أبحاث
الثقافة والديمقراطية
إبراهيم
الحيدري
تثير
الاحباطات المتتالية التي واكبت ثورات الشباب العربي تساؤلات عدة حول نتائج الانتخابات
التي جرت حتى الان في كل من تونس والمغرب ومصر. والمفارقة هي ان ما زرعه الشباب بدمائهم
واجسادهم وارواحهم كان قد حصده الآخرون. ففي تونس والمغرب ومصر وصل الأخوان المسلمين
الى السلطة عن طريق الانتخابات. ويحاول المجلس العسكري المصري مشاركة الاخوان المسلمين
قطف ثمار ما زرعه الشباب بدمائهم في ساحة التحرير. كيف يمكن للباحث الاجتماعي تفسير
ذلك؟ وهل تكفي مجرد الانتخابات للوصول الى السلطة والحصول على الشرعية؟!
هذه
الاشكالية لها أهمية استثنائية للظروف المعقدة التي التي تمر بها الدول العربية اليوم
وما استجد من تغيرات وتحولات بنيوية عميقة الاثر والتاثير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية، وذلك بسبب التركة الثقيلة التي تركتها الانظمة الاستبدادية الشمولية من
تخلف وقمع وتوزيع غير عادل للثروة والقوة وتدمير للدولة والمؤسسات المدنية وعدم احترام
حقوق الانسان مما عرض المجتمع والثقافة والهوية الى انتهاكات وتدمير ذاتي.
كما اثارت هذه الاشكالية تساؤلات عديدة في مقدمتها
: هل يمكن تطبيق ديمقراطية حقيقية من دون تربة ديمقراطية وثقافة ديمقراطية وديمقراطيين
واعين يؤمنون بها ويلتزمون بممارستها؟
ولكن ما هي العلاقة بين الثقافة والديمقراطية؟
قبل
كل شيء ما هي الثقافة؟ الثقافة هي طرائق التفكير والعمل والسلوك التي يكتسبها الفرد
باعتباره عضو في مجتمع، بحيث يستطيع بموجبها التكيف والتلائم مع المحيط الطبيعي والاجتماعي.
فهي اذن مجموعة مترابطة ومتشابكة ومتداخلة من انماط التفكير والعمل والسلوك التي تؤلف
الادوار التي تحدد السلوكات المنتظرة من مجموع افراد المجتمع. والتي تقوم على آليات
تأسيسية مختلفة كاللغة والتربية والقيم والعادات والتقاليد والاعراف والطقوس ووسائل
الاتصال والمعاني الرمزية وغيرها التي تتراكم عبر الاجيال وتكون لها صفة معيارية من
الصعب الانحراف عنها وذلك لوجود جزاءات اجتماعية تطبق تلقائيا عند الخروج عليها. وبهذا
تصبح الثقافة ذاكرة المجتمع الشعورية واللاشعورية.
والثقافة
مكتسبة وتكتسب بالتعلم ومن خصائصها انتظام سياقها واستجابتها للبيئة الطبيعية والاجتماعية،
وفق اشكال التقنية المتاحة. ومن هنا نجد ان سلوك الفرد غالبا ما يتطابق مع الثقافة
السائدة.
وعملية
اكتساب الثقافة (التثاقف) تبدأ منذ الطفولة ولا تنتهي الا بالموت. وخلال عملية التثقيف
ينزع الفرد الى تبني " الشخصية النموذجية" التي يرغب بها المجتمع. والتي
تحدد سمات وخصائص الشخصية الاجتماعية.
فالشخصية
النموذجية للزنجي مثلا تتكون من مجموعة من الخبر والتجارب عن "الذات" و
"النحن" تكون مختلفة تماما عن تلك التي يكونها طفل ابيض وكذلك عن الهندي
والعربي، فكل فرد منا ينمو في ثقافة معينة او ثقافة فرعية خاصة، هي مرجعيته.
واذا
كانت الثقافة تتطلب الامتثال والطاعة والخضوع ، كما في المجتمعات العربية ذات النزعة
الأبوية-البطريركية، فسوف تؤثر على شخصية الفرد وثقافته وتقوي عنده الميل نحو الخوف
والتردد والطاعة والخضوع، واذا كانت الثقافة تتطلب القوة والسيطرة فسوف يقوي عنده الميل
الى التسلط والعنف واتخاذ قرارات حاسمة ، اما اذا كانت الثقافة تتطلب التمهل والاعتدال
فسوف تميل القرارات نحو التعقل والتوازن بين الامور.
ولا
تظهر فاعلية هذه الثقافة الا في انعكاساتها في سلوك الافراد ومواقفهم في الحياة اليومية.
فالشجاعة والمروءة والكرم لها فاعلية أقوى في المجتمع الريفي منه في مجتمع المدينة.
اما في المدينة فقد تأخذ مثل هذه القيم طرائق ومعاني اخرى في التعبير عن طريق اعادة
تشكيلها وتحويرها او تكيفها وفق العلاقات الاجتماعية السائدة. وفي مقدمة القيم والمعايير
والسلوكات الثقافية المدينية هي الديمقراطية.
ما هي الديمقراطية؟
أولا - الديمقراطية
كمفاهيم وقيم ومعايير حضرية وحقوق انسان تقوم على عقد مجتمعي- مدني يقوم على سيادة
القانون.
وثانيا – تقوم
على مبدأ المساواة بين البشر دون تمييز بسبب الجنس او الدين او اللغة او اللون او المنشأ
الاجتماعي.
ثالثا – تشترط
مبدأ المسائلة والعدالة في توزيع الحقوق والواجبات الذي يتطلب وجود دولة لها هيبة تستطيع
بموجبها فرض القانون بالتساوي بين افراد المجتمع وبدون تمييز.
رابعا – تكامل
روح المواطنة ووحدة الهوية
خامسا - الديمقراطية
جزء من منظومة كبرى ترتبط بالحداثة التي تقوم على العقلانية والعلمانية ( الفصل بين
الدين والدولة) والتقدم الاجتماعي والنقد والنقد الذاتي.
والحال
بدون ممارسة قيم الديمقراطية في الواقع لا تصبح الديمقراطية متكاملة، ولكنها أفضل من
النظم الشمولية والدكتاتورية.
اذن
، الديمقراطية هي ثقافة وقيم واخلاق وسلوك اكثر مما هي مؤسسات ونظم ومفاهيم وآليات
اجرائية. انها طرائق تفكير وعمل وسلوك تقوم على الحرية الفردية، والتعددية واحترام
حقوق الانسان وتنظم طرائق التواصل والتفاهم والحوارالعقلاني الرشيد.
وللديمقراطية
ايجابيات وسلبيات: فبالنسبة لمجتمعاتنا تظهر الجوانب الايجابية للديمقراطية فيما يلي
:
انها تجربة وليدة ما زالت تحبو وتظهر فيما يلي :
•
بذور مجتمع مدني- ديمقراطي في وسط صراعات حزبية وقبلية وطائفية
وتناحر سياسي عنيف.
•
المجتمع المفتوح : انتشار وسائل الاتصال والاعلام- جرائد ومجلات
وفضائيات- وانترنت وبشكل عشوائي
•
ظهور احزاب ومنظمات مجتمع مدني عديدة
•
استخدام آليات ديمقراطية لاجراء انتخابات برلمانية
•
دخول الانترنت الى البيوت والمقاهي والجامعات سوف يفتح نوافذ عديدة
على الحداثة والديمقراطية.
اما الجوانب السلبية فتظهر كما يلي :
جاءت
الديمقراطية من خارج المجتمع العربي- الاسلامي ودون ان تنمو نموا ذاتيا وتلقائيا
الديمقراطية
شكلية على مستوى الممارسة العملية حيث ان اغلب الناخبين ادلوا باصواتهم حسب انتماءاتها
الطائفية والعشائرية والحزبية ومصالحهم الخاصة.
الحرية
الجديدة هي حرية هشة وتستغل باشكال مختلفة من قبل افراد المجتمع بوعي او بدونه
ان
ضعف الدولة وروح المواطنة وانقسام الهوية لم يسمح بتنمية قوى ديمقراطية حقيقية وجديدة،
ما عدا جزءا من قوى الشباب النامية، التي تحمل على اكتافها اليوم عمليات التغير والتغيير.
تطرح
وضعية الديمقراطية الملتبسة تساؤلات عديدة :
حول
قدرة العرب على العيش والتعايش في ظل جو من الحرية والديمقراطية الوليدة؟!
وهل
هم مهيأون اليوم لتقبل الديمقراطية وممارستها؟
ما
هي القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تؤثر في شخصية العربي فتجعله يتكلم
بالديمقراطية ولكنه لا يمارسها في حياته اليومية، في العائلة والعمل والسلطة؟
وما هي الآليات المطلوبة لتطور وعي اجتماعي وثقافي
وسياسي لتنمية ثقافة ديمقراطية حقيقية؟
أزمة ديمقراطية أم أزمة ثقافة ديمقراطية؟
ثمة
حقيقة لا مناص من الاعتراف بها، وهي اننا نعيش اليوم أزمة وعي بالديمقراطية، وأزمة
بممارستها بشكل صحيح ، ذلك ان الديمقراطية كمنهج في الحياة ما زالت مستعصية على الحل،
وذلك بسبب فشل الافراد والجماعات والاحزاب بتعريفها وفهمها والقناعة بها ومناقشتها
بحرية وممارستها بشفافية، واستغلالها لمصالح شخصية واهداف سياسية.
وفي
الواقع ان عدم ممارسة الديمقراطية بشفافية لا تعود الى النظم السياسية فحسب، ولا الى
آلياتها، ولا الى الآخر الاجنبي ، وانما تمتد في جذورها الى البنية الفكرية والاجتماعية
الاستبدادية ذات النزعة الابوية الذكورية والثقافة التقليدية اللاديمقراطية .
ان
تاريخنا الاجتماعي والثقافي هو تاريخ استبداد وقمع ليس من قبل السلطات السياسية فحسب،
بل ومن جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذلك من العائلة ومن الفرد
نفسه، الذي هو صنيع الثقافة القمعية التي فرضت قيودا عديدة على الفرد وعلى تفكيره وسلوكه،
في اشكال من السيطرة الاجتماعية والنفسية التي اضفت عليها طابعا شرعيا جعلت المرء رهينة
عجز تاريخي واجتماعي ـ نفسي متأصل الجذور في الثقافة العربية.
ومما
يزيد في هذه الثنائية تعدد الولاءات والانتماءات والعصبيات للقبيلة والعشيرة والعائلة
والطائفة والمحلة والحزب والوظيفة، وذلك بسبب ضعف الدولة وروح المواطنة وغياب مؤسسات
مدنية حرة، الامر الذي ادى ويؤدي الى انعدام اي هامش من الحرية والتعددية والحوار وضعف
العمل الجمعي وروح المبادرة والمغامرة والرفض والتحدي. وهو ما يشير الى ان الديمقراطية
لم تجد لها مكانا في تاريخنا وتقاليد مجتمعنا الا في القليل النادر، واذا كانت هناك
حركات او فئات حملت هذه الافكار او تبنتها فانها لم تستطيع تحقيق ما وعدت به.
كما
ان الوعي بثقافة الديمقراطية قد لا يتجاوز اليوم سوى بعض الشرائح الحضرية المثقفة من
بقايا الطبقة الوسطى التي ضمرت اصلا، وليس الجماعات والفئات من الجمهور العريض، وبخاصة
من أصول ريفية ـ عشائرية- بدوية، التي ما تزال لا تؤمن بالديمقراطية ولا بممارستها،
والتي ما تزال تعيش في "بداوة مقنعة"، وان ولائها للقبيلة والطائفة والمنطقة
وليس للدولة والوطن. فنحن نتكلم عن الديمقراطية والشفافية وحرية الرأي والعقيدة وحقوق
الانسان، وعن التسامح والحوار والتفاهم والاعتراف بالآخر، ولكننا لا نعي ما نقول، واذا
وعيناه لا نعترف به واذا اعترفنا به لا نمارسه الا بالكلام، واذا مارسناه فاننا نستغله
لمصالحنا الخاصة. ومن الملاحظ ان البعض منا يطالب بالديمقراطية ويتشدق بمفاهيمها وممارستها
ولكنه في واقع الامر لا يمارسها فعلا مع افراد عائلته ومع اقرانه وفي عمله وعلاقاته
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الديمقراطية
ليست مجرد افكار واقوال وشعارات نتغنى بها، وانما هي طريقة حياة وتفكير وعمل وسلوك
وممارسة للحرية والتعددية وحقوق الانسان وفق قناعات الفرد الفكرية.
كما
ان ممارسة الديمقراطية بشفافية، كثقافة وسلوك اجتماعي، ينبغي ان تبدأ من البيت أولا
ثم من المدرسة والشارع والعمل ولا تنتهي إلا بالمؤسسات الادارية والسياسية والأمنية
والعسكرية حتى قمة الهرم في الدولة.
معوقات تطبيق
الديمقراطية
هناك معوقات
تقف حجر عثرة امام تحقيق الديمقراطية في الدول العربية . والسبب لا يكمن بالديمقراطية
ذاتها بقدر ما يكمن في ثقافة الديمقراطية والوعي بها وممارستها بشكل صحيح، وكذلك الى
البيئة الثقافية والتربية والتنشئة الاجتماعية والتركيبة المجتمعية التقليدية والذهنية
القمعية والتي تظهر :-
اولا – في نظم الحكم
الاستبدادية الشمولية المتأصلة الجذور في تاريخنا الاجتماعي والسياسي والثقافي
ثانيا – في ثقافة
العنف بدل التسامح والتفاهم والحوار واحترام الرأي والرأي الآخر.
ثالثا – في النزعة
الأبوية/ البطريركية/ الذكورية وثنائية التسلط والخضوع التي تنبثق عنها والتي لها دور
لا يستهان به في ترسيخ رموز التسلط والاكراه والعنف من جهة، وقيم الطاعة والخضوع، الذي
ساعدت بدورها على قتل روح المبادرة والحوار والتفاهم والنقد والنقد الذاتي ، من جهة
اخرى.
وهكذا تذوب
فردانية الفرد في اطار القبيلة والطائفة والعائلة الذي يتطبع بطابعها وقيمها وخصائصها
ونمط حياتها الثقافية. ومن الطبيعي ان تنسجم
هذه الخصائص مع حياة القبيلة والطائفة والحزب والوظيفة. وهكذا تصبح العصبية القبلية والعصبية الطائفية والعصبية
الحزبية عقبة امام بناء الديمقراطية والمجتمع المدني.
رابعا – في منهج
ومنهجية التربية والتعليم التقليدية الذي يقوم على التسلط والخضوع والتلقين والحفظ
والكم وليس الكيف وعلى ترسيخ قيم الاستبداد والقمع التي وقفت امام تنمية القابليات
والمهارات العقلية، وبخاصة النقدية وممارستها في الواقع الاجتماعي، الى جانب فصل العلم
عن العمل والنظرية عن الممارسة والقول عن الفعل والخطاب الرسمي عن الخطاب الشعبي.
خامسا – في عدم تطور
مؤسسات مجتمع مدني ديمقراطية ومتحررة، بمعنى ان تكوًن " جماعات ضغط " مهمتها
مراقبة ومحاسبة مؤسسات الدولة وتحديد الحقوق والواجبات والمصالح المرتبطة بها، وان
لا تتحول الى ايديولوجية، وان تكون متحررة من المصالح والغايات ومن تدخل الدولة ومؤسساتها.
والهدف من ذلك هو فصل ما هو مدني عما هو سياسي. فالديمقراطية سيرورة اجتماعية وثقافية
وسياسية لا تنمو ولا تتطور الا في فضاء من الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان.
سادسا – في العادات والتقاليد
والقيم الاجتماعية البالية والطقوس الدينية المتحجرة التي يرفعها البعض الى مستوى التقديس
والتي لا يمكن نقدها او المساس بها لكونها مقدسة لا تسمح بنمو وعي ديمقراطي سليم.
خيار الديمقراطية
الديمقراطية
عملية تعلم وتعليم وممارسة وتطبيق في الحياة اليومية على كافة المستويات.
وان طريق
الديمقراطية طويل ومعقد وغير معبد وفيه معوقات عديدة ويحتاج الى إعداد وتربية وتعليم
ووعي بها وممارسة لقيمها ومعاييرها، اذ ليس من السهل تحويل الناس بين ليلة وضحاها الى
شعب يحترم ويطبق ويمارس مبادئ الديمقراطية وقيمها ومعاييرها بعد عقود طويلة من الاستبداد
والظلم والقهر والحرمان، واستعادة وعيه المستلب وتجاوز العقبات العديدة التي تقف امامه،
وتعيد هويته الممزقة وتجعله ينظر الى الامور نظرة موضوعية ليست ذات بعد واحد.
واذا كانت
الديمقراطية اليوم خيارا ضروريا لا بديل له، فينبغي خلق المناخ الفكري والاجتماعي والثقافي
والسياسي لها والسعي الى تشكيل بنية ذهنية متحررة من ثنائية التسلط والخضوع وتستلزم
ثقافة متسامحة ومنفتحة على الاخرالمختلف ووعيا بقيم الديمقراطية والتعددية واحتراما
لحقوق الانسان. ولا يتم ذلك الا ببناء وتطوير
وتنمية منظمات المجتمع المدني وآلياتها المستقلة والمتحررة من كل ايديولوجية.
الديمقراطية
عقد اجتماعي بين المواطنين تقوم على الحرية والعدالة والمساواة في اطار الدولة الحديثة
التي تقوم على الدستور وسيادة القانون ويكون الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، مثلما
تقوم على منظومات المجتمع المدني التي تعمل على التحكم بقدرة المجتمع الذاتية وتوجيهها،
وكذلك امكانية افراد المجتمع وقدرتهم على ممارستها وفق قواعدها ومعاييرها وشروطها. فالديمقراطية تتطلب قبل كل شيء قناعات مسبقة بحق
المواطنة وثقة متبادلة بين المواطنين واعتراف بآليات تطبيقها ومشاركة جميع الاثنيات
والطوائف والاقليات الاخرى فيها.
الديمقراطية
عقد مساواة اجتماعي
واذا كانت
الديمقراطية عقد اجتماعي يهدف الى بناء مجتمع مدني تعددي في اطار الدولة الحديثة القادرة
على التفاعل مع المجتمع عن طريق المؤسسات المدنية، فان التعاقد الاجتماعي محكوم بقدرة
المجتمع الذاتية على الوعي بقيم الديمقراطية وعلى امكانيات افراد المجتمع على احترام
هذا العقد الاجتماعي وقبوله طوعا من قبل افراد المجتمع وممارسته في الواقع الاجتماعي. فالديمقراطية هي عقد عدالة ومساواة بين المواطنين
باعتبارهم بشر. وكذلك اقرار مبدأ المواطنة
الذي هو اساس الديمقراطية، التي هي مصدر الحق في المساواة السياسية وكذلك في ممارستها
وفق قواعدها وشروطها ودفعها الى ايجاد صيغ جديدة للتعاقد والتعاون تؤلف بين الاثنيات
والفئات والطوائف والاقليات وحمايتها من الذوبان واعطاءها حقوقها للمساهمة الجماعية
في اطار وطني واحد وموحد يحول الصراعات الداخلية الى تنافس والاختلافات الى تعايش،
ما دامت محكومة بوعي وطني واحد ومشترك يساعدها على تنمية قدراتها الذاتية وحمايتها
من التدمير الذاتي. ان مبدأ المساواة هو في
الواقع القوة المحركة التي تقوم عليها الديمقراطية، ونقطة البداية في عملية التحول
التدريجي نحو الديمقراطية.
ان هذا التحول
يتطلب في الواقع قناعات مسبقة بالمساواة مع الآخرين وثقة متبادلة بينهم ، وعلى اقل
تقدير، ثقة متقاربة بين الافراد والجماعات والاحزاب، بكونهم جميعا مواطنين متساويين
في الحقوق، مثلما هم متساوون في الواجبات، وانهم شركاء في هذا الوطن ومتساوون في هذه
الشراكة، وان لا نستثني الاقليات الاثنية والدينية والطائفية منها.
والحقيقة
ان كل شعب من الشعوب قادر على انتاج واعادة انتاج وعيه الذاتي، ولكن الخطوة الاولى
التي ينبغي ان يخطوها هي التعرف على مواطن الضعف والخلل في البنية الفكرية والمجتمعية
والبدء بمعرفة الذات ونقدها قبل الدفاع عنها وجلدها، وان يسبق تطبيق آليات الديمقراطية
الوعي بمبادئها وخلق المناخ الفكري والاجتماعي والسياسي المتحرر لها. ان أية ثقافة
ديمقراطية لا يكون لها معنى اذا لم تتوفر لها فضاءات واسعة لثقافة الديمقراطية وحضورها
وممارستها، ليس في الاوساط الرسمية فحسب، بل وفي الاوساط الشعبية وفي هياكلها وبناءاتها
المؤسسية، وكذلك في الاحزاب والمنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
وكذلك في قوى المجتمع ونسيجه الداخلي، ولا يكون للديمقراطية معنى اذا افتقرت الى الحضور
المجتمعي المؤسسي ، أي الى مؤسسات مدنية قانونية
مستقلة ترى في تعزيز ثقافة الديمقراطية شرطا اساسيا من شروط عملية التنمية وديمومتها
واستمرارها كممارسة عملية وكأساس في الحكم وفي المجتمع المدني.
ان نظاما
ديمقراطيا تعدديا واقعيا وليس شكليا ينبغي ان يتم وفق انتخاب مباشر وحقيقي وشفاف لممثلي
الشعب وتحت عيون منظمات مجتمع مدني متطورة ومتحررة تستطيع ارساء قواعد متينة لدولة
مدنية حديثة بشروطها وآليات حركتها واستمرارها عبر تشريعات دستورية ديمقراطية تقوم
على أولوية المواطنة ووحدة الهوية وفصل السلطات حتى تستطيع تخطي المعوقات التقليدية
والمستجدة التي تقف عائقا امام ممارسة الديمقراطية.
لقد اثبتت
التجارب ان حصر العملية الديمقراطية في تنظيم الانتخابات فقط هي عملية عبثية في دول
ما زالت في مرحلة لم تكتمل فيها أسس بناء الديمقراطية، كما حدث ويحدث اليوم في بعض
الدول العربية، حيث تقع الدولة رهينة قوى قد تعرقل مسيرة تقدمها لسنوات أخرى.
والحقيقة
لا ديمقراطية بدون انتخابات، وفي ذات الوقت، فالانتخابات لوحدها لا تكفي لأن نطلق على
العملية السياسية بأنها ديمقراطية. وهنا يواجهنا سؤال اخر: لمن الأولوية في الوصول
الى الديمقراطية: بنية اجتماعية ـ ثقافية تشكل ارضية واسعة ومناخ مناسب لنمو الديمقراطية،
أم تطبيق آليات ديمقراطية(انتخابات وبرلمان..الخ) يمكن بموجبها تحقيق تنمية اجتماعية
ـ ثقافية وتهيئة مناخ ملائم لتطبيق الديمقراطية؟!
الواقع، ان
الفصل التعسفي بين ثقافة الديمقراطية وآليات الديمقراطية أدى ويؤدي الى صراعات ومصاعب
وانتكاسات، كما حدث ويحدث اليوم في الدول العربية التي خرجت من وصاية الكتاتورية. ولهذا لا يمكن تطبيق الديمقراطية من دون ثقافة ديمقراطية
تهيء مناخ فكري مناسب لممارستها.
امام هذه
السلسلة المعقدة من المعوقات التي تقف حاجزا امام تهيئة الظروف والشروط الاجتماعية
والثقافية والسياسية المناسبة لتطبيق الديمقراطية، ينبغي على المرء ان يقف وقفة تروي
لاعادة النظر في كثير من المسلمات، لان ممارسة الحرية والشفافية والالتزام بمبدأ المساواة
والعدالة الاجتماعية بشكل سليم ليست سهلة، ويجب ان يحسب لها الف حساب، بحيث لا ندخلها
دفعة واحدة وبمعزل عن سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي، وانما نخطو بها خطوة خطوة
لتهيئة المناخ المناسب لها، لان الديمقراطية تحتاج الى تربية وتعلم وتعليم وتمرين ووعي
مستمر بها، فمن الممكن ان يساء استخدام الحرية عن جهل او قصد او مصلحة، كما يحدث اليوم
في العراق، وفي جميع الاحوال، فالديمقراطية هي ليست الحرية لذاتها، بقدر ما هي التطبيق
العملي العقلاني لها، مع العلم بان تطبيقها بصورة كاملة هو مطلب غير ممكن، لان النظام
الديمقراطي نسبي في الزمان والمكان.
عن إيلاف