جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

الأزمة الرأسمالية العظمى.. هل من مخرج؟!










تمر الرأسمالية اليوم في أزمة نزعم أنها الأعمق منذ نشوئها. أزمة بنيوية، شاملة، غير مسبوقة، وقد تكون النهائية إذا توفر للبشرية العامل الذاتي للقضاء عليها.. هذا ما سنحاول البرهان عليه من خلال هذه الدراسة، وصولاً إلى منصة نظرية نتلمس منها المخارج المتبقية للرأسمالية ونناقش مدى واقعية تلك المخارج..

Iمقدمات نظرية:
1- عدالة - نمو:
إن جوهر الرأسمالية كظاهرة اجتماعية وفقاً للماركسية هو أسلوبها في الإنتاج، ذلك الأسلوب الذي تمثّل فيه القوى المنتجة جانب المضمون في حين تلعب علاقات الإنتاج دور الشكل الذي يحدد العلاقة بين مكوّنات المضمون. وكما هو الحال مع أية ظاهرة مادية أخرى، فإن الرأسمالية تبقى قابلة للحياة طالما يسمح شكلها لمضمونها بالتطور، أي طالما تسمح علاقات الإنتاج للقوى المنتجة بالتطور. وتطور القوى المنتجة لا يمكن أن يتحقق بغير ازدياد مضطرد في الإنتاج، أي في أرقام النمو (الحقيقية)، وإذا أضفنا إلى ذلك عامل توزيع الثروة الذي ينتمي إلى الشكل (إلى علاقات الإنتاج) لأصبح من الواضح أن التمركز المضطرد والمتسارع للثروة يحتاج في المقابل إلى ازدياد ليس مضطرد وفقط وإنما إلى ازدياد أسيّ في الثروة، ولما كانت أرقام النمو في بلدان العالم المختلفة اليوم هي ما نراه، فإن أعلاها وما ينتجه من قيمة منتجة مجدداً لا يتناسب البتة مع درجة تمركز الثروة الحاصل.. يوصلنا هذا إلى القول أنه في الوقت الذي كانت فيه أرقام النمو العالية ضرورةً لتحقيق درجة ما من العدالة الاجتماعية، فإننا أمام واقع يطالب بما هو معاكس تماماً أي أن تحقيق أي نمو أصبح بحاجة إلى درجات أعلى من العدالة الاجتماعية، أي إلى إعادة توزيع الثروة بما يجعل درجة تمركزها متناسبة مع درجة تطور القوى المنتجة..

2- التشوه الهيكلي:
يمثل "السعي نحو الربح الأعلى" القانون الأول من القوانين الاقتصادية للرأسمالية، لكن هذا القانون بتفاعله مع قانون ميل معدل الربح نحو الانخفاض مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال، ينتج ميلاً موضوعياً نحو علاقة مشوهة بين القطاعات الإنتاجية والقطاعات غير الإنتاجية، ذلك أن تعقد العملية الإنتاجية والازدياد المضطرد في درجة تقسيم العمل تفسح المجال للقطاعات الخدمية للاستحواذ على نسب أكبر فأكبر من القيمة الزائدة المنتجة على المستوى الكلي، حيث يؤدي التعقد المستمر في التركيب العضوي لرأس المال وفي درجة تقسيم العمل إلى تبعية الإنتاجي تبعية متزايدة للقطاع المالي والخدمي عامة لتأمين التمويل من جهة والاحتياجات الخدمية المتصاعدة من جهة أخرى. وبما أن الخدمي وفقاً لهذه العلاقة يمسك بخناق الإنتاجي ويربح أكثر منه، فإن ميلاً موضوعياً ينشأ لدى الرأسماليين للانخراط في الخدمي من استطاع إليه سبيلاً.. أي أن الميل نحو التشوّه ومزيد من التشوه الهيكلي هو قانون موضوعي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، وليس خللاً في التشريعات والقوانين الوضعية الناظمة للاقتصاد كما يصوّر منظّرو الرأسمالية.
هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فإن تحكم الخدمي بالإنتاجي لا يقتصر على حيازة القسم الأكبر من الأرباح، بل يتعدى ذلك إلى التحكم بالهوية الإنتاجية، أي أن الإنتاجي الذي كان يعمل أيام المزاحمة الحرة على تلبية الطلب من خلال تطوير الإنتاج وتحسين جودته، أصبح الآن محكوماً إلى رأس المال المالي الذي يركز توظيفاته في الإنتاج ذي الربح الأعلى بغضّ النظر عن الهوية الإنتاجية، معتمداً في ذلك على قدرته على خلق الطلب بعد أن أنجز التطور التقني وعلى الأخص الزراعي في الدول المتقدمة مهمته في تأمين مخصصاته من القيمة اللازمة لإعادة إنتاج قوة العمل لقاء كميات عمل صغيرة نسبياً، وأصبح المجال أوسع بكثير للاستهلاك في الخدمات..

3- الأزمات من الدورية إلى البنيوية:
تنتج الأزمة الدورية أو أزمة فيض الإنتاج عن عدم القدرة على التحكم بالعرض والطلب، حيث يتوجه الإنتاج ليغطي الطلب العالي الذي يدرّ ربحاً أعلى على أساس ارتفاع السعر فوق القيمة، حيث يربح الرأسمالي في هذه الحالة إضافة إلى القيمة الزائدة الفارق بين السعر والقيمة، ولما كان لعاب الرأسمال يسيل مهراقاً فإنه يجنّد طاقاته حتى أقصاها لتلبية الطلب العالي، الأمر الذي يُغرق السوق بعرضٍ أكبر بكثير من الطلب مما يؤدي إلى كساد البضائع الفائضة التي تذهب نحو الإتلاف لإعادة التوازن وتقليل الخسائر ومن ثم بعد فترة انكماش تبدأ الدورة من جديد مع انتعاش الطلب. قام ماركس بحساب عمر الأزمة الدورية بأطوارها الثلاثة (انتعاش – ركود/كساد - انكماش) فوَجَده 14 سنة، وحسبه لاحقاً فوَجَده أقل من ذلك، فما هو عمر الأزمة الدورية اليوم، وكيف تعامل الرأسمال معها؟
يزعم منظّرو الرأسمالية أنها، بتطورها وتحديداً بتطور تكنولوجيا المعلومات، أصبحت قادرة إلى حد بعيد على تقصّي الطلب وتحولاته المستمرة وتالياً تقديم عرض مناسب للطلب، وفي المحصلة يقولون إن الرأسمالية تجاوزت الأزمة الدورية نهائياً. إلى جانب كون الوقائع أشياءً عنيدة وتثبت باستمرار أن الأزمة الدورية موجودة طالما وجد الكساد، فإن الوجود المستمر للكساد يعني الوجود المستمر للأزمة الدورية، وفوق ذلك فإن ماركس إذ تنبأ بالتناقص المستمر لعمر الأزمة الدورية فإن الحياة اليوم تقول أن الأزمة الدورية تحولت إلى أزمة مستمرة، أي أن عمرها أصبح صفراً!
عمدت الرأسمالية إلى التلاعب بالقانون الموضوعي للعلاقة بين العرض والطلب، وظهر ذلك بادئ الأمر كخضوع ذليل للقانون حين كان يُرمى الفائض في عرض المحيطات، ولكنه تحول بعد ذلك إلى تكديس لبضائع من نوع خاص!، (سلاح + مال)..
باتحاد رأس المال الصناعي مع رأس المال المصرفي ونشوء رأس المال المالي، بدأ تحويل جزء من الفائض إلى مال يتم تصديره كبضاعة يُقبل عليها الطلب في الأسواق الجديدة التي لم تترسمل بعد.. ومع ظهور المجمع الصناعي العسكري الأمريكي بدأت الرأسمالية بتحويل جزء آخر من الفائض إلى سلاح، تلك البضاعة التي لا حاجة حقيقة للبشرية فيها لكن ميزتها أن من الممكن خلق طلب عليها بافتعال الفتن والحروب، حيث تحمل الأرض اليوم أسلحة تربو قيمتها عن 50 تريليون دولار على أقل تقدير وبقوة تدميرية كافية لتدمير الأرض أربع مرات..
إن تكديس الفائض، إذْ حاول التعامل مع الأزمة الدورية بإعطائها المسكنات فإنه أوصل الرأسمالية إلى الحد الذي أصبح فيه المرض عضوياً وبنيوياً، تحولت الأزمة الدورية إلى أزمة مستمرة.. إلى أزمة بنيوية.

4- مراحل الأزمة:
مرت أزمة 1929 بأربعة مراحل متتالية هي على التوالي: (المالية، الاقتصادية، الاجتماعية-السياسية، الحرب والانتعاش). الجديد في الأزمة الحالية أن الرأسمالية إذ فهمت قنونة الأزمة فقد حاولت التلاعب بها، وهي إذ توقعت انفجار الأزمة فقد حاولت حرق المراحل في محاولة منها لتجنبها، فبدأت بالحرب منذ أفغانستان 2001 وأتبعتها بالعراق 2003 و لبنان 2006، وما تخلل ذلك من حروب صغيرة ومستمرة في الصومال والسودان وموريتانية وعدد من دول آسيا المجاورة لروسيا، وأماكن أخرى. وإذ لم تستطع هذه الحروب تحقيق غايتها ضمن الآجال الزمنية الموضوعة لها فإن انفجار الأزمة في طورها المالي جاء ليُحدث حالة تشبه في الفيزياء حالة التجاوب الحاد حيث تتراكب موجتا المؤثر والمتأثر بطاقة أعظمية وتُحدث أثراً ضاراً وشديد الخطورة.. العسكرة لا تعود قادرة على تخديم فائض المال، وفائض المال لا يعود قادراً على تحريك الآلة العسكرية..

5- انهيار المدرسة الميركانتيلية وحساب GDP:
بدأت الأسس التي قامت عليها المدرسة (النقدية/ التجارية/ الميركانتيلية)، وكما يسميها بعض الباحثين الربوّية، بالانهيار مع ظهور الاقتصاد السياسي الكلاسيكي على يد آدم سميث ومن بعده ريكاردو وصولاً إلى ماركس. وإن كان تداعي الميركانتيلية في حينه هو تداعٍ منطقي ونظري فإن انهيارها التاريخي والعملي تثبت فعلياً مع انفجار الأزمة الحالية عام 2008. ولعل واحدة من أهم الإشارات على ذلك هي المؤتمر الاقتصادي الذي دعا إليه ساركوزي عام 2009 وكان من بين حضوره الاقتصادي المعروف ستيغلتز وكان موضوع بحث ذلك المؤتمر هو إعادة تعريف مفهوم الناتج الإجمالي المحلي أو GDP..
يُحسب GDP في كل الاقتصاديات العالمية وفقاً للمدرسة الميركانتيلية حيث (الثروة تنتج الثروة) على أساس جمع ناتج القطاعات الاقتصادية المختلفة، الحقيقي منها والخدمي، وينعكس ذلك مباشرة في حساب أرقام النمو: "(∆-;-GDP/GDP) – 10%" حيث تمثل الـ 10% وسطي الاهتلاكات. الخطأ في هذا الحساب ليس ذا بعد نظري فقط، وبعده النظري واضح في حسابه المكرر لناتج الخدمي الذي ليس سوى إعادة توزيع للقيمة المنتجة مجدداً أو الدخل الوطني، ولكنه ذو بعد أيديولوجي أيضاً، فهو إذ يضخّم الحساب القومي فإنه يقابل كماًّ محدداً من الثروة المادية بكمّ أكبر منه ثروة اسمية، الأمر الذي ينعكس مباشرة على الأسعار ويخفض من القيمة الشرائية للعملة ويؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة توزيع مُشَرْعنة ومخفية للثروة لمصلحة الأرباح..

6- البيئة وتكنولوجيا الإنتاج:
يميز ماركس في حديثه عن التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية بين تشكيلة وأخرى ليس فقط من خلال تمييز القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج لكل منها ولكنه يضيف مفهوماً حاسماً وهو تكنولوجيا الإنتاج ويقول في هذا السياق إن ما يميز تشكيلة اقتصادية- اجتماعية عن أخرى ليس ما تنتجه كل تشكيلة وإنما كيف تنتجه..
أصبح من الواضح اليوم أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي، إذ يحوي في داخله تناقضاً بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، يضع الإنسان في مواجهة الإنسان، فإن تكنولوجيا الإنتاج الرأسمالي تضيف إلى ذلك تناقضاً خارجياً بين أسلوب الإنتاج نفسه والطبيعة، أي بين الإنسان والطبيعة، والعلة الاقتصادية لهذا الأمر هو أن الرأسمالية لم تكتف بنهب كميات العمل الحالية والماضية بل تجاوزت ذلك إلى نهب كميات عمل مستقبلية!! أي أن البشرية إذا ما قدر لها ألا تفنى على يد الرأسمالية فإنها ولكي تتابع مسيرتها على هذا الكوكب أو غيره فهي مضطرة إلى بذل كميات عمل هائلة تستصلح من خلالها ما خربته الرأسمالية في البيئة وتعيد رضا الطبيعة عن الإنسان..

II التطور الملموس:
بريتين وودز:
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت العملات العالمية جميعها عملات محلية، وكان التبادل بين الدول المختلفة يتم على أساس معادل مشترك هو الذهب الذي كان قادراً في حينه على لعب دور المعادل لتحقيقه الشروط اللازمة والتي تتمثل بالوفرة النسبية مقارنة بكم الإنتاج، وبحياديته، أي أنه غير مملوك من جهة محددة بعينها، وبكونه يلعب دور النقد أكثر بكثير من كونه سلعة. استمر الأمر كذلك حتى عام 1944 واتفاقية بريتين وودز التي جاءت لتعبر عن نتائج الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب وهي أكبر المنتصرين، وإذا وضعنا جانباً المعاني الأيديولوجية والسياسية للحرب وأبقينا على الجانب الاقتصادي لوجدنا أن أمريكا هي المنتصر الوحيد وذلك تحت تأثير ثلاثة عوامل:
1. لم تجر أي من وقائع الحرب على الأراضي الأمريكية، في حين أن أوروبا تكاد تكون دُمرت بكاملها، وكذلك اليابان.
2. خسرت أمريكا في الحرب 0.4 مليون شخص، في حين أوقعت الحرب في المجموع النهائي ما يقرب من 55 مليون قتيل، أي أن أمريكا تحمّلت من الأعباء البشرية للحرب ما نسبته 0.7% فقط لا غير.. إضافة إلى أنها كبّلت معظم دول الحلفاء بديون ضخمة وصلت إلى 50 مليار دولار في الجانب العسكري فقط
3. هاجرت معظم رؤوس الأموال الأوروبية إلى أمريكا هرباً من الدمار، وهذا هو الأهم.
وفي المحصلة فإن أمريكا خرجت من الحرب واقتصادها ينتج ما يصل إلى 30% من الناتج العالمي، إضافة إلى امتلاكها القنبلة النووية التي لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من امتلاكها حتى عام 1949. جاءت بريتين وودز إذاً لتعبر عن توازن دولي جديد تقهقرت فيه دول الاستعمار القديم (البريطاني والفرنسي وبقايا الاسباني، البرتغالي والايطالي) وأُثخنت بالجراح الأمر الذي سيفتح الباب لاحقاً بمساعدة الاتحاد السوفييتي أمام حركات التحرر الوطني في العالم الثالث لتُخرج الاستعمار القديم من الباب وليدخل عليها الاستعمار الجديد من الشباك..
ثبّتت معاهدة بريتين وودز الدولار كعملة عالمية لكنها لم تعفه من تغطية نفسه بالذهب، أي أن المعادل العالمي بقي وفقاً لهذا التشريع هو الذهب إلى جانب الدولار المغطى ذهبياً، ولما كان من غير الممكن في حينه معرفة الحاجة الفعلية للسوق العالمية من الدولار، وكذلك كان من غير الممكن إحصاء كمية الدولار المطروحة في السوق سوى من الأمريكان طبعاً، فإن آلة الطباعة بدأت بالعمل النشيط على مدار الساعة، مستفيدة من الموقع المتقدم الذي منحتها إياه بريتين وودز ومن ثم البدء بمشروع مارشال الذي سمح لأمريكا أن تستلم أوروبا من بابها إلى محرابها في تعهد إعادة إعمار!
بهذا فإن بريتين وودز سمحت لأمريكا أن تطبع عملة لا تساوي حقيقة سوى قيمة طباعتها وتبادلها ببضائع تساوي قيمتها الاسمية، ومثلت هذه العملية أكبر نهب شهده التاريخ البشري، إذ إن تكلفة طباعة ورقة المائة دولار هي أربعة سنتات ولكن أمريكا كانت تشتري بتلك الأربع سنتات بضاعة بقيمة مئة دولار أي أن معدل الربح وصل في هذه العملية إلى 250 ألف%!! وكان ماركس قد قال إن الرأسمال حين يصل إلى معدّل ربح 300% فإنه لا يتورع عن فعل أي شيء للحفاظ على هذا المعدل، فكيف بمعدل فلكي من هذا النوع!!

انهيار بريتين وودز:
استمرت هذه العملية حتى مطالع السبعينات حيث اكتشف شارل ديغول اللعبة وقرر الانتقام فحمّل طائرة بكمية هائلة من الدولارات وذهب بها إلى أمريكا مطالباً باستبدالها ذهباً وفقاً للمعاهدة فاضطر الأمريكان إلى إعطائه 200 طن ذهب واعتبروا من حينه أن بريتين وودز قد انتهت، ولكن جاء ذلك بعد أن تثبت الدولار كعملة عالمية بفعل العسكرة المتضخمة من جهة، ومن الجهة الأخرى بفعل السيطرة على مفاصل أساسية في التجارة العالمية وتحديداً تلك التي تخص الثروات الباطنية وعلى رأسها النفط، حيث ثبتت أمريكا استعمارها الجديد لقسم هام من الكرة الأرضية، وعليه فقد استمرت أمريكا بطباعة دولارها والنهب من خلاله. تحول الدولار الذي كان معادلاً إلى سلعة وفقد بهذا المعنى حقه في أن يكون معادلاً، وفوق ذلك فإنه مملوك لجهة محددة وهذا يتناقض مع دوره كمعادل، ولهذا بدأنا نسمع اليوم بالعديد من الأطروحات التي تبحث عن معادل عام جديد..
لم تتوقف أمريكا وتحديداً البنك الفيدرالي عن طباعة الدولار ورميه في السوق العالمية والنهب بوساطته، ومعلوم أن البنك الفيدرالي هو شركة خاصة مملوكة لمجموعة ضيقة من العائلات المالكة.. ولأن القوانين الموضوعية لا يمكن العبث معها طويلاً، فإن كمية الدولار المطروحة في السوق العالمية أصبحت فائضة عن حاجة السوق بأضعاف عدة خلال السبعينيات والثمانينيات، ووصل الأمر ببعض المحللين السياسيين في حينه إلى القول بأن كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي كانا يتسابقان نحو الانهيار، وما حصل هو أن الاتحاد السوفييتي انتصر في هذا السباق نحو الانهيار!، الأمر الذي مكّن أمريكا من تأجيل انكشاف تضخم عملتها بتسليع ما وصل إلى خمس ترليونات دولار عبر نهب الاتحاد السوفييتي المنهار، ولكن الأمر لم يدم طويلاً فعاد التضخم ليتعمق أكثر مع استمرار الطباعة حتى جاء الحل المؤقت على يد البورصة..

الدور الجديد للبورصة:
تكوّن الشكل الحالي للبورصة عام 1995 حيث حوت مبادلات تعكس حجم مضاربة مالية واسع جداً، وكانت المضاربة المالية قبل ذلك التاريخ تشكل جزءاً يسيراً من تداولات البورصة، يقدره بعض الاقتصاديين بـ 10% من إجمالي التداولات.
إن هذا التحول مكن الرأسمال الأمريكي من إخفاء تضخم الدولار مؤقتاً، حيث يمكن تشبيه عمل البورصة ما بعد 1995 بعمل الغسالة الأتوماتيكية التي بفعل دورانها السريع وتولد القوة النابذة فإن الملابس لا تعود ظاهرة للناظر، وكذلك الأمر مع الدولار: فإن البورصة ومن خلال التداولات الوهمية أعفت جزءاً من الكتلة الدولارية من تغطية نفسها بالإنتاج الحقيقي طالما هي تستند اسمياً إلى شركات ومعامل وإن كانت في حقيقة الأمر شركات ومعامل وهمية.. ولكن حتى هذه البورصة-الغسالة لها طاقة استيعاب محددة، ومتى تم تجاوزها فإنها ستتوقف وهذا ما كان سيحصل في أية لحظة لو لم تخرج أمريكا لحربها على «الإرهاب» عام 2001..

عملات إقليمية وتراجع في الإنتاج:
من المعروف أن قانوناً محدداً يربط بين كتلة النقد المتداولة وكتلة البضائع، يقول القانون بأن كتلة النقد تساوي كتلة البضائع مقسومة على سرعة دوران النقد خلال الفترة الزمنية المحددة والتي تعتبر عادة سنة.
منذ ظهور اليورو في 112002 إضافة إلى تنشط الاقتصاد الروسي والصيني فإن الدولار خرج عملياً من نصف المساحة الاقتصادية التي كان يغطيها عالمياً، وأصبح انكشاف تضخمه قاب قوسين أو أدنى، فوفقاً لحسابات نهاية القرن العشرين فإن الناتج العالمي قدر بـ 60 تريليون دولار وهذا طبعاً وفقاً للحساب الميركانتيلي للـ GDP وهو حساب مضخم يدخل في القيمة المنتجة مجدداً الريع الخدمي كطريقة من طرق النهب الرأسمالي عبر التضخم، أي أن الرقم الحقيقي لا يمكن أن يربو فوق 40 تريليون دولار، وإذا أضفنا إلى هذا الحساب كون الدولار نفي من نصف مساحته على أساس ظهور العملات الإقليمية فإن 20 تريليون دولار هي حصة الاقتصاد الأمريكي من تغطية الإنتاج العالمي، هذا على اعتبار أن سرعة دوران النقد خلال سنة هي واحد، والحقيقة أنها قد تصل وسطياً إلى 3.. إذا اعتمدنا رقم واحد لسرعة الدوران فإن كتلة الدولار التي تحتاجها السوق هي 20 تريليون دولار، وأي زيادة فوق هذا الرقم تمثل تضخماً، فكيف ستكون الأمور إذا أخبرنا الاقتصاديون الغربيون بأن كتلة الدولار العالمية اليوم تصل إلى أكثر من 1000 تريليون دولار!! أي أن نسبة التضخم تصل إلى 50 ضعفاً..
نضيف إلى ذلك أن أمريكا إذْ خرجت من الحرب العالمية الثانية بـ 30% من الناتج العالمي فإنها مع مطلع الألفية الثالثة لم يتعد اقتصادها في أحسن أحواله 18% من الناتج العالمي مقابل 27% لأوروبا، وعليه فإن التضخم الحقيقي للدولار سيرتفع من 50 ضعفاً إلى حوالي 140 ضعفاً ذلك إذا قرنا الدولار بالإنتاج الأمريكي فقط، أي أن الرأسمال الأمريكي في الحساب الأخير يأخذ من البشرية مقابل كل حريره عمل يقدمها له الشعب الأمريكي، 139 حريره تدفعها بقية شعوب العالم..

III هل من مخرج؟
كولينيالي وما بعد كولينيالي وما بعد بعد:
لعب الاستعمار القديم دور النهب المباشر المقرون بالسيطرة الاستعمارية العسكرية، التي أمّنت، إلى جانب نهب الخامات، طرق التجارة وسوق الاستهلاك، وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفييتي ونهوض حركات التحرر الوطني أن اندحر الاستعمار القديم ليحل محله الاستعمار الجديد أو new-colonialism حيث حازت الدول المتحررة حديثاً استقلالها السياسي وبالمقابل تم تكريس تبعيتها الاقتصادية وذلك من خلال آليات الاستعمار الجديد المعروفة: (التبادل اللامتكافئ، هجرة العقول، التبعية التكنولوجية، مقص الأسعار). يبدو أننا اليوم ومنذ مطلع الألفية الثالثة قد دخلنا في مرحلة ما بعد بعد الكولينيالي ولنصطلح تسمية له هي استعمار الألفية الثالثة فقط للتسهيل، ونقصد بهذا النوع من الاستعمار عملية تركيب جدلي لنوعَيْ الاستعمار السابقين هي في الجوهر عملية نفي نفي حيث يعود اللولب إلى نقطة البداية النوعية حيث الاستعمار العسكري المباشر مع إضافة كمية هي آليات الاستعمار الحديث، وهذا ما رأيناه عياناً في كل من أفغانستان والعراق وليبيا..

وظيفة الحرب:
يصف إنجلز الحرب بأنها الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية، فكيف تتم هذه العملية؟ يجب بداية الخروج من وهم كون الذهاب إلى الحرب هو تعبير عن القوة، وكذلك من وهم أن الحرب مشروع تجاري رابح!!
النظر إلى الحرب بوصفها مشروعاً تجارياً ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار أنه مشروع ذو مخاطرة عالية جداً ما ينقص حظوظه في التنافس مع المشاريع الأخرى، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى فإن المقياس لدى الرأسمالية هو الربح الأعلى، فإذا كان النشاط المالي للدولار يؤمن ربحاً معدله 250 ألف% فهل تستطيع الحرب تأمين مثل هكذا معدل ربح؟!، نعم تستطيع في حالة واحدة: حين تكون وظيفتها هي الدفاع عن معدل ربح الدولار.. أي أن خروج أمريكا للحرب ليس سوى تعبير عن أنها لم تعد قادرة على الدفاع عن نهبها بالوسائل الاقتصادية والسياسية التقليدية، لذا فهي تلجأ إلى نمط خاص من النشاط الاقتصادي- السياسي هو الحرب..
ولما كانت الوظيفة التقليدية للحرب هي الخروج من الأزمات الرأسمالية عبر حروب بين الرأسماليات المتصارعة تصدّر من خلالها أزماتها بفتح أسواق جديدة وإعادة اقتسامها، فإنه من الجنون اليوم الحديث عن سوق جديدة بعد أن ترسلمت الأرض حتى أقصى بقعة فيها، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى فبوجود الأسلحة الذرية والنووية فإن الحديث عن حرب مباشرة بين القوى الكبرى يعني الحديث عن احتمال جدي لفناء البشرية، الأمر الذي يبدو حتى الآن أن الكتل الرأسمالية المختلفة لا تتجه نحوه. لكنها تتجه نحو حرب من نوع جديد ربما نسميها «ميني» حرب عالمية تقتتل على أساسها الشعوب بإيعاز من الكتل الرأسمالية ودون اشتراك مباشر منها..
ولكن كيف يمكن لهذا النوع من الحروب أن ينقذ الرأسمالية؟؟

الطاقة:
لكي تستطيع الولايات المتحدة الخروج من أزمة دولارها المتضخم، فإنها بحاجة قصوى إلى تسليع جزء كبير منه، ولكن ليس أي تسليع بل ذلك النوع من التسليع الذي يمكّن الدولار من أن يلعب مجدداً دور المعادل، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وضع اليد على الجزء الأكبر من مصادر الطاقة الموجودة في منطقة قوس التوتر الممتدة من قزوين إلى المتوسط، وبالتالي الضغط على المنافسين وإرغامهم على تأجيل بحث وضع الدولار إلى أجل غير مسمى..

أزمة أمريكية – عالمية.. دور المنافسين:
لا شك أن روسيا والصين وأمريكا وأوروبا جميعهم في الخندق ذاته من حيث هم أقطاب رأسمالية كبرى، وخصوصاً في ظل العولمة التي توحّد مصيبتهم وتضع أرجلهم في «الفلقة» معاً، وتحديداً إذا قرأنا الديون الروسية والصينية على أمريكا وطبيعة علاقاتهم الاقتصادية، إذاً لزادت معادلة الخندق الواحد وضوحاً وجلاءً. لكن فرقا أساسياً يجعلهم في خندق واحد وعلى تضاد في الوقت ذاته، وهو كون أمريكا وأوروبا يلعبان اليوم دور إمبرياليتين في مواجهة رأسماليتين صاعدتين روسية وصينية، ويتضح ذلك من خلال إصرار أمريكا على نهبها للعالم بدولارها المتضخم محمولاً على اقتصاد ضعيف تسنده آلة عسكرية شديدة الضخامة، وبهذا المعنى فإن ذهاب أمريكا نحو الانهيار الصاعق سيحمل المنظومة بأكملها إلى الهاوية، فهم لذلك في خندق واحد. الاقتصاديات الصينية والروسية تريد الاستمرار دون هذا الانهيار، لذا فإنها تريد للدولار تراجعاً منتظماً وهادئاً قدر الإمكان، لأن مواجهة عنيفة معه ستقود إلى انهيار صاعق وكذلك فإن تركه ليبتلع مناطق الثروات الأساسية سيجمد الاقتصاديات الروسية والصينية ويتركها نهباً للدولار.
على الضفة الأخرى فإن أمريكا بأزمتها الحالية التي بدأت للتو بالدخول في طورها الاقتصادي بعد أن أتمت طورها المالي، وأوروبا وخاصة بعد الأزمة الايطالية التي تعني الشيء الكثير، حيث تعد ايطاليا ثالث أضخم اقتصاد ضمن الاتحاد الأوروبي ويزيد حجم اقتصادها عن مجموع اقتصاديات اليونان واسبانيا والبرتغال مجتمعة، إن هاتين القوتين أمريكا وأوروبا تدخلان في حالة طنين جديدة تكاد لا تسمح لهما باتخاذ قرار الحرب مع أن هذا القرار ما يزال ممكناً حتى اللحظة. لكن الوقت يدركهم بسرعة كبيرة وهم ميالون إلى إشعال حروب واسعة ولكن بأيد غير أيديهم...

إلى أين؟
ضمن التعقيدات الهائلة لوضع المتنافسين، فإن لدى العالم أحد خيارين فإما أن تقرر أمريكا أن تتراجع إلى حدودها الطبيعية مع ما يحمله ذلك من إنذارات اجتماعية داخلية على أساس تراجع مستوى المعيشية الداخلي، أو أنها ستمضي في حربها قدماً مدعومة بالتناقض الأساسي الذي يجمعها مع بقية منافسيها في وجه القطب المقابل، قطب الشعوب. ومعنى ذلك أن الرأسمال العالمي إذ تعقدت أموره فإنه سيعود إلى نقطة البداية حيث مشكلته مع القوى المنتجة التي تضغط بتطورها ونموها المستمر على علاقات الإنتاج، وبهذا فإن ما سيطبق على الأرض عملياً هو النيومالتوسية بأكثر صورها بشاعة، حيث سيحل تخفيض عدد سكان الكوكب مشكلة الضغط على علاقات الإنتاج مؤقتاً، وقد وصلت الوقاحة بمؤتمر بيلديربيرغ إلى أن يلمح علناً إلى زيادة الكتلة البشرية عما يجب بحوالي 3 إلى 5 مليار!!
الخيار المقابل لدى البشرية هو الإجهاز النهائي على الرأسمالية والانتقال نحو نموذج اقتصادي جديد يسمح للقوى المنتجة بمتابعة تطورها..
حين سئل ستالين لماذا أنت متأكد إلى هذا الحد من أن الحرب قادمة؟.. أجاب: لا توجد سابقة مرت فيها الرأسمالية بأزمة ولم تخرج إلى الحرب.. ربما يقدم التاريخ لنا سابقة في هذه الأزمة.. وإن كانت الحرب قد بدأت فعلاً. ولكن القياس النسبي لعدد ضحايا وخسائر الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى حجم الأزمات المولدة لهما، بالمقارنة مع حجم الأزمة الحالية لأصبح من المفهوم أن أزمة بهذه الضخامة لم تبدأ حربُها بعد، وكل ما جرى حتى الآن ليس سوى اختبار بسيط..
الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *