مقالات
الاستراتيجية الفلسطينية .... وضرورة التغيير 3/3
عبد
المجيد حمدان
2015
/ 12 / 19
3/3
كنت
قد ختمت الحلقة الثانية بالعبارة التالية: وبدل استثمار هذا الدعم المتنوع، وطرح استراتيجية
نضال جديدة، وتعبئة الجماهير على الهدف القابل للتحقيق، هدف استعادة الدولة
الفلسطينية التي أطاحت بها النكبة، جرى رفع سقف الأهداف. ويا ليت الأمور وقفت عند
هذا الحد، ذلك أن الفعل على الأرض جرى على عكس النوايا والأماني تماما، فالسؤال: كيف؟
كان
تطبيق شعار التحرير يقضي اعتماد استراتيجية عسكرية مغايرة لتلك التي اعتمدتها
فصائل الثورة. استراتيجية تقوم على بناء قوة عسكرية فلسطينية فعالة، تخترق فرقها الحدود،
تحتل رؤوس جسور لتحرير باقي الأرض. صحيح أنه كان عليها أن تبدأ بتكتيك حرب العصابات؛
اضرب واهرب، أي الدخول بمجموعات صغيرة، تضرب العدو وتعود من حيث أتت. لكن هذا
التكتيك استمر، واحتل مكان استراتيجية التحرير.
ولم
يمض كبير وقت حتى أحكمت إسرائيل إغلاق الحدود، وفرضت على الثورة الانتقال إلى
الدفاع بديلا للهجوم. وبدلا من الاقتراب، ولو خطوة صغيرة، من هدف التحرير، أُجبرت
الثورة بداية على إخلاء الأغوار، والتراجع للجبال، ثم، وبفعل القصف الجوي،
الانكفاء إلى المدن؛ عمان، السلط، مأدبا، الزرقاء وإربد ...الخ. وفي هذا الوضع الجديد،
برزت وتفاقمت كل سلبيات استراتيجية النضال المعتمدة.
كانت
فترة حرب العصابات، والتي امتدت لقرابة السنتين، قد شهدت تدفقا هائلا للشباب على
الانضمام للثورة، وهو أمر شديد الإيجابية. لكنها أيضا شهدت تفريخا لفصائل، تقدم
انتماؤها لنظم عربية على انتمائها لفلسطين. وبعد الإبعاد القسري عن الحدود،
والانكفاء إلى المدن، وتخمة التنظيمات، بعشرات آلاف " الفدائيين!"،
وانعكاس صراعات الأنظمة العربية، أخذت السلبيات في البروز واحتلال المشهد برمته.
في كتابي؛
" دخول إلى حقل المحرمات "، قلت إن المشهد بدا وكأن الثورة عاشت حالة من
العطالة الثورية. ولم يجد الآلاف من الشباب المسلحين، متعددي الانتماءات الفصائلية،
وبعد توقف دوريات العبور، وتفاقم حالة ضعف الانضباط، غير التبختر بسلاحهم في الشوارع،
وغير صرف طاقاتهم فيما لا يمت إلى أهداف الثورة بأية صلة. وبدا المشهد، لمراقب مطلع،
كعودة لأخريات ثورة 36 -39.
كانت
هناك أيضا قيادة عامة للثورة. لكنها قيادة بصلاحيات أدبية معنوية، أكثر منها
صلاحيات فعلية. وظل كل قائد فصيل يعمل باستقلالية شبه تامة. وفي ظل الأمية السائدة،
والسياسية خاصة، ضعف الانضباط، وسياسة فرق تسد الاستعمارية، كان لا بد للسلبيات –
انتفاخ الذات، الشعور بالقوة، تعاظم النفوذ .... الخ -من الظهور، فالنمو على حساب
أهداف النضال. فكانت كل تلك التجاوزات المرعبة التي دمغت نهاية الثورة.
صورة
شبه كربونية سادت الثورة الجديدة بعد انكفائها للمدن. وكان لافتا للانتباه ما حظيت
به التجاوزات وتصاعدها، من تبرير القيادات ودعمها. وكانت النتيجة خسارة الحاضنة
الشعبية الشاملة، الأردنية عموما والفلسطينية بنسبة أقل، ومنح النظام، الذي كان
يستعد جهارا نهارا، فرصة الانقضاض، وطرد الثورة – أيلول الأسود -، وغلق الحدود الأردنية،
الأطول مع العدو، في وجهها.
لبنان:
وبعد
انتقال الثورة إلى لبنان، تكرر ذات المشهد متمثلا في:
1-احتضان شعبي ووطني واسع وعميق.
2-التفاف عربي ودولي، نظم وجماهير، أيضا واسع وعميق.
3-تدفق للسلاح ولسائر متطلبات العمل.
4 – تدفق شبابي.
5 – سيطرة شبه مطلقة على الجنوب، حتى تسميته
بفتح لاند.
6 – إغراق بالمال والمساعدات المادية، وبغرض
إفساد الثورة من داخلها.
7 –ولادة فصائل مسلحة جديدة بارتباطات عربية
تتقدم على الولاء الوطني.
8 – التعامل مع المخيمات الفلسطينية باعتبارها
دفيئات تفريخ للمقاتلين. وأخيرا استئناف تكتيك حرب العصابات – الدخول بمجموعات
صغيرة -، ودون التفكير في التحول إلى استراتيجية التحرير، وبناء الوحدات العسكرية
المؤهلة للاجتياح وإقامة رؤوس جسور، لتحرير المزيد من الأرض.
وكما
حدث للجبهة الأردنية، لم يطل المقام حتى حدث الانتقال من حالة الهجوم إلى الدفاع،
فالانكفاء شمالا، وعلى مراحل، وحتى التمركز في صيدا والبقاع وبيروت .... الخ. وزاد
الحال عن الأردن أن أقامت المقاومة دولة الفاكهاني – الحي الصغير داخل بيروت
الغربية -مقاسمة ومتجاوزة للدولة اللبنانية في صلاحياتها. ولأن المقاومة، بأعداد
مقاتليها الكبير، وضعف الانضباط، وسيادة مظهرية السلاح، قد باتت مجددا في حالة من
العطالة الثورية، فقد عادت لتكرار ذات التجاوزات، وبصورة أوسع من سالفتها في الأردن،
ولتنتهي بذات النتيجة: حرب أهلية طاحنة، وتعاون فاضح لجهات لبنانية مع إسرائيل،
فخروج كامل للمقاومة، وانغلاق الحدود مع إسرائيل.
غياب:
وكنت
في " دخول إلى حقل المحرمات " قد توقفت عند حرب تشرين العام 73، ودور
المقاومة الفلسطينية فيها. وذكرت بأن الضغط على الدول العربية، للتسريع في إعادة
بناء جيوشها، واستئناف حرب التحرير، شكل الهدف المركزي للثورة الفلسطينية حينها.
لكن وعند اندلاع الحرب، كان غياب دور المقاومة أبرز علاماتها. صحيح أن وحدات من
جيش التحرير الفلسطيني كانت حاضرة، لكن ضمن دور حددته لها قيادات الجيوش المحاربة.
وأشرت إلى أن المقاومة التي كانت تسيطر على الجنوب، خاصرة إسرائيل الضعيفة، خلدت
إلى الهدوء، بديلا للعبور، واحتلال الأرض، بدءا لعملية التحرير. وطرحت السؤال التالي:
ما الذي كان سيحدث لمعنويات الجيش الإسرائيلي والسكان، لو عبر لواء فلسطيني الحدود،
واحتل قريات شموناه -الخالصة – مثلا، وهدد بالزحف لنهاريا. لكن ذلك لم يحدث، فلماذا؟
لأن استراتيجية النضال الفلسطيني، رغم الشعارات النارية، استبعدت أي دور لها في التحرير،
واكتفت، كما قبل النكبة، بإلقاء عبئه على عاتق الدول العربية، وبناءا عليه لم تحدث
أي تطوير في بنية وحداتها المقاتلة، والملائمة لحرب العصابات.
ولم يحدث،
لا بعد الخروج من الأردن، ولا من لبنان، أن دفعت هذه الانتكاسات، قيادة ولو فصيل واحد،
لوقفة مراجعة وتقييم. وعلى العكس واصلت القيادات الوفاء للتقليد الذي تكرس في ثورة
36 – 39، والقائم على تقديس الفعل والفاعل في الثورة، ومن ثم عدم الاقتراب، إلا
بالمديح للمزايا والبطولات والانجازات، الأمر الذي أدى إلى تراكم السلبيات، وإعادة
إنتاجها في الشتات الجديد.
وعلى
أية حال، فقد أسفرت حرب تشرين 73، عن خروج مصر، بعقدها لاتفاقية الصلح مع إسرائيل،
من أية مواجهة مستقبلية مع إسرائيل، ولتلحقها الأردن في اتفاقية وادي عربة. ولم
يستدع سقوط هذا العامل الأساسي في استراتيجية النضال الفلسطيني، أية ردة فعل
فلسطينية في اتجاه إعادة النظر في استراتيجية نضالها، رغم انعكاسه المباشر، بإطلاق
يد إسرائيل في الانفراد بالثورة الفلسطينية، وإرغامها على الخروج من لبنان، وإغلاق
آخر جبهة مواجهة مع إسرائيل. ربما يعود ذلك إلى ظهور جبهة الممانعة بقيادة سوريا، وشمولها،
ولو معنويا، العراق وليبيا والجزائر وإيران، ورغم ما بين أطرافها من تناقضات وصراعات.
ومع أن هذه الجبهة تفككت في حرب تحرير الكويت، ورغم إشارات سوريا الواضحة، عن
استعدادها للتخلي تماما عن القضية الفلسطينية، أثناء التحضير لمؤتمر مدريد، أبقت
القيادة الفلسطينية على موقفها الثابت من عدم إعادة النظر في استراتيجية نضالها.
واستمر هذا الحال إلى اليوم، أي بعد ما أصاب أطراف جبهة الممانعة من نتائج حروب
الدمار القائمة على أراضيها، وخروجها قسريا من أية مواجهة محتملة في العقود القادمة.
وكان
أن عاد تيار الإسلام السياسي الفلسطيني، لالتقاط المبادرة، بطرحه اعتماد وحدة
الأمة الإسلامية بديلا للقومية العربية، طريقا لتحرير فلسطين. والمدهش أن جماهير
فلسطينية غير قليلة، رأت في هذا الطرح، رغم إدراكها لاستحالته وعبثيته، مخرجا من
حالة التردي الناتجة عن اعتماد الاستراتيجية السابقة. لكنها نامت على وهم استعادة الخلافة،
متناسية أنها – الخلافة – هي، واستنادا إلى وقائع دامغة، من وضعت أسس ضياع فلسطين.
ووجد هذا الوهم مجالا للنمو من جديد، عندما أعلنت داعس قيام خلافتها. وربما لهذا
السبب نلمس هذا التعاطف من المتأسلمين الفلسطينيين مع داعش، رغم وحشية الجرائم
التي تواصل ارتكابها.
وعلى
صعيد آخر لم يستدع انهيار استراتيجية اليسار الفلسطيني خاصة، والشيوعي في المقدمة،
واليسار العربي عامة، والقائمة على تأجيل حل القضية الفلسطينية، حتى تحقيق الحتمية
التاريخية بسقوط الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، ومن ثم تحول البلدان العربية إلى الاشتراكية،
لم يستدع هذا الانهيار أيا من قادة هذه الأحزاب، لإعادة النظر في استراتيجيتها هذه،
والبحث الجدي عن بديل.
تفكير
جديد:
لكن
ذلك لم يكن هو المسار الوحيد للأحداث. ذلك أن القيادة الصهيونية أولا، ثم دولة
إسرائيل لاحقا، كانت قد نجحت، وعلى مدى يزيد عن الستين عاما، وباستغلال استراتيجية
النضال الفلسطيني في قلب هرم الصراع، بإيقافه على رأسه. نجحت، وبشكل مبهر، في تقمص
دور الضحية المهددة بالإبادة، وفي إلباس الشعب الفلسطيني ثوب الجلاد. ونجحت
ماكينات الدعاية والإعلام الصهيونية، متعددة الأذرع، وهائلة القدرة والإمكانيات،
في إدخال وتثبيت هذه الادعاءات، في أذهان وعقول أصدقائها على اتساع العالم،
فابتزاز مساعدات متنوعة، هائلة، ثابتة ومستمرة، تحت مسمى المساهمة في درء وإبعاد
شبح الإبادة ذاك. وبدل أن تعمل ماكينة الدعاية والإعلام الفلسطينية، محدودة وهزيلة
الإمكانيات، على التصدي لهذه الفرية، فقد عملت بكل طاقاتها على تثبيتها. فعلت ذلك
من منطلق الالتزام باستراتيجية النضال، والتي ترى في صورة الفلسطيني بطلا لا ضحية.
لكن
خصوصية العلاقة بين جماهير الداخل، وبين إدارة الاحتلال، أوصلت هذه الجماهير،
بقياداتها وقواها الوطنية، لقناعة عميقة وراسخة، بضرورة إنتاج وتطوير فلسفة نضال
جديدة تبلورت في:
1-مسؤولية حل القضية الوطنية تقع على عاتق شعبها
في المقام الأول.
2-اجتراح أشكال وأدوات للنضال، تنتزع المبادرة
من يد العدو، وتغادر حالة رد الفعل التي نجح العدو في تثبيت النضال الوطني عليها،
وعلى كامل عقود الصراع.
3-تحييد أسلحة العدو المتفوقة في كل المجالات،
تحقيقا لمبدأ التكافؤ في المواجهة.
4-إعادة هرم الصراع المقلوب للوقوف على قاعدته،
من خلال استعادة الدور الحقيقي، دور الضحية، وإظهار الاحتلال على حقيقته، كمجرم وجلاد.
أوصلتنا
هذه الفلسفة الجديدة إلى انتفاضة العام 87، والتي اندلعت، غير عابئة بسلاسل
الهزائم المتتالية على الجبهات؛ العربية، الإسلامية والاشتراكية. وحققت الانتفاضة
العديد من المكاسب. وقربت الشعب خطوات من تحقيق هدفه الأول؛ إنهاء الاحتلال والظفر
بالاستقلال. ومع ذلك لم تر القيادة فيها غير التهديد لمكانتها، وغير الخروج على
استقرار آليات نضالها. ولذلك لم تدفعها إلى إعادة النظر في استراتيجيتها، خصوصا
عامل مسؤولية الشعب الفلسطيني عن قضيته، ومن ثم العمل على رفع قدراته، للقيام بعبء
هذه المسؤولية. وعلى العكس جرى النكوص عن أهم آليات الانتفاضة بعسكرتها، فإهدار إنجازاتها،
في المفاوضات اللاحقة. وبعد مضي هذا الوقت الطويل، بان أن الانتفاضة وإنجازاتها،
لم تكن في نظر القيادة إلا متكأ، استخدمته لتبرير تراجعها عن هدف التحرير الذي
أمضت عقودا في تعبئة الجماهير عليه، للقبول بإعلان أوسلو، الذي قزم حق تقرير المصير،
إلى مجرد حكم ذاتي على القطاع، وأجزاء من الضفة.
البديل:
تقصير المسافات
إذن
فإن نظرة مدققة لحال العالم العربي، لا بد وأن توقف صاحبها على حقيقة ساطعة،
مؤداها انتفاء أي احتمالية لمواجهة عربية مع إسرائيل في العقود القادمة. ومؤداها
أيضا أن مسؤولية تحرير الشعب الفلسطيني، عادت إلى مكانها الطبيعي، أي أن يتحمل هو
عبئها الأساس. لكن نظرة أخرى إلى طرفي معادلة الصراع الجديدة؛ فلسطين وإسرائيل،
تكشف ذلك البون الشاسع بين قدراتهما. قدرات شعب يقبع قرب قاع العالم الثالث، تواجه
قدرات دولة تحتل موقعا متقدما بين دول العالم الأول. قدرات إذا ما بدأنا في
تعدادها واحدة بعد أخرى، يدهشنا اتساع تلك المسافة الفاصلة بين كل منهما. ومعنى
ذلك أن مواصلة النضال مائة سنة أخرى، بذات الاستراتيجية، وبنفس الآليات والأدوات،
لن توصل لأكثر من تحسين شروط الحكم الذاتي.
في
الحلقة الأولى من هذه الورقة، أشرت إلى أن مسلسل هزائمنا، ومنذ أول صدام في العام 1882،
وإلى يومنا هذا، تعود أسبابه إلى هذا العامل الحضاري بالذات. وقلت إنه من المؤسف
أن قيادات الشعب الفلسطيني، وعلى مدار القضية، لم تول أي اهتمام لهذا العامل، ومن
ثم لتضييق هذا البون الحضاري. وإذا كان من الممكن التماس العذر لقيادة عقدي
الثلاثينات والأربعينات، لافتقادها مؤهل الوقوف على دور هذا العامل، ومن ثم عجزها
عن وضع رؤيا لتضييقه، فما الذي يمكن قوله عن القيادة الجديدة، ذات التركيبة المناقضة؟
كمثال،
قلت إن قيادة الثلاثينات عهدت إلى الانتداب البريطاني عملية إخراج شعبها من مستنقع
الأمية والجهل الذي كان يرسف فيه. وقلت رغم أن الانتداب وضع حجر الأساس للنظام التعليمي،
إلا أنه لم يُعْنَ بجودة التعليم، كما كانت تفعل القيادة الصهيونية. وما لم أقله إن
أيا من الأحزاب التي نشأت في تلك الفترة، لم تسترع انتباهه هذه المسألة. وبعد
النكبة توزعت مسؤولية النهوض بالتعليم على أكثر من جهة. وكالة الغوث، الأردن ومصر.
ومع أن أيا منها لم يضع جودة التعليم في اعتباره، فإن برامج الأحزاب التي نشأت،
خلت منها أيضا. وكمثال فإن الحزب الشيوعي الذي حمل عبء مهمة التنوير، غابت جودة
التعليم عن برنامجه. والأمر ذاته انطبق على الخدمات الأخرى؛ الصحة، الزراعة، الإدارة،
القانون، القضاء، الأمن، البيئة، الخدمات الاجتماعية .........الخ.
وكان
من المفترض أن تحتل مسألة تقدم إسرائيل العلمي والحضاري، رأس أولويات قيادة الثورة
الحديثة، كونها قيادة متعلمة، تعي وتدرك دور هذا التقدم على عملية الصراع الجارية.
لكن القيادة الجديدة، وقد بدأت من حيث انتهت سابقتها، ليس فقط لم تلتفت لهذه المسألة،
بل وبذلت أقصى طاقاتها لزيادة هذا البون مع عدوها، باعتمادها لعامل الديموغرافيا،
بديلا لعامل النوع، في استراتيجية نضالها. فليس فقط أنها لم تهتم بجودة التعليم،
بل ووضعت التعليم ذاته في تناقض مع البندقية. وزادت على ذلك أن هوت بالتعليم درجات
أخرى، حين قررت منح المناضلين شهادات علمية -توجيهي السجون -كمكافأة تعويضية. وحين
جاءت السلطة زادت الطين بلة بتغاضيها عن منح الجامعات شهادات عليا لمسؤولين،
ولأقارب لهم، لم يطأوا أرض الجامعة.
يقول
كثيرون أن ذلك غير صحيح، وأن تقدما حدث على كل الصعد. ولا يرون أن المسألة ليست
مسألة مقارنة مع ما كنا عليه في الثلاثينات والأربعينات، ومع الدول العربية، أو
غيرها من دول العالم الثالث. ولا يتذكرون أن قضيتنا وصراعنا ليست مع أي من هؤلاء.
فما لا يجب أن يغيب عن أعيننا ولو للحظة؛ أن عدونا يصعد سلم الحضارة بسرعة صاروخية،
ويمتلك كل مقوماتها وتقنياتها، ونحن نصعد جبل التقدم، على ظهر حمار أعرج وهزيل.
يقولون إن انحياز أمريكا المطلق، والتي تحتل كرسي قيادة العالم، لإسرائيل، هو
المسؤول عن عدم تحقيق نضالنا لنتائجه المرجوة، وأن الأمر سيتغير مع حلول التغيرات
العالمية القادمة. وهذا القول إلى جانب ما فيه من الصحة، يعكس وعيا وإدراكا لأهمية
ميدان النضال العالمي هذا. لكنه من جانب آخر لا يعكس فهما لمقتضيات هذا النضال،
ومنها أن المصالح وليس المبادئ هي محرك الدول في تحديد مواقفها. ولذلك يبرز السؤال:
ما الذي أعددناه للتعامل مع المتغيرات القادمة؟ وحتى نقرب المسألة أكثر، تعالوا نسأل:
هل هناك مجال للمقارنة بين أداء جهازنا الدبلوماسي وجهاز إسرائيل الدبلوماسي؟ وهل
هناك مقارنة بين أداء أجهزتها الدعائية والإعلامية وأجهزتنا؟ والجواب لا ضخمة، بل
وشديدة الضخامة. والسؤال لماذا؟ وهل علينا القبول بهذا الحال إلى ما شاء الله؟
وإذا ما انتقلنا لميادين النضال الأخرى، وأداء أجهزتنا وأجهزتهم فيها، ألا نقف على
الحقيقة المرة لأقصى درجات المرارة، أن الأمر ذاته ينسحب على كل مؤسساتنا، وبلا أي
استثناء؟ والأمر المستهجن، والصادم، أننا نعرف الجواب على السؤال؛ ولماذا؟ هو
الفارق الحضاري، الآخذ في الاتساع بيننا وبينهم. وأعيد: نحن شعب يستقر على مقربة
من قاع العالم الثالث، يحارب بوسائله البدائية، وفي ميادين المواجهة المتعددة –
ميدان الأرض المحتلة واحد منها -، دولة نووية، تعمل، ليس على تثبيت، بل على تطوير
وتقدم موقعها بين دول العالم الأول. وننتظر، ويا للعجب، أن نحقق نتائج إيجابية في
المائة سنة القادمة.
البديل
تقصير المسافات:
والآن،
وإذا ما توفرت لدينا القناعة، نتيجة العرض السابق، بعدم صلاحية استراتيجية النضال
التي رافقتنا منذ بدء القضية، يبرز السؤال؛ ما هو البديل؟ لكن وقبل الإجابة،
تعالوا نعيد طرح السؤال: هل استقرارنا قرب قاع العالم الثالث، ومن ثم وجود هذا
البون الحضاري بيننا وبين إسرائيل، هو قدر لا فكاك منه؟ والجواب بسيط وواضح؛ ليس قدرا.
ولكي نحافظ على مجرد بقائنا، قبل تحقيق أية مكاسب لقضيتنا، تتوجب مغادرته وإلى
العالم الأول.
إذن
وضح البديل.
1-المسؤولية عن قضيتنا تقع على عاتقنا نحن.
ومطالبنا من أخوتنا العرب هو تقديم ما يستطيعون من عون؛ سياسي، مادي، أدبي، معنوي ....
الخ، وربما نتوقع منهم ما هو أكثر من باقي الأصدقاء.
2-هذه المسؤولية تفرض علينا تبني استراتيجية جديدة،
قوامها العمل على الانتقال بشعبنا من العالم الثالث إلى العالم الأول. وكما
أسميتها في العنوان؛ استراتيجية تقصير المسافات كمرحلة أولى. وحين نحققها ننطلق
لمرحلة تساوي المكانات. والسؤال: هل مثل هذه الاستراتيجية ممكنة التحقيق؟ والجواب
نعم وبكل تأكيد. وسؤال آخر: وكيف يكون ذلك؟ والجواب يحتاج لبعض التمهيد.
كلنا
ندرك اتساع المسافة بين واقعنا، كبلد من العالم الثالث، وبين واقع العالم الأول،
ويعنينا منه إسرائيل. لكن ولأننا قبلنا التحدي، ومنذ البدء، أي حين كنا نئن تحت
طبقات من ركام الجهل والأمية، على مواجهة المخطط الصهيوني، وأثبتنا قدرتنا، يتوجب
علينا قبول هذا التحدي الأصعب ربما. لقد ظللنا نلاحظ، ونحن نواصل الدفاع عن قضيتنا،
كيف أن الضعف في ميدان من ميادين المواجهة، كميدان الدبلوماسية، ظل يطيح بإنجازاتنا
في ميدان آخر؛ إضراب 36، وقراري التقسيم كمثال. وفي الثورة الجديدة لاحظنا ضعف
قدرتنا على تفعيل كافة ميادين نضالنا، عملها بالتوازي، وردفها الواحد للآخر.
والانتقال للعالم الأول يوفر لنا الحل لسد هذا العجز.
وكما
قلت فإن الانتقال من قرب قاع العالم الثالث إلى موضع قدم في العالم الأول، هو تحد كبير،
ولكنه ممكن، فقط إذا اقتنعنا بضرورته الحيوية. أعرف أن هناك من سيبادر إلى
الاعتراض والقول: أن هذه الاستراتيجية تحتاج وقتا طويلا، ونحن لا نملك مثل ترف
الوقت هذا. وأقول: نعم نحتاج وقتا طويلا، ما بين خمسة عشر وعشرين عاما، من بدء التطبيق.
وهذه فترة أقل بما لا يقاس من الفترة التي نحتاجها لمجرد تحسين شروط الحكم الذاتي.
وكما أشرت سابقا؛ لا نستطيع، بالاستمرار في استراتيجية نضالنا الحالية، الوصول إلى
أهدافنا، في مائة سنة. وعلى العكس، ومهما علت موجة الدق على العواطف، وتحفيز الغرائز،
سيواصل حالنا التردي، الأمر الذي يهدد بفنائنا كشعب. وسيعترض آخر: وهل علينا إيقاف
نضالنا عشرين سنة؟ وأقول: لا. علينا أن نواصل، ولكن بعقلانية أكثر.
اختيار
مثال:
وبديهي
أن مثل هذه الاستراتيجية تحتاج لتفاصيل كثيرة، ولمساهمات ومبادرات أكثر. ولكنني
على ثقة بأننا نملك الكفاءات القادرة على ذلك. لكن، وحتى لا نتوه في سراديب من أين
نبدأ؛ من التعليم، بشقية المدرسي والجامعي؟ من الصحة؟ من القضاء؟ .... الخ، سأسمح
لنفسي بطرح التصور التالي:
للبدء
بخطوة تقصير المسافات علينا أن نختار مثالا. نحدد بلدا. نقول إننا نطمح لبلوغ
مستواه بعد عشرة أعوام، خمسة عشر عاما ...الخ. بلد كانت ظروفه فيها شيء من
المقاربة لظروفنا، تخطاها وانتقل للعالم الأول. مثل هذا البلد يقع في جوارنا. قبرص،
مالطة والبرتغال. الأولى والثانية خضعتا لقرون من الحكم العثماني، ولعقود من
الاستعمار البريطاني، والثالثة تجمعها بنا قرون من الوجود العربي في الأندلس. وفي البعيد،
في آسيا: سنغافورة، كوريا الجنوبية ونيوزيلندية. وإذا ما قررنا واحدة منها، ولتكن نيوزيلندية،
نتفق مع حكومتها ومؤسساتها على استقبال مجموعات نرسلها، تدرس عمل مؤسساتها، وتعود
مؤهلة لنقل التجربة. وبتوضيح أكثر: نرسل بعثة متخصصين في التعليم مثلا، تتطلع، تدرس،
تتعلم، تنقل كل عملية التعليم بتفاصيلها، وتعود حاملة مشروع تطبيقها على مدارسنا وجامعاتنا.
والأمر ذاته في سائر مؤسساتنا التي تتبع للثلاثة وثلاثين وزارة، ولغيرها من
المؤسسات والهيئات المدنية. وبديهي أن ذلك يتطلب إجراء تعديلات أساسية، وتغييرا
للأولويات في الميزانية، وتتبعها فيما بعد عمليات جراحية كبرى، تكفل نقل المؤسسات
والهيئات لمستوى نظيراتها من العالم الأول. وأخيرا علينا أن نتوقف، كليا وقطعيا،
عن المقارنة مع شقيقاتنا العربية. فمثل هذه المقارنة لا تفعل غير شدنا إلى قاع
العالم الثالث، وبالتالي الاستمرار في حصد النتائج السلبية لنضالنا، عظمت ما عظمت تضحياتنا.