثين
المصريين دور واضح في هذا المجال، حيث يبرز دور المجموعة التي عملت في مشروع المستقبلات
العربية البديلة خلال الفترة 1981 – 1986 بتمويل من جامعة الأمم المتحدة، ونتج عن المشروع
دراسات متعددة بلغت 15 دراسة، ناهيك عن جهود العاملين في نطاق دراسة (مصر عام
2020)(16).
وتندرج
ضمن هذا النطاق عدد من الدراسات وهي:
•
صورة
المستقبل العربي (1982).
•
مشروع
استشراف الوطن العربي (1988) وكلاهما صدرا عن مركز دراسات الوحدة العربية.
•
العقد
العربي القادم: المستقبلات البديلة (1988)، مجموعة من الباحثين بإشراف هشام شرابي.
•
العولمة
وأثرها على العالم الثالث للمهدي المنجرة، تتناول سيناريوهات مستقبل العالم الإسلامي.
•
المكانة
المستقبلية للصين في النظام الدولي، مركز الإمارات للدراسات الإستراتيجية، إنجاز وليد
عبدالحي.
وتعكس
هذه المشاريع أقصى ما وصلت إليه الخبرة العربية في دراسة المستقبل. وأما على مستوى
الجامعات فقد أصبحت “مادة الدراسات المستقبلية ضمن المواد الدراسية في بعض الجامعات،
مثل: (الجزائر والمغرب والأردن ومصر) كما ظهرت بعض مراكز الأبحاث المتخصصة في الدراسات
المستقبلية (في مصر مثلاً)، كما تولي العديد من المجلات العربية المتخصصة عناية بهذا
الموضوع كما هو الحال في بعض الدراسات التي تنشرها مجلة المستقبل العربي (مركز دراسات
الوحدة العربية) أو مجلة السياسات الدولية أو مجلة دراسات مستقبلية (مركز دراسات المستقبل
في جامعة أسيوط) ..الخ.
من
ناحية أخرى لا شك أن الباحثين العرب العاملين في بعض الدول الأوربية والولايات المتحدة
ساهموا في التأكيد على أهمية هذه الدراسات، وقاموا بنشر العديد من هذه الدراسات، فقد
لاحظنا أثر ذلك في العديد من الدراسات التي تمت في جامعات غربية(17).
3-
أدبيات المستقبليات الإسلامية:
ويرى
الدكتور (زكي الميلاد) أن الأدبيات الإسلامية تعرف”غياب التراكم المعرفي الذي يصل إلى
حد النقص الفادح، ومن غير هذا التراكم فإن القدرة على النهوض بهذا الحقل من الدراسات
لن يكون متيسراً، لأن هذا الحقل يعد من الحقول المتقدمة التي تستعين بخبرات وعلوم متقدمة،
ثم إن بعض الكتابات الإسلامية التي تطرقت إلى موضوع المستقبل، انطلقت من حتميات دينية
من غير أن تؤسس لهذه الحتميات أسبابها الموضوعية.
ومن
جوانب النقد دائماً حسب (زكي الميلاد) أن بعض الكتابات نظرت إلى المستقبل بعمومية وإطلاق،
من غير تشخيص دقيق للمراحل والخطوات، ومن غير استناد لخطط وبرامج محددة زمنياً ومبنية
على مسح شامل ينبني على حقائق كمية وأرقام مضبوطة.
والبعض
ربط مستقبل العالم الإسلامي بزوال الغرب وحضارته ككتاب “آفاق المستقبل في العالم الإسلامي”
لـ(محسن موسوي) وبعض الكتابات الإسلامية بالغت في تصوير العالم الإسلامي باعتباره البديل
الحضاري ككتاب: “المسلمون والبديل الحضاري” لـ(حيدر عبدالكريم الغدير)، واستفادت هذه
الكتابات من بعض الغربيين الذين وجهوا سهام النقد للحضارة الغربية أو حذروا من الخطر
الإسلامي القادم، مثل الكتب التالية:
•
“تدهور
الغرب” الصادر سنة 1917 للألماني (أزولد شبينكلر).
•
“سقوط
الحضارة” لـ (مولن ولسن).
•
“البحث
عن الأيديولوجية البديل” لـ(روبيرديون) وغيره.
لكن
أكثر الكتابات الإسلامية تتناول المستقبل ليس بالمفهوم العلمي وإنما بالمفهوم العام
دون أن تعكس التطورات الحاصلة في حقل الدراسات المستقبلية، والاستفادة منها في تحليل
القضايا الراهنة والمستقبلية، وكثيراً ما يجرى التعامل مع لفظة المستقبل كمجرد كلمة
كغيرها من الكلمات المتداولة بكثافة عالية، وفي نفس الوقت مفرغة من أي مضامين علمية،
وهذه الإطلاقية واضحة في كتاب “المستقبل لهذا الدين” لـ (سيد قطب) على أهميته(18).
وتبقى
أكثر الكتابات الإسلامية تميزاً في مجال المستقبلية الإسلامية هي كتابات الباكستاني
(ضياء الدين سردار) الذي يعد أول عالم مسلم حسب المنجرة يؤلف في الدراسات المستقبلية
تمثل في كتابه “الإسلام والمستقبل” الذي صدر بالإنجليزية سنة 1971 ثم كتابه: “استعمار
المستقبل” وغيرها.
ويرى
الدكتور (سهيل عناية الله) أنه يمكن تقسيم أعمال سردار لثلاث مقولات:
•
الأولى:
معنية بمستقبل الحضارة الإسلامية.
•
الثانية:
العلم الإسلامي والنموذج المعرفي الإرشادي.
•
الثالثة:
مواجهة ما بعد الحداثة بالإسلام.
وتأتي
أهمية ضياء الدين ساردار، باعتباره نموذجاً فكرياً، لإعادة طرح الإسلام على أساس مستقبلي.
يتركز فكر ساردار غير ذائع الصيت في عالمنا العربي حول “بناء مستقبل الإسلام على أساس
تجديد أصوله وإعادة تأويلها أسساً لبناء مستقبل مزدهر لشعوبه في ظل عالم متسارع التغير،
ويتسم بالتعقد والتشابك في علاقاته وقضاياه”.
ويهدف
مشروع ساردار إلى عصرنة الإسلام ونقد الحضارة الغربية المهيمنة، وهو يرى أن الهدفين
وجهان لعملة واحدة. إن نقد الحضارة الغربية يجب أن يتم من خلال وجهة نظر نقدية تمييزية
تفرق بين الحق والباطل والصحيح والخطأ، دون أن يعني ذلك رفض الغرب، بل التعامل معه
إنسانياً من خلال مبدإ الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما عصرنة الإسلام،
فهي عملية مستقبلية لن تتم في الحاضر الذي يشهد المزيد من ضعف العالم الإسلامي وتفتته.
يرى ساردار أن الحضارة الإسلامية يجب أن يتم بناؤها حجراً حجراً من خلال مفاهيم الإسلام
الأساسية، باعتبارها حضارة المستقبل، غير أن خطراً ما يواجهه هذا المستقبل أنه عرضه
للاستعمار من قبل الغرب، وهو ما يراه أزمة في حقل الدراسات المستقبلية.
يرى
ساردار أن الدراسات المستقبلية Futures Studies
ليست علماً خالصاً، بمفهوم العلوم الطبيعية، بل هي تعبير عن تداخل
العلوم البينية فأي علم مهما كان، عبارة عن بني اجتماعية اصطناعية تتسم بالتعقد والتداخل،
وبالنسبة إلى الدراسات المستقبلية، فإن التعامل معها بداية يقتضي “أن نهمل الفكرة القائلة
بأن الدراسات المستقبلية هي علم discipline
له حدود جامدة ونظريات ثابتة، ومصطلحات سرية غامضة ورجال عظام قاموا
بوضع أسسه وكيانه المهيب(19)”.
ولكن
ككل البني الاجتماعية الاصطناعية، فإن الدراسات المستقبلية بوضعها الحالي قد صاغتها
الرؤية الكونية الغربية، وهي الأزمة الأساسية التي تواجه العاملين في هذا الحقل “إنه
محتلٌّ وتحريره هو التحدي الأكبر الذي يواجه العاملين القادمين من خلفيات ثقافية غير
غربية(20)”. إن استعمار المستقبل هو استمرار لاستعمار الحاضر؛ فالحضارة الغربية لازالت
هي المهيمنة والمنتجات التكنولوجية والعلمية وتكنولوجيا الاتصالات والأخبار تحمل في
خلفياتها تحيزات وأفكاراً غربية، فسادت هذه التحيزات والتفضيلات العالم منذ مرحلة الاستعمار،
غير أن التغريب يتم تحت مسمى العولمة(21). ومن السذاجة أن نساوي بين التغريب والعولمة،
غير أن النتائج في الحالتين واحدة، إن العولمة، باعتبارها العملية التي يتم من خلالها
تحويل العالم إلى قرية صغيرة تُلغي فيها الحدود وتتقلص المسافات، تقوم بدورها بتشكيل
العالم كله في ثقافة وصورة واحدة هي صورة الغرب(22)، وهي تحافظ على كل أشكال إمبريالية
الغرب الاقتصادية والثقافية، بل تتجاوزها، إذ تدعم شكلاً واحداً للحياة على حساب الرؤى
الأخرى. إنها لا تهمش التقاليد غير الغربية ولكنها تقتل الخيارات الأخرى، إذ يصبح المستقبل
أسيراً لرؤية واحدة هي رؤية الغرب.
إن
أخطر ما يعنيه استعمار المستقبل أنه يسلب إمكانية الحركة والفعل من الثقافات الأخرى.
يدعو ساردار إلى تحويل الدراسات المستقبلية إلى حركة خلاقة من شأنها أن تقاوم الواقع
الحالي. وكي يتحقق هذا يجب أن يتم تغيير أطرها المفاهيمية؛ حيث تخرج من الأطر الغربية
المهيمنة، وإلا ستظل غريبة عن تناول المجتمعات غير الغربية. وإذا كان المستقبل هو حالة
من الوعي، فإن هذا الوعي لا يكون سليماً إلا إذ نبع من أعماق الثقافة الأصيلة، ويعني
هذا أن ترتكز الدراسات المستقبلية على التنوع والتعددية، إذ تعكس المفاهيم والأدوات
المستخدمة مصالح واهتمامات كل ثقافة. إذ لم يأخذ مفكرو المجتمعات الغربية المستقبل
على محمل الجد، فإن مجتمعاتهم ستقع أسيرة لمستقبل الآخر؛ أي مصالحه(23).
وحاول
ساردار في أكثر من عمل منظور علمي لدراسة مستقبل الإسلام حضارة وثقافة من خلال إعادة
تفعيل أسسه، ويقول في هذا المنظور الذي أطلق عليه “المستقبليات الإسلامية”(24): “إن
هدف المستقبليات الإسلامية وضع طريق للخروج من المأزق الحالي، وتطوير رؤى للإدارة وبدء
التغيير، ووضع خطط بديلة مستقبلية مرغوبة للأمة الإسلامية. يتطلب مشروع المستقبليات
الإسلامية قطيعة فاصلة مع الفكر الإسلامي التقليدي المعتمد على التقليدية المتصلبة
والفهم أحادي البعد للعالمين الحداثي وما بعد الحداثي، ويتطلب أيضاً فهماً جريئاً ومبدعاً
للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية”.
على
الرغم من ثراء أفكار ساردار وغزارة إنتاجه وتنوعه، فلم يقدم بشكل كافٍ إلى قراء العربية،
فمن بين أعماله الخمس والأربعين لم يترجم أي منها سوى كتاب “الاستشراق” الذي صدر عربياً
بعد ثلاثة عشر عاماً من صدوره بالإنجليزية 2012 بترجمة فخري صالح. وربما تزداد الحاجة
إلى تقديم هذا المفكر إلى العربية كونه يمثل نموذجاً تقدمياً للأطر الحضارية السائدة
والمتصارعة؛ فهو كما رأينا يقف على حافة نماذج مختلفة يحاول أن يستخدم كل منها في نقد
الآخر من أجل بناء نموذج يضع الفكر في محل الفاعلية بدلاً من التصارع الذهني. حاول
ساردار في العديد من أعماله أن يبني نموذجاً للمستقبليات الإسلامية التي تحاول أن ترسم
مستقبلاً لحضارة الإسلام عبر قيمه الأصيله.
وأما
باقي الكتابات عن المستقبليات الإسلامية - مما أمكن الاطلاع عليه-فلا تخرج عن الطابع
التنظيري والتوجيهي أو التبشيري بالدراسات المستقبلية، أو النقدي في أحسن الأحوال وهو
ما يمكن أن تصنف ضمنه أعمال: (منور أنيس) و (سيد حسين نصر) و (أنور إبراهيم) و (محمد
بريش).
والتقويم
العام لواقع الدراسات المستقبلية في العالم العربي والإسلامي يؤكد الضعف والانحسار
والمحدودية وغياب التشجيع على اقتحام الباحثين لهذا النوع من الدراسات الحيوية لنهضة
الشعوب والأمم وتقدمها وازدهارها، هذا في الوقت الذي تعصف المتغيرات الداخلية والخارجية
بكل الكيانات الصغيرة والضعيفة وتتقاذفها من كل جانب، بينما تتنازع إستراتيجيات القوى
العظمي على تحسين وضع شعوبها في المستقبل.
الهوامش:
1- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور:
لسان العرب، الطبعة الأولى، بيروت، دار صادر، 1997م: لسان العرب، ج 9، ص 171.
2- الدجاني أحمد صدقي: الدراسات المستقبلية وخصائص
المنهج الإسلامي فصلية المستقبلية، العدد 2، السنة 2001، المركز الإسلامي للدراسات
المستقبلية، بيروت، لبنان، ص22.
3- سعد الدين إبراهيم وآخرون: صور المستقبل العربي
، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1982، ص 23.
4- عبد الحي وليد: مدخل إلى الدراسات المستقبلية
في العلوم السياسية ، المركز العالمي للدراسات السياسية جامعة اليرموك الأردن، ص
14.
5- بدوي أحمد زكي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية
، مكتبة لبنان بيروت 1977 ، ص171.
6- الدجاني أحمد صدقي: الدراسات المستقبلية وخصائص
المنهج القرآني، فصلية المستقبلية، مرجع سابق، عدد 2، ص22.
7- ماري كونواي: مراجعة جديدة للتخطيط الاستراتيجي:
منظور مستقبلي، الاستشراف والابتكار والاستراتيجية نحو مستقبل أكثر حكمة، مجموعة بحوث
ألقيت في الاجتماع السنوي لجمعية مستقبل العالم، تحرير سينثياج واغتر، ترجمة صباح صديق
الدملوجي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص78 – 79.
8-
للمزيد
انظر: إسماعيل صبري عبد الله، توصيف الأوضاع العالمية المعاصرة، الورقة (3) من أوراق
مصر 2020م، منتدى العالم الثالث، القاهرة، يناير 1999م.
(2)
من أشهر الجمعيات العلمية فى هذا المجال جمعيتان . الأولى وهى World
Future Society ، التى تصدر مجلة The
Futurist ، ودورية Futures
Research Quarterly ، ودليلاً للمنظمات والدوريات
فى مجال البحوث المستقبلية Futures Research
Directory: Organizations and Periodical ، وكذلك دليلاً للأفراد المشتغلين
بالدراسات المستقبلية Futures Research
Directory: Individuals. للمزيد راجع موقع الجمعية على الإنترنت : www.wfs.org
، أما الجمعية الثانية فهى: World
Future Studies Federatrion ولها نشرة ربع سنوية بعنوان
: Futures Bulletin وكذلك كتاب دورى بعنوان World
Future Studies Federation Newsletter وعنوان موقعها على الإنترنت
هو : www.world futures.org
3.
(أنظر الفصل الثانى فى المجلد الأول من كتاب :
Wendell
Bell, Foundations of Futures Studies, Transaction Publishers, New Jersey, 1997.
9- عبدالحي وليد: مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها
في العالم العربي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبو ظبي، الإمارات
العربية المتحدة، الطبعة الأولى، سنة 2007، ص119.
10- الحرب الحضارية الأولى ، ص 33.
11- المرجع نفسه، ص33.
12- عبدالفضيل محمود: الجهود العربية في مجال استشراف
المستقبل، مجلة عالم الفكر، المجلد 18، العدد الرابع، يناير فبراير مارس سنة 1988،
العنوان: الدراسات المستقبلية، دولة الكويت، وزارة الإعلام، ص35.
13- الجهود العربية في خدمة المستقبل، مجلة عالم الفكر،
العدد الرابع، مجلد 18، مرجع سابق، ص37.
14- مناهج الدراسات المستقبلية، مرجع سابق، ص 120،
121.
15- زريق قسطنطين: نحن والمستقبل، الأعمال الفكرية
العامة، للدكتور قسطنطين زريق، المجلد الثالث، مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسة عبدالحميد
شومان، بيروت، طبعة سنة 1994، ص163.
16- مناهج الدراسات المستقبلية، ص122.
17- مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية،
جامعة اليرموك، المركز العلمي للدراسات السياسية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى،
2002، ص197.
18- انظر: المرجع السابق، المسألة الحضارية، من ص114
إلى ص117.
19- Ziauddin Sardar: “the Namesake, Futures,
Futures Studies, Futuristic, Foresight. What’s In the Name?” Futures 42 (2010),
177 – 184.
20- Ziauddin Sardar: “The Problem of Futures
Studies”, in Islam, Postmodernism and Other Futures: A Ziauddin Sardar Reader,
by sohail Inayatullah and Gail Boxwell (London: Pluto Press, 2003), 247.
21- 21() ضياء الدين ساردار: الاستشراق: صور الشرق
في الآداب والمعارف الغربية، ترجمة: فخري صالح (أبو ظبي: مشروع كلمة، 2012)، ص136،
137.
22- Ibid: 250.
23- Ibid: 259.
24-
اعتمدنا
في هذا الجزء على ترجمتنا لورقة ساردار:
- Ziauddin
Sardar: what do we mean by Islamic Futures? In Ibrahim Abu-Rabi, ed. The
Blackwell Campanion to Contemporary Islamic Thought. (London, Blackwell, 2006)
P.562 – 586.
وهي
في سبيلها للصدور ضمن أعداد سلسلة أوراق التي تصدرها وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة
الإسكندرية.
محمد
أحمد الصغير علي عيد: باحث أكاديمي مصري في الفكر العربي المعاصر.