حوارات
سلمان رشدي يسأل إدوارد سعيد: هل الفلسطينيون موجودون؟
أن
تكون فلسطينيا يعني أن تعيش بهذه الخصوصية بطريقة جديدة ليس فقط كمشكلة وإنما
كهوية
ترجمة:
حسونة المصباحي
* في
عام 1986، أصدر الراحل الكبير ادوارد سعيد كتابا حمل عنوان «بعد السماء الاخيرة» AFTER
THE LAST SKY. وقد صاحبت النصوص، التي تضمنت الكتاب
المذكور والتي حاول من خلالها صاحب كتاب «الاستشراق» تحديد خصائص الهوية
الفلسطينية، صُور لفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال الاسرائيلي أو مشتتين في
المنافي، أخذها لهم المصور المعروف جان موهر. وعقب صدور الكتاب أجرى الكاتب الهندي
الأصل، البريطاني الجنسية سلمان رشدي، حوارا مع ادوارد سعيد بشأن الهوية
الفلسطينية. وقد قدمه في البداية قائلا: «بالنسبة لنا نحن جميعا الذين نرى النضال
بين المواصفات الشرقية والغربية للعالم كما لو انه في الآن نفسه نضال داخلي
وخارجي، يتعالى صوت ادوارد سعيد جدّ مهمّ. استاذا للأدب المقارن في جامعة
«كولومبيا» ومؤلفا للعديد من الدراسات الادبية، خصوصا حول جوزيف كونراد، تميز
ادوارد سعيد دائما وأبدا بخاصية قراءة العالم بأكثر انتباه مما يقرأ الكتب (..)
وهو يتحدر كما هو يقول من مجموعة اقلية من داخل مجموعة اقلية أخرى. وهو يقول
متحدثا عن عائلته كما لو انه يصف علبة صينية: «عائلتي وأنا، كنا اعضاء لمجموعة بروتستانتية
مصغرة داخل اقلية أكبر من المسيحيين الأرثوذكس اليونانيين، وايضا داخل الاغلبية
المسلمة السنية الواسعة».
هنا
مقاطع من الحوار المسهب الذي أجراه سلمان رشدي مع ادوارد سعيد بشأن الهوية
الفلسطينية، ومسائل أخرى متعلقة بها:
*
سلمان رشدي: بشأن نظرة الامريكيين للقضية الفلسطينية، هل تعتقد ان الوضع ازداد
خطورة أم هو في طور التحسن؟ وماذا تشعر أنت شخصيا؟
ادوارد
سعيد: اعتقد ان الوضع يزداد خطورة. بدءا، في نيويورك. اغلب الناس فيها والذين هم
معنيون بالقضية الفلسطينية وبالفلسطينيين ليست لهم تجربة مباشرة. وهم لا يفكرون
الا من خلال ما يشاهدونه في التلفزيون: حالات انذار بالقنابل، جرائم اغتيال، تلك
التي يسميها المسؤولون في البيت الابيض بـ «اعمال ارهابية». وهذا يولّد مشاعر لا اساس
لها حين يقدمني البعض الى أحد قد يكون سمع باسمي. فهو يتصرف بطريقة غريبة وكأنه
يريد ان يقول لي: «انت لست أكثر سوءا مما هم يقولون عنك». ولأنني اتكلم الانجليزية
بطريقة جيدة، فإن هذا يزيد الأمر تعقيدا، وخلال بقية النقاش ينتهي اغلب الناس
بالحديث عن عملي كأستاذ جامعي يدرّس الأدب المقارن، لكن يمكن ان احسّ من حولي بنوع
جديد من العنف الناتج عن احداث صيف 1982 (يقصد الغزو الاسرائيلي للبنان). ففي تلك
الفترة، حدثت قطيعة مهمة مع الماضي، سواء كان ذلك بالنسبة للذين يساندون اسرائيل
في الولايات المتحدة الامريكية أو بالنسبة لأناس مثلنا نحن، يمثل تدمير بيروت،
بيروتنا، نهاية حقبة تاريخية. اغلب الوقت، نحن نشعر اننا نعيش حياة عادية، لكن
احيانا، نجد أنفسنا بمواجهة تهديد أو تلميح بذلك غالبا ما يكون جد مزعج(..).
* هل
ان اصدار اشياء عن القضية الفلسطينية، أو الحديث عنها، تغير حسب رأيك؟
ـ
نعم، لقد تغير الى حد ما، انها مسألة فجرت كما أنت تعلم خلافا بين اليمين واليسار
في امريكا، ولا يزال هناك بعض الاشخاص وبعض المجموعات مثل تشومسكي والكسندر
كوكبورن يرغبون في طرح المشكلة علانية، غير ان اغلب الناس يرغبون في التفكير بأنه
من الافضل ترك المسألة لأناس مجانين. ويوما بعد يوم يتقلص عدد الاماكن المستعدة
لقبولنا. وفي النهاية نجد أنفسنا أمام جمهور ضئيل العدد. وبطريقة ساخرة، نحن نصبح
رمزا. وفي كل مرة يتم فيها اختطاف طائرة، أو يقع حادث من هذا النوع، تتصل بي وسائل
الاعلام وتدعوني. وعندئذ يعتريني شعور غريب ذلك انهم يتصرفون معي كما لو انني أمثل
الارهاب، ومعي يتعاملون كما لو انني سفير للإرهاب يدعى الى مائدة الحوار. واتذكر
انني دعيت ذات مرة الى حوار تلفزيوني مع السفير الاسرائيلي في واشنطن وكان ذلك عقب
تحويل وجهة الباخرة «اشيل لورو». وهو لم يرفض فقط الجلوس معي في نفس الغرفة، لكنه
اراد ايضا ان يكون في عمارة أخرى غير العمارة التي كنت فيها حتى لا يصاب بعدوى
حضوري. وقد قال مقدم البرنامج للسادة المشاهدين: «أنتم تعلمون، الاستاذ ادوارد
سعيد والسفير بنيامين ناتنياهو رفضا تبادل الكلام. السفير الاسرائيلي لم يرغب في
التحدث اليه وهو...».
وقد
قاطعته انا قائلا: «هذا ليس صحيحا.. انا على اتم الاستعداد للتحدث اليه لكنه...».
ورد مقدم البرنامج قائلا: «سآخذ بعين الاعتبار ما قلته حينا.. سعادة السفير..
لماذا ترفضون التحدث الى الاستاذ ادوارد سعيد؟». ورد سعادة السفير قائلا: «لانه
يريد ان يقتلني!». ومن دون ان يرفّ له جفن، استفزه مقدم البرناج قائلا: «هل ما
تقوله صحيح؟! ارو لنا كيف سيتم ذلك؟». وراح السفير يروي كيف ان الفلسطينيين يريدون
قتل الاسرائيليين والى غير ذلك.. حقا.. انها لحالة جد غريبة وجد عبثية..».
*
انت تقول بأنك لا تريد ان تتحدث عن الدياسبورا الفلسطينية. لماذا؟
ـ
لقد كتب لي أحدهم من القدس يقول: «نحن يهود العالم»، غير انني اعتقد ان تجربتنا
مختلفة وانه من المستحيل ايجاد نقاط التقاء بيننا وبين اليهود، ربما لان تجربتنا أكثر
تواضعا. على أي حال، فكرة الوطن المنقذ لا تتوافق مع رؤيتي للأشياء.
*
إذن دعني اطرح عليك نفس السؤال الذي طرحته انت. هل أنتم موجودون؟ وإذا ما كان
الامر كذلك، ما هي الحجج والبراهين؟ وفي أي معنى توجد أمة فلسطينية؟
ـ هي
توجد بالفعل بمعنى ان هناك عددا كبيرا من الناس يمتلكون ذكريات، وهم يظهرون
اهتماما بشأن البحث في ماضيهم الذي يظهرهم وكأنهم مجموعة منسجمة. كثيرون آخرون
ايضا، خصوصا الجامعيين من الجيل الجديد، يحاولون ان يكتشفوا اشياء بشأن التجربة
السياسية والثقافية للفلسطينيين والتي تميزهم عن بقية العرب. بالإضافة الى ذلك،
تقليديا، هناك من يقوم بتحديد مواقع المنظمات الفلسطينية في اماكن غير متوقعة مثل
استراليا وامريكا الجنوبية. ومن المدهش ان هناك اناسا يأتون للعيش في «يونجستاون»
في «أوهيو». وهي مدينة لا اعرفها غير انه بالإمكان تخيلها. وهؤلاء يظلون على صلة بالأحداث
التي تجري في بيروت او بالخلافات الراهنة بين «الجبهة الشعبية» و«فتح» دون ان
يعرفوا اسم رئيس بلدية المدينة التي يقيمون فيها، والطريقة التي انتخب بها.
واخيرا، بإمكاننا ان نرى في الصور التي اخذها جان موهر والتي تضمنها كتاب: «بعد
السماء الأخيرة» ان الشعب الفلسطيني يتنقل كثيرا، وانه يحمل دائما امتعة لينقلها
من مكان الى آخر. وهذا يمنحنا دليلا اضافيا لهويتنا كشعب. ونحن نقول بصوت عال،
انهم لم يتمكنوا من التخلص منا. انه شعور هائل ـ سمه شعورا ايجابيا او شعورا
متشائلا بحسب تعبير الكاتب الفلسطيني اميل حبيبي ـ ان تستيقظ في الصباح وتقول:
«انهم لم يتمكنوا من القضاء عليّ!».
* لتجسيد
فكرة ان الاشياء يمكن ان تكون أسوأ، أنت تروي قصة أم قتل ابنها بعد زواجه بقليل.
وعندما كانت زوجته الشابة تبكيه، كانت هي تقول: «الشكر لله.. لقد حدث له هذا ولم
يحدث له شيء آخر!». وعندئذ غضبت الزوجة الشابة وردت عليها قائلة: «كيف تجرئين على
قول مثل هذا الكلام؟! هل يمكن ان يحدث له شيء أسوأ من الذي حدث له؟!». وعلقت الأم
قائلة: «انت تعلمين انه اذا ما مات عجوزا، واذا ما انت تخليت عنه مفضلة عليه رجلا
آخر، فربما يحدث له امر أسوأ.. واذن، من الافضل ان يموت الآن!».
ـ
تماما، نحن نبتكر دائما سيناريوهات اكثر سوءا.
* انه
من الصعب علينا ان نعرف اذا ما كان الأمر يتعلق بتفاؤل أو تشاؤم، لذا انا احب ان
استعمل كلمة «تشاؤل». الآن، هل بإمكانك ان تحدثنا عن الرموز التي بفضلها يوجد
الفلسطينيون وبها يتعارفون؟
ـ
اسمح لي بأن أروي لك قصة يمكن ان توضح لك ما اريد قوله: مرة، جاءني صديق حميم
ليمضي الليل في بيتي، في الصباح تناولنا فطور الصباح، كان هناك لبن بعشب خاص اسمه
الزعتر. هذا الخليط يوجد حتما في جميع انحاء العالم العربي وبطبيعة الحال في كل من
فلسطين وسورية ولبنان. غير ان صديقي قال لي: «إذا ما كان هناك زعتر فهذا دليل على
انني في بيت فلسطيني». ولأنه كان شاعرا، فإنه تحدث طويلا، وبطريقة مضجرة عن الطبخ
الفلسطيني الذي لا يختلف بصفة عامة عن الطبخ اللبناني أو السوري. وفي آخر الصباح،
كنا متفقين على أننا كفلسطينيين نمتلك مطبخا خاصا بنا.
*
إذن، حين يختار فلسطيني شيئا ما، فإن هذا يصبح فلسطينيا؟
ـ
هذا صحيح، لكن حتى بين الفلسطينيين، هناك كلمات ترمز الى المخيم أو الى المجموعة
التي اليها ينتمي الذي يتكلم، سواء كان ذلك «الجبهة الشعبية» التي تؤمن بالتحرير
الكامل لفلسطين أو «فتح» التي تؤمن بحل تفاوضي. الفلسطينيون يختارون كلمات مختلفة
لكي يتحدثوا عن التحرير الوطني، ثم هناك اللهجات الخاصة والمحلية. انه أمر مثير
للفضول ان نلتقي مثلا طفلا فلسطينيا في لبنان، ولد في مخيم للاجئين، ولم يسبق له
ان ذهب الى فلسطين ولو لمرة واحدة، غير انه يتكلم بلهجة اهالي حيفا ويافا، وهو في
لبنان.
*
ثمة شيء تنتقده داخل هويتك الفلسطينية أولا وهي نقص الجهد الجدي لتأسيس التاريخ
بهدف منحه وجودا موضوعيا؟
ـ
هذا شيء صحيح ايضا، من المهم ان نلاحظ ان ما كان يكتبه الفلسطينيون حتى عام 1948
كان يعبّر عن خوفهم من ضياع بلدهم. والوصف الذي كانوا يقومون به للمدن وللأماكن
الفلسطينية الأخرى كان يشبه مرافعة أمام محكمة، لكن بعد تشتت الفلسطينيين، جاءت
فترة صمت مثيرة للاستغراب، وتواصلت الى حد تطور أدب فلسطيني جديد خلال الخمسينات،
وخلال الستينات بالخصوص، ولأنه جد مهم، فإن أي قصة من التاريخ الفلسطيني لم تتمكن
من البروز في عمل فني متكامل ونهائي. فكما لو انه ليس هناك ما يكفي من الوقت
للقيام بذلك، وكما لو اننا نشعر طول الوقت بأن العدو ـ أي اسرائيل ـ يمكن ان
يحرمنا من ارشيفنا. بالنسبة لنا، الحدث الاكثر فظاعة خلال عام 1982 هو استيلاء
الاسرائيليين على ارشيف مركز البحوث الفلسطينية في بيروت ونقله بحرا الى تل ابيب.
* في
المجال الادبي، وليس التاريخي، انت تزعم ان نقص القص يعود الى الانقطاعات الدائمة
والمستمرة في الوجود الفلسطيني. فهل هذا مرتبط بمشكلة كتابة التاريخ؟
ـ
نعم، هناك تجارب فلسطينية عديدة ليس بإمكاننا ان نجمعها ضمن اطار واحد، فمن
المحتمل عندئذ ان نجد انفسنا مجبرين على كتابة قصص متوازية للمجموعات الفلسطينية
في لبنان، وفي الاراضي المحتلة... الخ. انها المسألة المركزية. من المستحيل ان
نتصور قصة واحدة، الافضل ان يكون هناك تاريخ مختل ومجنون كما هو الحال في روايتك
«ابناء منتصف الليل» بكل أولئك الاحفاد الذين يدخلون ويخرجون.
*
لقد تحدثت عن «التشاؤل»، الظاهرة الاولى لمحاولة الكتابة في شكل يبدو كما لو انه
بلا شكل، وهو يعكس في الحقيقة عدم استقرار الاوضاع. هل بإمكانك ان توضح لنا هذه
المسألة؟
ـ
ربما تكون وجهة نظر مغاليا فيها الى حد ما، فأنا نفسي لست مختصا في الادب
الفلسطيني، وبالتأكيد في الادب العربي بصفة عامة. مع ذلك انا مفتون بالشعور الذي
احدثته لي رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، الذي تظهر كتابتها اننا لا نعرف إذا
ما نحن نتكلم عن الماضي أو عن الحاضر. وهناك رواية أخرى له عنوانها: «عائد الى
حيفا» تروي قصة عائلة هاجرت عام 1948 لتستقر في رام الله. وافراد هذه العائلة
يعودون بعد ذلك لزيارة بيتهم في حيفا ويعثرون على الطفل الذي تركوه اثناء فوضى
الفرار والذي تبنّته عائلة اسرائيلية. من خلال هذه الرواية، هناك احساس عميق بحركة
زمنية لا متناهية، فيها يمتزج الحاضر بالماضي والمستقبل من دون ان يكون هناك مركز
محدد.
*
بإمكانك ان تتحدث الآن عن ذلك الحوار الطويل في «بعد السماء الأخيرة» حول الاصوات
المخنوقة للنساء الفلسطينيات. وأنت تكتب قائلا: «مع ذلك، أرى ان في كل هذا مشكلا
اساسيا ـ الغياب المركب للنساء. وفيما عدا بعض الاستثناءات، تبدو النساء وكأنهن لم
يلعبن غير دور الوسيط، وبالتالي دورا ثانويا. وإذا لم نكن قادرين على سماع صوت
النساء داخل حيواتنا ذاتها، واضحة، متيقظة، مفعمة بالشفقة والرحمة، وموجعة بشكل
هائل، ومنيعة بشكل مدهش، فإنه لن يكون بمقدورنا ان نفهم عملية السلب التي تعرضنا
لها. وأنت تقدم فيلم «ذاكرة خصبة» لميشيال خليفي الذي يتحدث عن تجربة فلسطينيتين
شابتين لتجسيد ما قلت.
ـ
نعم، هذا الفيلم اثارني جدا، من المشاهد المؤثرة للغاية تلك التي تتحدث عن النساء
المسنات، والتي هي في حقيقة الامر حالة ميشال خليفي. هي تملك مزرعة في بيت لحم
عليها تعيش منذ سنوات عديدة عائلة يهودية، لكن ذات يوم يأتي زوج ابنتها مصحوبا
بابنتها لإعلامها بأن العائلة اليهودية ترغب في شراء المزرعة حسب الأمور المعمول
بها قانونيا. وترد هي قائلة بأن ذلك لا يعنيها. «ماذا تريدان ان تقولا؟» تلح
عليهما قائلة: «انهم يسكنون هناك. والارض لهم. وهم يريدون بكل بساطة تسجيل الاشياء
بإعطائك مالا مقابل المزرعة». تقول البنت وترد هي: «لا اريد ذلك». انه موقف غير
عقلاني ويقوم خليفي بتصوير عبارات العناد على وجه العجوز، وايضا هيئتها المضحكة.
وتضيف هي قائلة: «الآن ليس لي ارض، لكن من يدري ماذا سيحدث. كنا نحن هناك في
البداية، ثم جاء اليهود وجاء آخرون بعدهم. أنا املك الارض وسوف اموت. والارض ستظل
هناك رغم القادمين والرائحين». ثم تؤخذ العجوز الى المزرعة للمرة الاولى. والمزرعة
كان قد تركها لها زوجها الذي ذهب الى لبنان عام 1948 ثم مات هناك. ويصور خليفي
التجربة الخارقة للعادة لهذه المرأة التي تمشي فوق الارض التي تملكها، والتي لم
تعد لها، بخطوات محسوبة، ثم فجأة تتغير ملامحها حينما تدرك عبثية كل ذلك، ثم تمضي.
هذا المشهد هو بالنسبة لي المثال الرائع للحضور الدائم للمرأة في الحياة
الفلسطينية، وفي الآن نفسه لنقص الاعتراف بهذا الحضور. هناك كراهية كبيرة للنساء
في العالم العربي، وهناك نوع من الخوف ومن الرفض يتواجدان الى جانب الاعجاب
والاحترام. اتذكر مثالا آخر، كنت مع صديق آخر وكنا ننظر الى صورة فلسطينية هائلة
الحجم وجد مثيرة لكنها سعيدة، ويداها معقودتان فوق صدرها. هذا الصديق لخّص هذه
المفارقة قائلا: «ها هي المرأة الفلسطينية بكل قوتها وبكل بشاعتها». ان صورة هذه
المرأة التي اخذها لها جان موهر تبدو وكأنها تقول شيئا لم يكن باستطاعتنا نحن ان نصل
اليه. انها واحدة من هذه التجارب التي احاول التعبير عنها في هذه الفوضى
الفلسطينية.
* في
«بعد السماء الأخيرة» انت تقول بأنه بسبب عيشك داخل الثقافة الغربية، انت تفهم،
مثلما يمكن ان يفعل ذلك انسان غير يهودي، تأثير الصهيونية على الشعب اليهودي. وأنت
تصف ذلك ايضا كما لو انه برنامج تقبل بطيء وصلب، كان أكثر نجاعة من اي برنامج يمكن
ان يقدمه الفلسطينيون لمعارضته. والمشكل هو ان كل محاولة لنقد الصهيونية تواجه
اليوم تحديدا تهمة معاداة السامية بطريقة مقنعة. ان نجيب بأننا لسنا معادين
للصهيونية غير اننا ضد الصهيونية هو يتقبل دائما أو احيانا بـ: «نحن نعلم ماذا
يعني هذا». وفي كتابك «القضية الفلسطينية» أنت تقترح نقدا حياديا لكنه ناجع ضد
الصهيونية كظاهرة تاريخية. هل بإمكانك اضافة بعض الكلمات؟
ـ
برأيي ان المشكلة الصهيونية هي حجر المحك لحكم سياسي معاصر. اناس كثيرون هم سعداء لأنهم
يهاجمون سياسة التمييز العنصري في جنوب افريقيا أو التدخل الامريكي في امريكا
الوسطى غير انهم ليسوا مستعدين لمناقشة موضوع الصهيونية وما فعلته بالفلسطينيين.
ان تكون ضحية لضحية يسبب مشاكل خارقة للعادة، ذلك انه إذا ما نحن حاولنا التحدث عن
الضحية الكلاسيكية لجميع الأزمنة، اي اليهودي وتيهه عبر العالم، ثم نحاول ان نقدم أنفسنا
كما لو اننا ضحية اليهودي فإن ذلك يكون بمثابة الكوميديا الجديرة باحدى رواياتك،
لكن هناك الآن بعدا آخر مثل ذلك يمكننا ان نراه مع غزارة الكتب والمقالات التي
فيها يصبح نقد اسرائيل كما لو انه قناع لمعاداة السامية. ويوجد هذا في الولايات
المتحدة الامريكية بصفة خاصة. فأي كلام تقوله كعربي مسلم، هو يعتبر كما لو انه
يواصل الخطاب الاوروبي الكلاسيكي المعادي للسامية. لذا فإنه أصبح من الضروري ان
نركز جهودنا على التاريخ وعلى الإطار الخاص للصهيونية حين نتحدث عما تمثله بالنسبة
للفلسطيني.
*
المشكلة إذن هي ان نظهر للناس ان الصهيونية هي كأي شيء في التاريخ، وان لها جذورا،
وإنها تتوجه الى هدف معين. هل تعتقد ان الصهيونية تغيرت من حيث الطابع خلال
السنوات الاخيرة خارج الوضع الذي اصبحت فيه موضوعا للانتقاد؟
ـ من
الاشياء التي تهمني أكثر من غيرها هي قدرة الناس على عدم التجمّد في مواقف اختلاف
وعداوات متبادلة، وخلال العشرة اعوام الاخيرة، التقيت بعدد كبير من اليهود الذين
يبدون اهتماما بنوع من التبادل، واحداث الستينات خلقت مجموعة مهمة من اليهود الذين
يشعرون بنوع من الاستياء امام القيم المطلقة للصهيونية. المفهوم الكامل للعبور من
هوية الى أخرى هو بالنسبة لي جد مهم ذلك اننا كما نحن نوع من الشعب الهجين.
*
ارغب في ان اطرح عليك بعض الاسئلة الشخصية. انت تقول بأن الانسان حين يحدد هويته
كفلسطيني فإن ذلك يعني انه قادم من الثقافة الاسلامية. مع ذلك انت لست مسلما. فهل
هذا يطرح مشكلا؟ وهل هناك خلافات بشأن هذه المسألة؟
ـ كل
ما ..أستطيع قوله هو انه لم يكن لي اي تجربة خلافات من هذا النوع. شعوري الخاص هو
ان وضعنا كفلسطينيين مختلف جدا عن الوضع في لبنان، حيث الصراعات بين السنة والشيعة
والمارونيين والأرثوذكس... الخ. كانت دائما جد عنيفة عبر التاريخ. ان تكون
فلسطينيا يعلمك ان تعيش بخاصيتك، بطريقة جديدة ليس فقط كمشكل وانما كهوية، كان ذلك
في العالم العربي او في غير العالم العربي، يمكن القول ان مجتمع الجموع حطم الهوية
بطريقة جد قوية حتى انه أصبح من المفيد الحفاظ على هذه الخاصية بشكل حي.
*
انت تكتب ما يلي: «الاغلبية الساحقة من شعبنا تشعر بالتقزّز والاشمئزاز تجاه كل
المآسي والنكبات التي ضربتنا، والتي في جزء منها هي بسبب اخطائنا، وفي جزء آخر
بسبب اخطاء أولئك الذين سلبونا ارضنا، وفي جزء آخر بسبب عدم قدرة قضيتنا على تعبئة
اصدقائنا بما فيه الكفاية بهدف الانتصار على اعدائنا. من جانب آخر، انا لم التق
أبدا فلسطينيا جد متعب من ان يكون فلسطينيا مستعدا للتنازل عن كل شيء».
ـ
هذا الكلام سليم!
*
هذا يقودني الى نقطتي الاخيرة. خلافا لكتبك الثلاثة السابقة، المركزة على الصراعات
بين الثقافات الشرقية والغربية، انت تهتم في كتابك الجديد أعنى بذلك «بعد السماء
الأخيرة» بالصراع أو بالأحرى بالديالكتيك الداخلي في قلب الهوية الفلسطينية. هل
تفترض انه بعد فترة من الانفتاح على الخارج، هناك فلسطينيون كثيرون يعودون الى أنفسهم.
ولماذا؟ ما هي تجربتك الخاصة في هذا الشأن؟
ـ أستطيع
ان اقول ان هناك خيبة كبيرة، اغلب الناس الذين ينتمون الى جيلي ـ ليس باستطاعتي ان
اتكلم حقا باسم الآخرين ـ كبروا في وضع يسيطر عليه الاحباط، ثم في نهاية الستينات،
ومطلع السبعينات، ارتبط حماس هائل وفتنة رومانسية بحركة جديدة كانت تولد من
رمادها. اشياء قليلة جدا انجزت على المستوى العادي. ولا قطعة ارض واحدة حررت خلال
هذه الفترة، اضافة الى ذلك التحريض الذي كانت تقوم به المقاومة الفلسطينية، كان قد
خلق جوا حماسيا ينتسب الى القومية العربية وحتى بطريقة ساخرة وخارقة الى الطفرة
البترولية العربية. الآن، كل هذا يتفتت امام اعيننا لكي يترك المكان شاغرا للخيبة،
ونحن نتساءل إذا ما كان علينا ان نفعل ذلك والى اي وجهة نحن نمضي؟ لقد كتبت «بعد
السماء الأخيرة»، لكي اعبّر عن هذه الحالة، والصور التي احتواها الكتاب كانت مهمة
ذلك انها تبرز اننا لا نتكلم فقط عن خيباتنا الخاصة والمتعلقة بنا. لقد أصبح
الفلسطينيون سلعة أو ملكا مشاعا، مفيدا، لكي نفسر مثلا ظاهرة الارهاب.