أبحاث
الكتاب الأبيض
يحفل التاريخ السياسي لفلسطين وشعبها بمفترقات الطرق التي لو
توفرت لها القيادة السياسية العربية
الفلسطينية القديرة والواعية، لاُتجهت بالشعب العربي الفلسطيني وقضيته إلى طريق غير الطريق الذي آلت إليه، ولأنقذت القضية من التآكل، ولجنبت الشعب الكثير من المآسي والويلات. وأحد هذه المفترقات الهامة والمصيرية، هو الكتاب الأبيض الذي تبنته الحكومة البريطانية في عام 1939م بصفتها الدولة المنتدبة لإدارة فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
الفلسطينية القديرة والواعية، لاُتجهت بالشعب العربي الفلسطيني وقضيته إلى طريق غير الطريق الذي آلت إليه، ولأنقذت القضية من التآكل، ولجنبت الشعب الكثير من المآسي والويلات. وأحد هذه المفترقات الهامة والمصيرية، هو الكتاب الأبيض الذي تبنته الحكومة البريطانية في عام 1939م بصفتها الدولة المنتدبة لإدارة فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
والكتب البيضاء هي نوع من الوثائق السياسية الرسمية التي دأبت
الحكومة البريطانية على إصدارها كمحدد لسياستها إزاء قضية معينة، وهي سياسات تكون في
العادة إيجابية إزاء الطرف المتضرر من سياسات سابقة. ويبدو أن هذه الوثائق كانت
تطبع على ورق أبيض لتمييزها عن غيرها من الوثائق.
وقد أصدرت الحكومة البريطانية على مدى سنوات إدارتها
لفلسطين نحو أربعة كتب بيضاء موجهة إلى العرب الفلسطينيين، كان أولها كتاب تشرشل
الأبيض الصادر بتاريخ الثالث من حزيران 1922 سعت فيه الحكومة البريطانية إلى إزالة
المخاوف العربية بالنسبة لإعلان بلفور وذلك بالتأكيد على أن الوطن القومي لليهود
الوارد في ذلك الإعلان "سوف لا يكون على حساب سكان فلسطين ككل وبأن حكومة
جلالته لا تفكر في القضاء على السكان العرب أو إخضاعهم، وبأن جنسية الجميع ستكون
الجنسية الفلسطينية، وبآن الهجرة اليهودية لفلسطين ستخضع للقدرة الاستيعابية
الاقتصادية"
غير أن الحكومة البريطانية لم تكن صادقة ولا أمينة في تنفيذ ما
جاء في الكتاب المذكور، فاُتبعت سياسة مسرفة في انحيازها للجانب اليهودي الصهيوني تركت
آثاراً بالغة الضرر في شعب فلسطين وقضيته.
أما الكتاب الأبيض الثاني، فقد أصدرته الحكومة البريطانية في
19/11/1928 للتأكيد على الملكية الإسلامية لحائط البراق في القدس، مع حقوق يهودية محددة
للوصول إلى الحائط للصلاة. وقد ظلّ هذا الالتزام قائماً وما زال الكتاب يشكل وثيقة
هامة لصالح شعب فلسطين.
ثم تلا ذلك كتاب أبيض ثالث هو كتاب باسفيلد الصادر في تشرين
الأول 1930 إثر صدور تقرير لجنة هوب ـ سمبسون المؤيد للحقوق العربية الفلسطينية،
ونص على "التزام الحكومة البريطانية بمصالح مجموعتي السكان من عرب ويهود،
وليس بمصالح مجموعة واحدة[3]." غير أن رئيس الوزراء البريطاني رامزي
ماكدونلد، ما لبث تحت ضغط الحركة الصهيونية أن ألغاه، حيث أصبح هذا الكتاب يعرف
عند العرب الفلسطينيين بالكتاب الأسود.
أما الكتاب الأبيض الرابع، فهو كتاب عام 1939 الذي أصدرته
الحكومة البريطانية في 27/5/1939. وكان وزير المستعمرات مالكوم ماكدونالد هو الذي تبنّاه
وعمل على إصداره، وتكمن أهميته في أنه ظل يشكل السياسة الرسمية الثابتة للحكومة
البريطانية منذ صدوره وعلى مدى سنوات الحرب العالمية الثانية، على الرغم من
محاولات الالتفاف عليه من قبل الحكومات البريطانية المتعاقبة وكان مصيره الفشل،
ليس فقط بسبب محاولات الالتفاف البريطاني عليه، وإنما بسبب عدم وجود قيادة سياسية
فلسطينية تعمل على الدفع باتجاه تنفيذه، وعدم وجود دعم عربي فاعل في الاتجاه ذاته،
حيث ما لبثت موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية أن دفعت باتجاه غلبة خيار
التقسيم بتداعياته الكارثية.
الكتاب الأبيض
وتطوراته
الكتاب الأبيض هو الوثيقة التي أصدرتها الحكومة البريطانية
بشكل رسمي في 27 أيار1939، بعد فشل مؤتمر سنت جيمس الذي دعت إليه الأطراف
الفلسطينية والصهيونية والعربية لمناقشة مسوداته، والذي تعهدت بتنفيذه من جانبها
حيث جاء فيه: "وسيسار في هذه العملية سواء اغتنم كلا الطرفين (العربي
واليهودي) هذه الفرصة أم لا". ويتلخص المبدأ الأساسي الذي يحكم سياسة الكتاب
في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثل
فيها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي.
فمنذ أوائل الثلاثينيات وصلت فلسطين العديد من الوفود ولجان
التحقيق وتقصي الحقائق بهدف إعداد التقارير والتقدم بتوصيات للحكومة البريطانية بشأن
الأوضاع ونتائج السياسات المتبعة فيها، وبعد درسها لتلك التقارير، وبخاصة تقرير
لجنة بيل الملكية عام 1937 الذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية،
وعدم اقتناعها بنجاح فكرة التقسيم، فقد قررت الحكومة البريطانية طرح سياسة بديلة
والدعوة لعقد مؤتمر يشارك فيه العرب الفلسطينيون واليهود الصهاينة وممثلون عن
حكومات العراق والسعودية ومصر وشرقي الأردن*، لتدارس المسودة التي أعدت في هذا
الشأن. وقد انعقد المؤتمر في لندن في قصر سنت جيمس واستغرق انعقاده نحو أربعين
يوماً امتدت من 7/2 إلى 16/3/1939 حيث خصصت المرحلة الأولى منه لدراسة مراسلات
حسين ـ مكماهون لعام 1915 بناء على طلب الوفود العربية، علماً بأن تلك المراسلات
بقيت طي الكتمان إلى أن نشرت بشكل غير رسمي في ملاحق تقرير لجنة بيل الملكية عام 1937،
ثم ظهرت في كتاب جورج انطونيوس "يقظة العرب" الذي صدر في لندن في عام 1938،
ولم تنشر على نحو رسمي من قبل الحكومة البريطانية إلا مع افتتاح المؤتمر، وتركزت
المناقشات التي استغرقت نحو أسبوع حول ما إذا كانت فلسطين قد اعتبرت في تلك
المراسلات ضمن الأراضي التي تعهدت بريطانيا بأن تتمتع بالاستقلال والسيادة
العربية. وإزاء عدم التوصل إلى نتيجة، تم تشكيل لجنة فنية للتدقيق في ترجمة تلك
المراسلات وفحواها شارك فيها جورج انطونيوس عن الجانب العربي.
وقد جاء تقرير اللجنة غامضاً وملتبساً بحيث لم يعط جواباً
قاطعاً بذريعة أن المراسلات قديمة والكتابة فيها غير واضحة، الأمر الذي جعل
ترجمة بعض نصوصها أمراً متعذراً[4]. لذلك اتخذت الحكومة البريطانية موقفاً سلبياً
من تلك المراسلات لدى إصدارها الكتاب الأبيض كما سيرد لاحقاً، وذلك على الرغم من
وجود وثائق ومذكرات سرية بريطانية في هذا الشأن، لم تكن معروفة إلاّ لقلة من
الساسة البريطانيين إلى حين الإفراج عن تلك الوثائق في عام 1964 منها المذكرة
المعنونة "مذكرة حول التعهدات البريطانية للملك حسين"، كانت قد أعدت
لعرضها على مؤتمر السلام في باريس في عام 1919 وجاء فيها :"فيما يتعلق
بفلسطين، فإن حكومة جلالته ملتزمة في رسالة السير هنري مكماهون إلى الشريف في
24/10/1915 بأن تكون فلسطين ضمن حدود الاستقلال العربي".
من جهة ثانية، قدمت الحكومة البريطانية للمؤتمر مسودتين للكتاب
الأبيض، حيث جاء في المسودة الأولى المقدمة في 24/2/1939 أن الحكومة عازمة على إلغاء
الانتداب في "الوقت المناسب"، حيث تقوم مقام هذا النظام دولة فلسطينية
مستقلة ترتبط بمعاهدة مع بريطانيا، "على أن يعقد مؤتمر حول مائدة مستديرة في
لندن في فصل الخريف القادم، لوضع تفاصيل الدستور للدولة
.. وشروط المعاهدة .. بحيث تتمتع الأقلية
اليهودية بحماية مقترنة بضمانات"[6]. وإزاء رفض الوفد الفلسطيني والوفد الصهيوني، تم تقديم مسودة
ثانية في 15/3/1937 نصت على أمكانية أن تكون الدولة "ذات صيغة
فيدرالية"، وعلى فترة انتقالية لعشر سنوات تسبق قيام الدولة، إلى جانب بنود
أخرى. ونتيجة للرفض الصهيوني لكل تلك المقترحات واعتراض الجانب الفلسطيني على
العديد من النقاط، أعلنت بريطانيا عن انتهاء المؤتمر وذلك بعد يوم واحد من تقديم المسودة
الثانية.
أدت الجهود المصرية التي تزعمها رئيس الوزراء محمد محمود إلى
إجراء مفاوضات جانبية في القاهرة بين عدد من أعضاء الوفد وعدد آخر من المسئولين
البريطانيين والمسئولين المصريين. وتشير لائحة الاعتراضات والمطالب التي قدمها
الوفد الفلسطيني وفقاً لروايات متعددة أعقبت ذلك الاجتماع الذي تم بعد فترة وجيزة
من انفضاض المؤتمر، إلى أن الحكومة البريطانية قد أخذت بمعظمها حيث ظهرت في الصيغة
الرسمية للكتاب الأبيض. فقد حذفت عبارة "في الوقت المناسب" بالنسبة
لإنهاء الانتداب وحدد ذلك بعشر سنوات، وأضيفت استشارة عرب فلسطين والدول المجاورة
إلى جانب عصبة الأمم المتحدة في حالة الاضطرار لتأجيل الاستقلال لأكثر من عشر
سنوات. وكان النص الأول مقتصراً على استشارة العصبة. كما حذفت عبارة "قد تكون
فيدرالية". كما وافقت بريطانيا على الإسراع في تنفيذ البنود الدستورية التي
نوقشت في المؤتمر بحيث يستطيع العرب تسلم المراكز الرئاسية في الدوائر الحكومية
"حالما يعود السلام إلى فلسطين" بدلاً من إرجاء ذلك إلى المرحلة الثانية
من السنوات العشر. والملاحظ أن أياً من المصادر التي أطلعت عليها وهي عديدة، لم
تشر إلى اعتراض فلسطيني جدي على أهم بندين في الكتاب، والبندان هما الهجرة وانتقال
الأراضي*، الأمر الذي يعني أن البنود المتعلقة بهما كانت مرضية للجانب العربي
الفلسطيني وقد ظهرت هذه البنود في المسودة الأولى والمسودة الثانية والنص النهائي.
وفي هذه السياق، قام وزير المستعمرات مالكوم ماكدونالد الذي
تبنى التغيير في السياسة البريطانية والذي اقترن الكتاب الأبيض باسمه، بإبلاغ الجهات
العربية والعربية الفلسطينية بأن الحكومة البريطانية يستحيل عليها أن تسير أكثر
مما سارت إليه .."لأن الجو حافل بالسحب"، ولأن الحكومة البريطانية بحاجة
لمساعدة الحكومة الأمريكية في حالة وقوع الحرب، وقال :"إن الحكومة البريطانية
عازمة على تجميد السياسة الصهيونية تجميداً يحفظ للعرب كيانهم وحقوقهم، وإن مجلس
العموم البريطاني على استعداد للموافقة على ما نتفق عليه، وهذا ليس ميسوراً في
جميع الظروف".
هكذا في 27/5/1939، أصدرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض
وذلك بعد أن حصلت على مصادقة مجلس العموم البريطاني عليه في 22/5/1939 بأغلبية 268
صوتاً مقابل 178 صوتاً. وفي ضوء أن الحكومة البريطانية كانت تستمد شرعية حكمها
لفلسطين من عصبة الأمم المتحدة، فقد كان مقرراً في وقت لاحق أن يتم عرض الكتاب على
العصبة للمصادقة عليه، حيث نوقش في لجنة الانتدابات التابعة للعصبة ورفض
بأغلبية أربعة أصوات مقابل ثلاثة أصوات. ولم تأخذ الحكومة البريطانية بذلك واعتبرت
تصويت لجنة الانتداب مجرد توصية. غير أنه قبل التاريخ المقرر لاجتماع مجلس العصبة
في15 أيلول 1939 كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت في 3/9/1939 بدخول
بريطانيا الحرب ضد ألمانيا. ولم يجتمع مجلس العصبة مند ذلك الحين حيث ما لبثت
العصبة أن انحلت لتقوم مكانها بعد انتهاء الحرب في عام 1945 هيئة الأمم المتحدة.
مواد الكتاب
الأبيض:
تألف الكتاب الأبيض من مقدمة وثلاثة أبواب: الأول للدستور،
والثاني للهجرة والثالث للأراضي.
ففي المقدمة، أسندت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض إلى صك
الانتداب فأشارت إلى أن الصك الذي يتضمن تصريح بلفور، كان أساس السياسة التي
اتبعتها الحكومات المتعاقبة زهاء عشرين عاماً. تم أشارت إلى الغموض الذي يكتنف بعض
العبارات في صك الانتداب كعبارة "وطن قومي للشعب اليهودي" وعزت ما نشب
من قلق وشحناء بين العرب واليهود إلى ذلك الغموض وخلصت إلى ضرورة وضع تعريف واضح
للخطة السياسية ولأهدافها، مشيرة إلى أن التقسيم المؤدي إلى إقامة دولتين عربية
ويهودية من شأنه أن يوفر ذلك الوضوح، غير أنه غير عملي وليس بمستطاع أي من
الدولتين سد نفقاتهما بذاتهما، لذا كان على الحكومة البريطانية استنباط بديل
للتقسيم، أي سياسة أخرى من شأنها أن تفي بالالتزامات المترتبة عليها نحو العرب
واليهود.
أما في باب الدستور، فإن المادة الرابعة تشير ثانية إلى عبارة
وطن قومي يهودي، فتقول بأن واضعي صك الانتداب الذي أدمج فيه تصريح بلفور، لا يمكن
أن يكونوا قد قصدوا تحويل فلسطين إلى دولة يهودية خلافاً لإرادة العرب سكان البلاد.
ولذلك، فإن حكومة جلالته تعلن الآن بعبارات لا لبس فيها ولا إبهام أنه ليس من
سياستها أن تصبح فلسطين دولة يهودية. أما المادة الخامسة فتقتبس فقرة من الكتاب
الأبيض الصادر عام 1922 حول مفهوم الوطن القومي اليهودي، فتقول المادة بأن الحكومة
البريطانية تتمسك بذلك التفسير الذي يعتبر اليهود في فلسطين طائفة لها في الحقيقة
مميزات قومية، غير أن ما قصد بترقية الوطن القومي اليهودي في فلسطين لا يعني فرض
الجنسية اليهودية على أهالي فلسطين إجمالاً، بل زيادة رقي الطائفة اليهودية حتى
تصبح مركزاً يكون فيه للشعب اليهودي برمته اهتمام وفخر من الوجهتين الدينية
والقومية، وحتى تدرك هذه الطائفة بأن وجودها في فلسطين حق وليس منّة، وذلك هو
السبب الذي جعل من الضروري ضمان إنشاء الوطن القومي اليهودي ضماناً دولياً
والاعتراف رسمياً بأنه يستند إلى صلة تاريخية. وتواصل المادة السادسة التأكيد على
أن الحكومات البريطانية قد التزمت بهذا التفسير لمفهوم ترقية الوطن القومي اليهودي،
فتشير إلى أنه منذ صدور الكتاب الأبيض في عام 1922، هاجر إلى فلسطين ما يزيد على
ثلاثمائة ألف يهودي بحيث ارتفع عدد سكان الوطن القومي اليهودي إلى أربعمائة وخمسين
ألفاً، أو ما يقارب ثلث سكان البلاد برمتهم.
ثم ينتقل الكتاب في المادة السادسة إلى مراسلات حسين ـ مكماهون
(التي نوقشت في المؤتمر)، فتقول المادة، بأن المندوبين العرب والبريطانيين لم يتمكنوا
من الاتفاق حول تفسير هذه المراسلات، لذلك فإن حكومة جلالته تتمسك بالرأي القائل
أن جميع فلسطين الواقعة غربي نهر الأردن كانت قد استثنيت من العهد الذي قطعه السير
هنري مكماهون، وهي لذلك لا تستطيع أن توافق على أن مراسلات مكماهون تشكل أساساً
عادلاً للادعاء بوجوب تحويل فلسطين إلى دولة عربية مستقلة.
ثم تقول المادة الثامنة أن حكومة جلالته ملزمة بصفتها الدولة
المنتدبة أن تضمن تطوير مؤسسات الحكم الذاتي في فلسطين، غير أنه لا يمكن إبقاء
سكان فلسطين تحت التدريب إلى الأبد حيث أنه لا بد أن يتمتع سكان البلاد بما أمكن من
سرعة بحقوق الحكم الذاتي التي يمارسها أهالي البلاد المجاورة، وفي ضوء أن حكومة
جلالته لا تستطيع أن تتنبأ في الوقت الحاضر بشكل النظام الدستوري الذي سيكون عليه
الحال لحكومة فلسطين في النهاية، فإن حكومة جلالته ترغب أن ترى قيام دولة فلسطينية
في النهاية، وينبغي أن تكون تلك الدولة، دولة يساهم فيها الشعبان المقيمان في
فلسطين.
ولذلك تشير المادة التاسعة، إلى ضرورة وجود فترة انتقالية قبل
الانتقال إلى الدولة المستقلة، يتزايد خلالها نصيب أهالي البلاد في الحكم وتنمو
فيها روح التفاهم والتعاون بين العرب واليهود. تم يخلص هذا الباب إلى القرارات في
هذه الشأن والتي يمكن إيجازها بما يلي:
- إقامة دولة فلسطينية في غضون عشر سنوات.
- قيام الدولة يتطلب التشاور مع عصبة الأمم.
- يسبق قيام الدولة فترة انتقالية يعطى خلالها السكان نصيباً متزايداً في حكم بلادهم.
- تشكيل هيئة تشريعية عند توفر الظروف.
- بعد خمس سنوات من بدء استتباب الأمن والنظام في البلاد تشكل هيئة من ممثلي أهالي فلسطين وحكومة جلالته لوضع دستور الدولة.
- إذا لم تتوفر الظروف بعد عشر سنوات لإقامة الدولة المستقلة يتم التشاور مع أهالي فلسطين ومجلس العصبة والدول العربية المجاورة قبل اتخاذ قرار بالإرجاء. وإذا قررت الحكومة البريطانية الإرجاء فستدعو هؤلاء الفرقاء إلى التعاون معها لوضع خطوط المستقبل بغية الوصول إلى الهدف المنشود.
تم ينتقل الكتاب إلى باب الهجرة، فيخلص إلى:
- يسمح بالهجرة اليهودية لفلسطين إلى أن يصبح اليهود يشكلون ثلث السكان.
- بعد دراسة الوضع الراهن واحتمالات الزيادة الطبيعية والهجرة اليهودية غير الشرعية، سوف يسمح بإدخال 75 ألف يهودي على مدى خمس سنوات، تتوقف بعدها الهجرة نهائياً، ما لم يوافق عرب فلسطين على غير ذلك.
- إن حكومة جلالته مصممة على قمع الهجرة غير الشرعية، وسوف يخصم عدد كل مهاجر غير شرعي يتمكن من دخول البلاد، من الكوتا المقررة أعلاه.
أما في باب الأراضي، يقر الكتاب بأن الحكومة البريطانية لم
تطبق حتى الآن أي قيد على انتقال الأراضي على الرغم مما ينص عليه صك الانتداب من
شرط ضمان عدم إلحاق أي أذى بحقوق جميع فئات الأهالي الآخرين. لذلك يقرر الكتاب منح
المندوب السامي سلطات عامة لمنع وتنظيم انتقال الأراضي.
ويبدو واضحاً مما سبق، أن الكتاب يلغي حق تحول فلسطين إلى دولة
عربية مستقلة كما يلغي حق تحولها إلى دولة يهودية خالصة، ويصل إلى حل وسط هو الدولة
الفلسطينية الديمقراطية المستقلة المحكومة بعدم تجاوز اليهود نسبة ثلث السكان في
أي وقت، وعدم الانتقال الحر للأراضي وفق نظام يتم وضعه لاحقاً. كما يتضح بأن هناك
سياسة آنية مباشرة تتطلب التطبيق الفوري، وهي المتعلقة بالهجرة والأراضي، وسياسة
لاحقة خاصة بالجانب الدستوري وتمتد إلى عشر سنوات.
تطبيق سياسة الهجرة وملابساتها
فور الإعلان رسمياً عن الكتاب الأبيض، بدأت الحكومة البريطانية
بالإعداد لتنفيذ بابي الهجرة والأراضي، حيث عمدت في نيسان 1939 إلى تعديل قوانين الهجرة
المعمول بها حتى ذلك الحين، بحيث تتفق مع سياسة الكتاب الأبيض في هذا المجال،
وبدأت بتنفيذ تلك السياسة التي ما لبثت أن أدت إلى صراع صهيوني ـ بريطاني محموم
امتد على مدى السنوات اللاحقة شمل غرق بواخر تحمل لاجئين وعمليات تفجير واغتيالات*.
وقد تواصلت عملية تنفيذ السياسة الخاصة بالهجرة على الرغم من
ذلك، وعلى الرغم من ضغوط عمليات خروج اليهود من الأراضي الألمانية والمناطق التي احتلتها
ألمانيا خلال الحرب. ففي أيلول 1943، صدر تقرير بريطاني جاء فيه أنه "منذ
نيسان 1939 دخل إلى فلسطين نحو 44 ألف يهودي، بحيث يبقي من الكوتا نحو 31 ألفا .
وفي 25/8/1945، رد وزير المستعمرات البريطاني على الصهاينة بأن
ما تبقى من الكوتا التي كان مقرراً لها أن تنتهي في 31/3/1944، هو ألفان فقط، وبأن
أي تعديل لاحق "سيخضع للتشاور مع العرب حول زيارة عدد اللاجئين وذلك بالسماح
بإدخال 1500 يهودي في الشهر"، وقد تم ذلك بعد سقوط حكومة تشرشل والمحافظين
وفوز حزب العمال في عام 1945.
وفي 20/1/1946 أعلن مسؤول الإدارة البريطانية في فلسطين أن
الكوتا قد انتهت، وأنه قد بوشر بتطبيق كوتا جديدة بمعدل 1500 يهودي في الشهر منذ 30/1/1946.
ولا يعرف ما إذا كانت الحكومة البريطانية قد تشاورت مع العرب
في شأن هذه الزيادة على كوتا الكتاب الأبيض. فمن المرجح أن أياً من العرب
الفلسطينيين لم يستشر في ذلك لأسباب سترد لاحقاً، كما يرجح بأن الحكومة البريطانية
قد تشاورت مع بعض العرب وأخذت الموافقة على ذلك بشكل غير رسمي كما سيرد لاحقاً أيضاً.
كان الوضع قد تغير مع انتهاء الحرب ووصول حزب العمال البريطاني
إلى الحكم في عام 1945. فإلى جانب السياسة العمالية المؤيدة للصهيونية، كانت الضغوط
الأمريكية في مجال الهجرة كبيرة جداً، في وقت بدا فيه واضحاً أن بريطانيا لم تعد
سيدة الموقف بمفردها.
ففي 13/11/1945 أدلى وزير الخارجية الجديد، إرنست بيفن ببيان
في مجلس العموم البريطاني تحدث فيه عن رغبة الحكومة في إدخال 15 ألف لاجئ يهودي شهرياً
إلى فلسطين، متجاهلاً سياسة الكتاب الأبيض كلياً . كما تحدث بيفن في مؤتمر لندن
حول فلسطين الذي عقد في أواخر عام 1946، عن ضرورة إدخال مائة آلف لاجئ يهودي إلى
فلسطين على مدى عامين، حيث يتم تقرير حجم الهجرة بعد عامين وفقاً للقدرة
الاستيعابية لفلسطين، وذلك ضمن خطة سياسية جديدة قوامها إقامة نظام وصاية بريطاني
لخمس سنوات " لإعداد البلاد للاستقلال"[12].
والجدير بالذكر أنه الهجرة اليهودية
غير الشرعية قد ازدادت منذ عام 1945 دون أي تشدد بريطاني على النحو الذي جرى خلال
النصف الأول من الأربعينات.
غير أنه وفي سياق الكتاب الأبيض، لا بد من القول أنه وإلى حين
صدور قرار التقسيم في29/11/1947، بقيت النسبة السكانية لليهود في فلسطين بحدود ثلث
السكان.
سياسة انتقال
الأراضي
أما بالنسبة لسياسة الكتاب الأبيض الخاصة بانتقال الأراضي، فقد
بدأت الحكومة البريطانية بتطبيقها مع إصدارها للتعليمات الخاصة بذلك في 28/2/1940 حيث قسمت هذه التعليمات أراضي فلسطين إلى ثلاثة مناطق: منطقة ساحلية
تشكل 5% من المجموع الكلي يكون اليهود أحراراً في شراء الأراضي فيها، منطقة تشكل
63.4% من المجموع الكلي يحظر فيها انتقال الأراضي من عربي فلسطيني لغير عربي
فلسطيني إلا في ظروف معينة، منطقة تشكل 31.6% من المجموع الكلي يخضع فيها انتقال
الأراضي من عربي فلسطيني لغير عربي فلسطيني لقرار المندوب السامي [13].
وقد صادق مجلس العموم على هذه التنظيمات في 6/3/1940 بأغلبية
292 صوتاً مقابل 129صوتاً [14]. ومما لا شك فيه أن تلك التنظيمات قد ساعدت في الحد
من انتقال الأراضي لليهود على الرغم من حدوث عمليات التفاف غير قانونية عليها وتغاضي
حكومة الانتداب عنها، حيث كان يقوم عملاء عرب فلسطينيون بشراء أراضٍ من الفلاحين
أو غيرهم، ثم يعطون الصهاينة شيكات بدون رصيد، فيستولي الصندوق القومي اليهودي على
الأراضي.
دوافع السياسة
البريطانية الجديدة وتطوراتها
بعد نحو عشرين عاماً من السياسات البريطانية الغاشمة في
فلسطين، تلك السياسات التي بنيت على مصالح آنية قصيرة النظر أملتها الظروف الدولية
المستجدة التي تمخضت عنها الحرب العالمية الأولى بدأت الحكومة البريطانية في أواخر
الثلاثينات، إثر تأزم الوضع الدولي مجدداً، في إعادة النظر في تلك السياسة بهدف
إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة العربية.
فمنذ أواسط الثلاثينيات، بدأت تلوح في الأفق البريطاني مخاطر
جديدة تهدد مكانتها كقوة عظمى وحيدة في العالم، في مقدمتها استعادة ألمانيا لقوتها
وبدء تطلعها مع صعود الحزب النازي بزعامة هتلر إلى سدة الحكم، نحو مجال حيوي يمتد
من أوروبا إلى المناطق الحيوية من عالم الإمبراطورية البريطانية، وبخاصة المنطقة
العربية التي تأكد وجود المخزون الهائل من النفط فيها.
هكذا لم تعد المصالح البريطانية في المنطقة العربية منصبة على
حماية قناة السويس وطرق المواصلات إلى الهند، بقدر ما أصبحت تعني ضرورة الحفاظ على
السيطرة على منابع النفط العربية، ليس فقط من الخطر الألماني، وإنما أيضاً من
منافس آخر أخذت قوته تتعزز خلال الثلاثينيات، والمتمثل في الولايات المتحدة
الأمريكية التي حصلت على أول امتياز للنفط في العربية السعودية في ذلك الحين. وفي
سياق تصاعد القوة الأمريكية المنافسة والمهددة للإمبراطورية البريطانية، بدأت تلوح
في سماء السياسة البريطانية مخاطر تحول الحركة الصهيونية التي أنشأتها بريطانيا
ورعتها نحو الولايات المتحدة، والتي سوف تستغلها لطرد بريطانيا من المنطقة
العربية. وأمام تعاظم هذه المخاطر يوماً بعد يوم عدد وزير الخارجية البريطاني
أنطوني إيدن عام 1937 الأسباب التي تدعو بريطانيا إلى القلق والتخوف من احتمال
اضطرارها الدخول في حرب جديدة، وهي:
- حماية سلامة ووحدة الإمبراطورية البريطانية
- حماية فرنسا وبلجيكا ضد أي هجوم ألماني.
- حماية قناة السويس.
- حماية العراق.
كذا نما تيار قوي في الأوساط السياسية البريطانية يدعو إلى
ضرورة إعادة النظر في السياسة العربية لبريطانيا. فبعد عقد المعاهدة البريطانية ـ العراقية
في عام 1930 وحصوله على الاستقلال في عام 1932، ثم عقد معاهدة 1936 مع مصر، بدا واضحاً لهذا التيار، وبخاصة بعد اندلاع الثورة في
فلسطين عام 1936، أن تلك الثورة في ظل الظروف الدولية المستجدة، من شأنها إشاعة عدم
الاستقرار السياسي في المنطقة، والتأثير في الرأي العام العربي وتأليبه ضد
بريطانيا، في وقت هي في أمسّ الحاجة فيه لتعزيز رصيدها في المنطقة.
ففي أواسط الثلاثينيات، وبخاصة بعد اندلاع الثورة الفلسطينية
عام 1936، بدأ التفكير في بريطانيا باتجاه ضرورة إيجاد حل لمشكلة فلسطين. وقد تعزز
الاتجاه نحو تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ونقل العرب من الدولة اليهودية وذلك مع صدور تقرير لجنة بيل الملكية التي أوصت في
تقريرها الصادر في 22/6/1937 بالتقسيم، حيث ما لبثت الحكومة البريطانية أن أصدرت
بيان سياسة في 7/7/1937 أيدت فيه فكرة التقسيم وطرحت الموضوع على مجلس العموم الذي
أوصى بدوره برفع الموضوع إلى عصبة الأمم قبل المضي في التنفيذ. غير أن لجنة
الانتدابات في العصبة وافقت من حيث المبدأ على فكرة التقسيم ولكنها أوصت بتأجيل
إقامة الدولتين وتمديد فترة الانتداب.
وفي اجتماع لاحق لمجلس العصبة في أواخر 1937، شن الأعضاء حملة
شعواء على تقرير لجنة بيل، على أساس أنه يوصي بإقامة دولة يهودية صغيرة لا تملك
أية مقومات وأنه لا بد للدولة اليهودية أن تضم مناطق استراتيجية وتكون قابلة للحياة.
غير أن الاتجاه الذي أخذ يقوى في الدوائر السياسية البريطانية
في ذلك الحين، هو ضرورة عدم التعامل مع المشكلة الفلسطينية بمفردها، وضرورة
إشراك قيادات الدول العربية المجاورة في مناقشة موضوع التقسيم أو أي سياسة بديلة
لذلك. ومنذ نوفمبر 1937، في الوقت الذي أخذت فيه الأوضاع الدولية بالتأزم، صدرت
عدة مذكرات وبيانات سياسية عن الحكومة البريطانية تؤكد على هذا التوجه، منها مذكرة
صادرة عن وزير الخارجية أنطوني إيدن في نوفمبر 1937، جاء فيها بأن السياسة البريطانية المقبلة
في فلسطين لا يمكن التعامل معها بمعزل عن الدول العربية المجاورة، "فالبلدان
العربية الشرق أوسطية تشكل كلاً عضوياً ومترابطاً بشكل وثيق.. إن أية سياسة لنا في
فلسطين ستنعكس آثارها على جميع المنطقة وتؤثر كثيراً في مستقبل علاقاتنا مع قوى
الشرق الأوسط وبخاصة العراق ومصر والعربية السعودية وهي دول تسيطر على مواصلاتنا البرية
والبحرية إلى الشرق". ويشار إلى أن هذا الرأي قد جعل مجلس الوزراء ينقلب على
فكرة التقسيم.
ومع استقالة وزير المستعمرات، أورمسبي غور المعروف بانحيازه
القوي إلى الصهيونية في عام 1938، ومجيء مالكولم ماكدونلد، الأكثر اعتدالاً
وموضوعية إلى وزارة المستعمرات، تعززت التوجهات نحو العرب في الحكومة البريطانية. ولم
يتردد ماكدونلد من السفر إلى فلسطين متخفياً للإطلاع بنفسه على حقيقة الوضع فور
تسلمه منصبه الجديد. وفي العام نفسه، قام بإرسال لجنة وودهيد إلى فلسطين التي أقرت
في تقريرها الصادر في 27/4/1938 بأن التقسيم غير عملي "لأنه يتطلب نقلاً إجبارياً للعرب من الدولة اليهودية[20]، حيث
ما لبث أن صدر بيان سياسة جاء فيه: "إن تقرير اللجنة يبين أن التقسيم يتضمن
صعوبات جمة.. ولذا فهو غير عملي، لذلك فإن الحكومة ستواصل تحمل مسؤولياتها في فلسطين،
وهي مصممة على بذل كل جهودها من أجل تعزيز التفاهم بين العرب واليهود، والدعوة إلى
مؤتمر يشارك فيه العرب.. وإذا لم يؤد المؤتمر إلى أي اتفاق خلال فترة معقولة، فإن
الحكومة ستتخذ قرارها وتعلن سياستها.
وقد يكون صحيحاً القول بأن الحكومة البريطانية كانت تفكر في
الرفض الصهيوني المتوقع لمقترحاتها، حيث أن حضور الدول العربية في المؤتمر كان من شأنه،
ليس فقط إرضاء العرب في ظل الوضع الدولي المتوتر، بل كان يمكن له أن يرجح كفة
الجانب العربي الفلسطيني، ويعمل في الآن ذاته على تهدئة الفلسطينيين ودفعهم لقبول
الأفكار البريطانية الجديدة التي تتطلب موقفاً معتدلاً منهم. غير أنه يبدو واضحاً
أن هذا لم يحدث على النحو الذي تصورته الحكومة البريطانية، حيث لم يتمكن العرب من
دفع الفلسطينيين إلى قبول الكتاب الأبيض والتعاون مع الحكومة البريطانية على
تطبيقه. لذلك تمسكت الحكومة البريطانية بالكتاب الأبيض بعد إعلانه رسمياً، ويستدل
على ذلك من القرارات التي اتخذتها بشأن الهجرة والأراضي خلال عامي 1939 ـ 1940.
ولم يكن ذلك بعيداً عما لمسته في المواقف العربية غير الفلسطينية من تأييد للكتاب
الأبيض. وقد جرى كل ذلك في وقت كانت فيه الحرب العالمية الثانية ما زالت في
مراحلها الأولى، وحينما كان الوضع العسكري البريطاني سيئاً.
في أيار 1940 حدث تبدل حكومي بريطاني أتى بونستن تشرشل المؤيد للصهيونية،
إلى رئاسة الحكومة. وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من إلغاء سياسة الكتاب الأبيض، فهو
قد سعى إلى عرقلتها ومحاولة الالتفاف عليها. فمن جهة، عمد تشرشل في أيار 1941 إلى
تغيير الوضع الاستراتيجي العسكري في المنطقة العربية، حيث بعث بقواته إلى العراق
فقضى على حركة رشيد عالي الكيلاني ـ الحاج أمين الحسيني وبعد إتمام المهمة
وإعادة الوصي على عرش العراق ورئيس وزرائه نوري السعيد إلى لحكم، انطلقت القوات
البريطانية في حزيران إلى سورية، فأسقطت حكومة فيشي الفرنسية الموالية لألمانيا
ونصبت مكانها حكومة فرنسا الحرة "الموالية للحلفاء". وبذلك أصبحت
بريطانيا مسيطرة سيطرة كاملة على المنطقة العربية الممتدة من العراق حتى مصر، على
الرغم من وجود حليفتها الضعيفة فرنسا في سورية ولبنان، ولم تعد هناك تخوفات
بريطانية جدية من احتمال قيام أية تحركات عربية مناهضة لها.
في الآن ذاته بدأ تشرشل يفكر في أن إقامة شكل من الوحدة أو
الاتحاد العربي المحدود من شأنه أن يقضي على سياسة الكتاب الأبيض ويتيح إقامة حكم ذاتي
يهودي مستقل في فلسطين. وكان المشروع المفضل لدى تشرشل في هذا المجال هو مشروع
فيلبي.
والجدير بالذكر أن مشروع الكولونيل فيلبي، الذي كان يعمل في
الثلاثينيات مستشاراً سياسياً للملك ابن سعود، هو في الأصل فكرة صهيونية طرحها بن غوريون
على فيلبي في أواسط الثلاثينيات. ويتلخص مشروع بن غوريون في إقامة اتحاد فيدرالي
أو كونفدرالي عربي برئاسة الملك ابن سعود، فيضم إلى جانب العربية السعودية كلاً من
العراق وشرقي الأردن وفلسطين، شرط الاعتراف بأن تكون فلسطين دولة يهودية ضمن
الاتحاد، والموافقة على إطلاق الهجرة اليهودية إليها. وقد راقت الفكرة لفليبي الذي
أخذ يدرسها ويجري تعديلات عليها حتى أصبحت تعرف بمشروعه، وبخاصة أن فليبي كان يسعي
في ذلك الحين إلى إحباط توجهات تي أي لورانس، المعروف بلورانس العرب، الذي كان
يعمل هو الآخر على مشروع اتحاد عربي برئاسة أمير شرقي الأردن، الأمير عبد الله،
وفي السياق ذاته بالنسبة لفلسطين. وقد يكون بن غريون هو صاحب فكرة هذا المشروع
أيضاً.
استهوى مشروع بن غوريون ـ فليبي ونستون تشرشل، ومن غير
المستبعد أن سبب ذلك هو أن هذا المشروع إنما يوفر لتشرشل اصطياد ثلاثة عصافير بحجر
واحد. فالمشروع في الأساس صهيوني بمعنى أن اليهود يؤيدون اتحاداً
عربياً يضمن لهم أقامة حكم ذاتي يهودي في فلسطين. والثاني هو أن تشرشل صاحب النظرة
الثاقبة يدرك حجم التطلعات الأمريكية للسيطرة على المنطقة ولو من خلال المشروع الصهيوني،
لذلك، فإن الولايات المتحدة ستتعاون مع بريطانيا على إنجاح المشروع. أما السبب
الثالث والأهم، فهو السيطرة المباشرة على النفط السعودي من خلال حكومة ذاتية
يهودية تشكل جزءاً من الاتحاد. ولا يمكن إغفال أن النفط كان وراء الفكرة الأساسية
للمشروع الذي طرحه بن غوريون.
في 19/1941، وفيما كانت القوات البريطانية منهمكة في العراق
وتستعد للتوجه إلى سورية، وزع تشرشل مذكرة غير رسمية على أعضاء حكومته، اقترح فيها
تشكيل "خلافة" إسلامية يكون الملك ابن سعود هو الخليفة فيها وتضم إلى
جانب العربية السعودية كلاً من العراق وشرق الأردن وفلسطين اليهودية ذات الحكم الذاتي.
ثم أضاف إليها سورية وكذلك جبل لبنان ضمن صيغة حكم ذاتي.
غير أن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات وقفتا ضد أفكار تشرشل
وتوجهاته، وذلك انطلاقاً من أن العديد من العرب الآخرين وبخاصة الهاشميين في
العراق وشرقي الأردن، لن يقبلوا بذلك، حيث ما لبث وزير الخارجية أنطوني إيدن أن
تصدى لتلك الأفكار بطريقة غير مباشرة في خطابه الشهير بخطاب مانشن هاوس في
29/5/1941 والذي قال فيه بأن إحداث انقلاب رشيد عالي في العراق "يجب أن لا تؤثر في علاقة بريطانيا بالعرب أو في تضامنها مع
قضاياهم"، وبأن بريطانيا لن تتردد في دعم أية وحدة يترقبها العرب أنفسهم.
وكانت هناك قناعه قوية في وزارة الخارجية وفي الاستخبارات البريطانية بضرورة
التزام بريطانيا بسياسة الكتاب الأبيض وبأن هذه السياسة "لا تتعارض ولا تنفي إمكانية
دعم أي اتحاد يترقبه العرب.
وقد شهدت السنوات الثلاثة اللاحقة مناقشات ومداولات عديدة بشأن
السياسة البريطانية في فلسطين والمنطقة العربية ككل، وأصبحت مسألة الوحدة أو الاتحاد
العربي ومسألة فلسطين تشكلان مسألة واحدة مترابطة سلباً أو إيجاباً.
فالرأي السائد في الأوساط البريطانية في ذلك الحين كان يتمثل
في أن طرح الأفكار حول اتحاد عربي في الوقت الذي لم يتم فيه استكمال تنفيذ الكتاب الأبيض
يمكن أن يؤدي إلى تشكك العرب في صدق نوايا بريطانيا، لذلك لابد من استكمال تنفيذ
الكتاب قبل التحدث عن أي مشروع عربي.
غير أن هذه الآراء كانت تقابلها آراء أخرى بأن تنفيذ الكتاب
الأبيض، ثم إقامة وحدة أو اتحاد عربي من شأنه أن يهدد المصالح البريطانية في
المنطقة، وذلك إذا فكر العرب في الانقلاب على بريطانيا بعد أن يكونوا قد توحدوا.
فقد كانت بريطانيا تفضل عقد معاهدات بريطانية مع كل دولة عربية
على حدة. ومع ذلك، فقد كانت هناك قناعه لدى المؤيدين لاستكمال تنفيذ
الكتاب الأبيض بصعوبة هذا التنفيذ طالما بقي تشرشل في رئاسة الحكومة.
ويبدو أن وجهة النظر الثانية، إلى جانب موقف تشرشل، هي التي
أخذت تزداد قوة مع مرور الوقت، وقد تعزز ذلك بفعل التطورات التي شهدتها الحرب العالمية،
إذ شكل عام 1943 نقطة تحول في مسار تلك الحرب، حيث أصبح نصر الحلفاء شبه
مؤكد بفعل الانتصار البريطاني في معركة العلمين ومعارك البحر المتوسط التي انتهت
باستسلام أكثر من 250 ألف جندي ألماني وإيطالي في تونس، إضافة إلى معركة الغواصات
في الأطلنطي.
فقد شهد عام 1943 تحركاً عربياً باتجاه بريطانيا لدعم إقامة
شكل من الاتحاد العربي، أبرزها تحركات الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن وتحركات رئيس
وزراء مصر مصطفى النحاس، ومشروع رئيس الوزراء العراقي المعروف بمشروع الهلال
الخصيب أو "استقلال العرب ووحدتهم"، أو الكتاب الأزرق، الذي قدمه للبريطانيين.
ويشكل هذا المشروع الأخير، وكذلك سابقه، نسفاً للكتاب الأبيض
واستبداله بحكم ذاتي يهودي في فلسطين في إطار الاتحاد العربي، ولذلك فإن هذين المشروعين
لا يختلفان بالنسبة لفلسطين عن مشروع فيلبي، آخذين في الاعتبار أن فكرة الحكم
الذاتي اليهودي، إنما كانت تعني الاستقلال شبه الكامل لليهود في فلسطين، وهو شبه
استقلال يحمل بذور الدولة المستقلة في أحشائه، بينما كان الكتاب الأبيض ينفي ذلك.
وتشير العديد من الوثائق البريطانية التي تم الإفراج عنها في
السنوات اللاحقة إلى أن الدوائر السياسية البريطانية لم تكن في عام 1943 متحمسة
على النحو الذي كانت عليه في عام 1939 و1940 لفكرة الاتحاد العربي، بل أن هناك آراء
مستندة إلى الوثائق البريطانية، تؤكد أن التصريح الشهير الآخر الذي أدلى به وزير
الخارجية أنطوني إيدن في فبراير 1943 الذي أكد فيه أن المبادرة من أجل الوحدة أو
الاتحاد العربي "يجب أن تأتي من العرب أنفسهم"
إنما كان بمثابة محاولة للتملص من
الالتزام بذلك، كما شكل مراهنة على أن العرب أنفسهم لن يتفقوا على تحقيق ذلك نظراً
للتنافس المستعر بين الزعامات العربية المختلفة من عراقية وسعودية ومصرية وشرق
أردنية. بل إن تياراً قوياً بقي متمسكاً في ذلك الحين بضرورة تنفيذ الجانب
الدستوري من الكتاب الأبيض فور انتهاء الحرب.
ففي اجتماع لمجلس الحرب الخاص بالشرق الأوسط عقد في القاهرة في
أيار 1943، تم اتخاذ توصيات في مقدمتها التوصية بضرورة
عدم الانحراف عن سياسة الكتاب الأبيض في فلسطين، وتوصية بالعمل على تشجيع الدول
العربية على البدء بتحقيق اتحاد اقتصادي وثقافي قبل الحديث عن الوحدة السياسة، أما
التوصية الثالثة فتدعو الحكومة إلى طرد فرنسا من سورية ولبنان لكي يتم ضمان
السيطرة البريطانية التامة على المنطقة[30]. والجدير بالملاحظة أن وزارة الخارجية البريطانية
رفضت كل توصيات مجلس الحرب، باستثناء التوصية الخاصة بالكتاب الأبيض.
ويمكن الاستنتاج في هذا المجال أن هذا التيار من البريطانيين
المؤيدين لسياسة الكتاب الأبيض في عام 1943 لم يكن بعيداً عن التخوف من التأييد المتنامي
في الولايات المتحدة للحركة الصهيونية، بكل ما يعنيه ذلك من تحول المشروع الصهيوني
إلى أداة لطرد بريطانيا من المنطقة لصالح الولايات المتحدة.
وقد استمرت هذه السياسة خلال عام 1944، حيث يشار في العديد من
الوثائق البريطانية إلى أن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات، وكذلك
رئيس الوزراء تشرشل بالطبع، لم يدعموا فكرة تأسيس جامعة الدول العربية، وكانت هناك
رغبة قوية في تأجيل اجتماع الإسكندرية الذي دعا إليه مصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر.
غير أن الأوساط البريطانية، وبعد عدم تمكنها من تأجيل الاجتماع، عمدت إلى التدخل
في قراراته وفي صياغته ميثاق الجامعة، ودفعه إلى الاعتدال فيها.
فعلى الرغم من التأييد القائم للكتاب الأبيض، رفضت بريطانيا
إطلاق سراح جمال الحسيني لكي يتمكن من حضور المؤتمر بصفته يتمتع بشرعية التمثيل الفلسطيني.
كما تم تحذير الوفود العربية من إثارة أية مشاكل بشأن فلسطين، وأعطيت وعود للوفد
السوري بشأن الاستقلال شرط عدم إثارة مثل هذه المشاكل.
ويمكن القول بشكل عام أن المواقف البريطانية، وبخاصة منذ عام
1943، قد خضعت لحقيقة تزايد اعتمادها مالياً وعسكرياً على الولايات المتحدة. وفي
ظل غياب عصبة الأمم المتحدة، كان لابد لبريطانيا أن تحصل على موافقة الولايات المتحدة
على أي قرار بشأن فلسطين.
في عام 1945 سقط ونستون تشرشل وحزب المحافظين، ووصل حزب العمال
إلى الحكم. وعلى الرغم من التأييد الكبير في صفوف الحزب المذكور للحركة الصهيونية،
فقد ظلت الحكومة ملتزمة على الصعيد الرسمي على أقل تقدير، ليس بسياسة الكتاب
الأبيض وإنما بعدم إقامة دولة يهودية في فلسطين. ففي رده على طلب الرئيس الأمريكي
ترومان بإدخال مئة ألف لاجئ يهودي إلى فلسطين فوراً، رد رئيس الحكومة البريطانية
الجديد، كليمنت أتلي، باقتراح تشكيل لجنة تقصي حقائق أنجلو ـ أمريكية، حيث زارت
اللجنة فلسطين وقدمت في 20/4/1946 تقريرها الذي وإن تكن رفضت فيه تقسيم فلسطين،
فهي أوصت بإدخال مئة ألف لاجئ يهودي إليها فوراً [34]، ناسفة بذلك أهم أسس الكتاب
الأبيض. ومع ذلك فقد قررت الحكومة الجديدة عقد مؤتمر في لندن لمناقشة الوضع، حيث
عقد المؤتمر في27/1/1947 واستمر لغاية 14/2/1947 قدم خلالها وزير الخارجية آرنست
بيفن مشروعاً يتضمن فرض نظام وصاية بريطانية على فلسطين لمدة خمس سنوات يقام خلالها
حكم ذاتي منفصل لكل من العرب واليهود على أسس كانتونية يصار بعدها إلى إقامة دولة
فلسطينية اتحادية أو يتم استمرار نظام الوصاية[35]. ويبدو واضحاً أن مشروع بيفن
وإن يكن قد التزم بمبدأ إقامة الدولة الفلسطينية الواحدة التي نص عليها الكتاب
الأبيض، إلا أنه جرد الكتاب الأبيض من أهم مبدأين من مبادئه، ألا وهما مبدأ وقف
الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومبدأ الدولة الديمقراطية حيث اقترح إدخال مائة ألف
يهودي على مدى عامين يتم بعدها دراسة الموضوع. وبذا يكون قد رضخ للطلب الأمريكي
بهذا الشأن.
كان ذلك آخر نبضة في نبضات السياسة البريطانية الفلسطينية، حيث
ما لبثت بريطانيا أن قررت رفع المسألة الفلسطينية إلى الأمم التي شكل قيامها
بديلاً لعصبة الأمم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع انتصار معسكر الحلفاء. وثم
انسحبت بريطانيا من فلسطين في 14/5/1948 مخلفة فلسطين لمصيرها المشؤوم. وفي
محاولة منها لتأكيد موقفها، فقد رفضت بريطانيا التصويت في 29/11/1947 على مشروع
قرار الأغلبية الذي طالب بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. غير أنها كذلك،
لم تصوت إلى جانب مشروع قرار الأقلية الذي أوصى بإقامة دولة فلسطينية واحدة على
نحو شبيه بسياسة الكتاب الأبيض. وبذلك انطوت صفحة يمكن القول بأنها كانت أهم صفحة
في صفحات التاريخ السياسي الفلسطيني، صفحة كان فيها أمل إقامة دولة فلسطينية
ديمقراطية أمراً ممكناً .
المواقف الأمريكية من الكتاب الأبيض
في أواخر الثلاثينيات، لم تكن الإدارة الأمريكية معنية كثيراً
بالشأن الفلسطيني أو العربي عامة إلا بالقدر المتعلق بمسألتين اثنتين، أولها مشكلة
اللاجئين اليهود الذين أخذوا يخرجون من ألمانيا أو المناطق التي احتلتها، حيث كان
الهدف الأمريكي هو الحيلولة دون تدفق هؤلاء اللاجئين إلى أراضيها، وكان السبب في
ذلك هو معارضة اتحاد نقابات العمال الأمريكيين لقدوم اللاجئين الذين من شأنهم
توفير أيادٍ عاملة رخيصة والتأثير في المستوى المعيشي للعمال الأمريكيين. ولذلك،
فمنذ صدور قوانين نورنمبرغ في ألمانيا في أواسط الثلاثينيات، واشتداد زخم خروج
اليهود منها، بقيت أبواب الولايات المتحدة مغلقة في وجوههم. ومع الحرب العالمية
الثانية، كانت السفن الأمريكية المحملة بالمؤن والسلاح والمساعدات تفرغ حمولتها في
أوروبا وتعود فارغة إلى الولايات المتحدة. ولم تكن الولايات المتحدة وحدها في تبني
تلك السياسة، بل كذلك كانت إنجلترا وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا، الأمر الذي يبين
أن مسألة اللاجئين اليهود قد لعبت دوراً رئيساً في الدعم الهائل الذي تلقته الحركة
الصهيونية من الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى حين قيام الدولة اليهودية في
فلسطين.
أما المسألة الثانية فيما يتعلق بالاهتمام الأمريكي بالمنطقة
العربية فتتعلق بالنفط، حيث حصلت الولايات المتحدة عبر شركة ستاندرد أويل
الأمريكية على امتياز التنقيب منذ أواسط الثلاثينيات، وأصبح النفط أحد العوامل الرئيسة المحددة ليس فقط للسياسات الأمريكية وإنما لكل سياسات
الدول الأوروبية إزاء المنطقة العربية.
وفي إطار المصالح النفطية، ظل الرئيس روزفلت حذراً من الاندفاع
وراء تحويل اللاجئين اليهود إلى فلسطين إذ يذكر أنه كان يرى أن مشكلة اللاجئين اليهود
أكبر من أن تتحملها فلسطين. لذلك دعا في عام 1938 إلى عقد مؤتمر لتدارس المشكلة،
واقترح توزيع نصف مليون يهودي على عدة بلدان، من بينها فلسطين. كما شارك في عام
1943 في مؤتمر آخر عقد في بيرمودا (19-20 /4/1943) وتم في هذا المؤتمر وبدعم من روزفلت، اتخاذ قرار بتوسيع اللجنة
الخاصة بحل مشكلة اللاجئين اليهود والعمل على وصولهم إلى أراضي محايدة وإرسال قسم منهم
إلى مدغشقر بعد الحصول على موافقة فرنسا بصفتها الدولة المستعمرة لمدغشقر. وقد ظل
روزفلت معنياً بمثل هذه الحلول حتى وفاته حيث اقترح في أوائل عام 1945 إعادة توطين
اللاجئين اليهود في أوروبا وبخاصة في بولندة.
غير أنه على الرغم من الموقف الأمريكي من الهجرة اليهودية إلى
الأراضي الأمريكية، فقد أخذت الحركة الصهيونية تقوى وتشتد في الولايات المتحدة
بفعل دخول العديد من الأثرياء والرأسماليين والعلماء اليهود إليها، وبفعل قرار الحركة
الصهيونية في أوائل الأربعينيات بنقل مركز ثقلها من بريطانيا إلى الولايات
المتحدة، ومنذ ذلك الحين أخذت الأموال اليهودية تلعب الدور الرئيس في الانتخابات
الأمريكية.
فلدى صدور الكتاب الأبيض، يذكر أن روزفلت لم يعلن تأييداً أو
رفضاً علنياً له، غير أنه عبر بشكل شخصي عن شكوكه بما تقوله بريطانيا من أن
صك الانتداب ليس فيه ما يشير إلى إمكانية تحويل الوطن القومي اليهودي إلى دولة بدون
موافقة العرب. وإذ قطع النشاط الصهيوني في الولايات المتحدة مراحل متقدمة مع عقد
مؤتمر بلتمور عام 1942 الذي تم فيه اتخاذ قرار تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، منح
روزفلت تأييده لذلك البرنامج بفعل الضغوط التي مارسها عليه اتحاد نقابات العمال
الأمريكيين الذي كان قد تحول إلى حليف للحركة الصهيونية، والذي كان روزفلت يعتمد
عليه اعتماداً كبيراً.
بغض النظر عن ذلك، ظل روزفلت ملتزماً جانب الحذر في هذا
المجال، ويذكر أنه قد اتفق مع تشرشل في عدة لقاءات خلال الحرب، على عدم اتخاذ أي
قرار بشأن فلسطين إلى أن تتضح نتيجة الحرب والوضع الدولي العام. ويذكر أنه في عام
1944 طرح فكرة إقامة نظام وصاية في فلسطين تديره بريطانيا لمدة خمس سنوات، وذلك في
إطار توجهه بعدم اتخاذ قرار بشأن فلسطين قبل انتهاء الحرب العالمية. ولم تتمكن
الحركة الصهيونية من انتزاع قرار من الكونغرس في 27/1/1945
أو من مجلس الشيوخ في 2/2/1945 على
مشروع ينص على "اتخاذ الإجراءات لوضع نهاية لغلق أبواب فلسطين وفتحها أمام الهجرة
اليهودية.. بحيث يتمكن اليهود من أعادة تحويل فلسطين إلى كومنويلث يهودي
حر". على الرغم من القرارات المؤيدة لإقامة دولة يهودية وفقاً لبرنامج
بلتمور، من قبل الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري خلال عام 1944.
وفي اللقاء الذي تم في فبراير 1945 في المياه الإقليمية
المصرية بين الملك ابن سعود وروزفلت وتشرتشل وهما في طريق عودتهما من مؤتمر يالطا،
أكد روزفلت لابن سعود على أنه لن يتم اتخاذ أي إجراء بشأن فلسطين إلا استناداً إلى
صيغة المشاورات الشاملة مع العرب، وهو موقف مماثل للموقف البريطاني الرسمي. وبعد
نحو شهر من ذلك اللقاء، أدلي روزفلت بتصريح قال فيه بأنه يؤيد إقامة "دولة
فلسطينية ديمقراطية حرة".
تبادل روزفلت العديد من الرسائل مع الملك ابن سعود كان
آخرها رسالة مؤرخة في 5/4/1945 تتضمن تأكيداً على مواقفه السابقة. وبعد أسبوع واحد
فقط، أي في 12نيسان 1945، توفي روزفلت بصورة مفاجئة.
كان هاري ترومان قد فاز في انتخابات عام 1944 بمنصب نائب
الرئيس بفضل الأصوات والأموال اليهودية. ومع وفاة روزفلت، تسلم ترومان الرئاسة.
وفي 31/8/1945 وجه رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني الجديد، آرنست بيفن،
طالبه فيها بإلغاء سياسة الكتاب الأبيض وفتح أبواب فلسطين أمام مئة ألف لاجئ يهودي.
ففور انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، أخذت تتضح
معالم موازين قوى دولية جديدة انتهت بها موازين الأربعينيات، حيث بدا واضحاً أن الصراع
المقبل لن يكون بين دول الحلفاء ودول المحور، وإنما بين قوتين صاعدتين هما
الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وهي موازين جديدة حكمت على سياسة الكتاب
الأبيض بالتراجع إلى أن تمت هزيمة تلك السياسة مع سقوط مشروع الأقلية في الأمم
المتحدة لدى طرح قضية فلسطين على الأمم المتحدة عام 1947، وهي هزيمة حققتها القوتان العظميان الجديدتان
في إطار معادلات سياسية جديدة. لقد كان مشروع الأقلية في الأمم المتحدة بمثابة
النفس الأخير لسياسة الكتاب الأبيض.
المواقف العربية من الكتاب الأبيض
أخذت مشكلة فلسطين تشغل الحكومات العربية على نحو جدي خلال
النصف الثاني من الثلاثينيات. وكان أول توجه في هذا المجال، هو النداء الذي وجهه
كل من ملك العربية السعودية وملك العراق وأمير شرقي الأردن للفلسطينيين لوقف الإضراب
والثورة في عام 1936، معبرين في ذلك البيان عن أملهم في أن تغير الحكومة
البريطانية سياستها الفلسطينية الصهيونية. وتلا ذلك نداء آخر ناشدوا فيه
الفلسطينيين عدم مقاطعة لجنة بيل الملكية التي وصلت إلى البلاد لتقصي الأوضاع
وتقديم التوصيات للحكومة البريطانية.
والجدير بالذكر أن الدول العربية لم تكن خلال الثلاثينيات
دولاً كاملة الاستقلال. فقد حصل العراق على الاستقلال عام 1932 وكان استقلاله
شكلياً تحكمه المعاهدة البريطانية العراقية الموقعة عام 1930، وكان البريطانيون هم
الذين يرسمون سياسة العراق ويديرون شؤونه من خلال مستشارين بريطانيين متواجدين في
كل مؤسسة من قمة هرم الدولة إلى قاعدتها. ولم تستقل مصر استقلالاً شكلياً على
النحو الذي كان عليه العراق إلا في عام 1936 حين تم التوقيع على المعاهدة
البريطانية ـ المصرية. وكان المستشارون البريطانيون هم الذين يوجهون السياسة
العربية السعودية التي كانت تتلقي مساعدات مالية بريطانية سنوية لإدارة شؤون
الدولة. أما سورية وشرقي الأردن، فلم تحصلا على الاستقلال إلا في عام 1946.
كانت المشاركة العربية في مؤتمر سنت جيمس في عام 1939 أول
مشاركة عربية في المداولات والاجتماعات الخاصة بمشكلة فلسطين، حيث كانت تلك
المداولات والاجتماعات قبل ذلك تعقد بين البريطانيين والفلسطينيين وبين
البريطانيين واليهود. فقد شارك في المؤتمر وفود حكومية عراقية وسعودية ومصرية وشرق
أردنية إلى جانب وفد يمني دعي كمراقب. غير أن عدة تحركات عربية كانت قد سبقت
انعقاد المؤتمر، وبخاصة منذ اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، غير أنها كانت
تحركات منفصلة دون أي تنسيق عربي مشترك، حيث نشط العراقيون والمصريون والسعوديون
في محاولة لإقناع بريطانيا بضرورة تغيير سياستها الموالية للصهيونية. وقد حكمت روح
التنافس هذه التحركات، حيث كان كل طرف عربي يتوجس من تحركات الطرف الآخر، وبخاصة
أن الحديث في الأروقة البريطانية كان قد بدأ في الثلاثينيات حول إقامة شكل من
الاتحاد العربي، فكان كل طرف يخشى أن يتفق الطرف الآخر مع بريطانيا على تزعمه لمثل
هذا الاتحاد.
ويتضح من التحركات العربية قبل وخلال وبعد مؤتمر سنت جيمس أنها
قد اتفقت على تليين الموقف الفلسطيني وإقناعه بضرورة قبوله المقترحات البريطانية. فكان
الاجتماع العربي الذي عقد في القاهرة قبل التوجه إلى لندن لحضور المؤتمر، حيث تم
الاتفاق مبدئياً على حد أدني من المطالب، كما بذلت جهود سعودية ومصرية وعراقية بعد
المؤتمر للتوسط بين الفلسطينيين والحكومة البريطانية لإجراء بعض التعديلات على
مسودة الكتاب الأبيض التي قدمت في المؤتمر وإقناع الفلسطينيين بالقبول بها، وهو ما
لم يحدث، حيث انتهت تلك المداولات بعدم تمكن الفلسطينيين من اتخاذ قرار، وبالتالي
رفض الكتاب رسمياً كما سيرد لاحقاً. فقد كانت مصر والسعودية بشكل خاص تميلان بشدة
إلى القبول بالكتاب الأبيض، إدراكاً منهما أن البديل لسياسة الكتاب الأبيض في أي
حل قادم هو التقسيم الذي يدعمه شرقي الأردن بشدة.
غير أن التطورات اللاحقة، وبخاصة منذ اندلاع الحرب العالمية
الثانية، قد أرخت بظلها على الدول العربية، حيث تراجع الانهماك بالمشكلة
الفلسطينية، وبخاصة أن الثورة الفلسطينية كانت قد انتهت تماماً.
ففي العراق، أدى الانقلاب الذي قام به الضباط القوميون بزعامة
رشيد عالي الكيلاني ومشاركة الحاج أمين الحسيني في أيار 1941 إلى إحداث تحول في السياسة
العراقية، يمكن ملاحظته في الموقف العراقي عام 1940 والموقف في عام 1942.
ففي 25/5/1940 بعث رئيس الحكومة العراقية بمذكرة إلى الحكومة
البريطانية يقول فيها بأن العراق "على استعداد لدخول الحرب ضد ألمانيا مقابل
تعهد بريطاني بتنفيذ الحكم الذاتي في فلسطين خلال الحرب أو فور انتهائها.
غير أن الحكومة البريطانية لم ترد على تلك المذكرة. أما في عام 1942، فقد أعلن العراق
الحرب على ألمانيا دون طلب أية شروط من بريطانيا.
كما أن تعزز الوضع العسكري البريطاني في المنطقة العربية بعد
إسقاط حكومة فيشي الموالية لألمانيا في سورية عام 1941، قد انعكس على المواقف العربية
التي أخذت تتنافس من جديد على اقتناص المشاريع الوحدوية التي تدعمها بريطانيا.
فانصب الاهتمام منذ عام 1943 على إيجاد نوع من الوحدة أو الاتحاد العربي الذي يمكن
من خلاله إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية. فعلى الرغم من استمرار تمسك العراق
ومصر والعربية السعودية بالكتاب الأبيض ومواصلة المطالبة بتنفيذه كاملاً من قبل
بريطانيا، فإن المشاريع العربية الوحدوية كمشروع الهلال الخصيب أو مشروع سورية
الكبرى قد انطلقت من مبدأ إيجاد حل للمسالة الفلسطينية على أساس منح "حكم
ذاتي" لليهود في فلسطين في إطار الاتحاد العربي، وليس في إطار دولة فلسطينية
يكون للعرب الفلسطينيين فيها أغلبية سكانية وسياسية.
وقد جاء تصريح لنوري السعيد في آب 1943 في سياق طرحه لمشروع
الهلال الخصيب، والذي قال فيه بأن فلسطين "قد لا تكون مشمولة في مشروع
الاتحاد العربي"، معززاً لتلك التوجيهات، حيث ما لبث نوري السعيد أن اضطر إلى
إصدار تكذيب رسمي لهذا التصريح بعد موجة من الاحتجاجات الفلسطينية.
ويمكن القول أنه منذ عام 1943، تم تعريب المسألة الفلسطينية
تعريباً تاماً. ففي سياق انهيار القيادة الفلسطينية العربية وتشتتها أو اعتقالها منذ
عام 1940، أخذت المسألة الفلسطينية تناقش بين بريطانيا والزعماء العرب، كل على
حدة، كما تحولت المسألة برمتها إلى جزء من المشاريع الوحدوية
العربية التي انتهت بتشكيل جامعة
الدول العربية في عام 1945بدون إيجاد حل للمسألة الفلسطينية سواء في إطار
الجامعة أو خارجها. كما أصبحت المناقشات العربية تدور بدون مشاركة أي من
الفلسطينيين العرب. ففي عام 1944 نجحت مصر في عهد رئيس الوزراء مصطفي النحاس في
إخراج جامعة الدول العربية إلى النور، وذلك بعد فشل المشاريع الوحدوية
السابقة، سواء كانت عراقية أم شرق أردنية. غير أن مصطفى النحاس لم يتمكن من إقناع
بريطانيا بالإفراج عن جمال الحسيني وأمين التميمي، المعتقلين في روديسيا، للاشتراك
في مؤتمر الإسكندرية التحضيري، وذلك بصفة أن جمال الحسيني هو الشخص الوحيد المتبقي
الذي يمكن أن يشكل زعامة شرعية عربية فلسطينية. وعلى الرغم من أن بروتوكول الإسكندرية
الصادر في 7/10/1944 قد نص على المطالبة العربية بتنفيذ الكتاب الأبيض، فإن صيغته
قد جاءت معتدلة ومهادنة. ولم يفلح المجتمعون العرب في قبول عضوية فلسطين في
الجامعة، على الرغم من أنه قد تم قبول كيانات لم تكن مستقلة، مثل سورية ولبنان
وشرقي الأردن، حيث لم يسمح لموسى العلمي، وهو الفلسطيني العربي الوحيد الذي حضر
جزءاً من مؤتمر الإسكندرية، بالتوقيع على بروتوكول الإسكندرية. كذلك لم يحضر أي
فلسطيني قمة أنشاص التي عقدت في 27 أيار 1946 لمناقشة تقرير اللجنة الأنجلو ـ
الأمريكية التي كانت قد أوصت بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين، غير أن المؤتمر ذكر
في بيانه الأخير بأن "قضية فلسطين ليست قضية خاصة بعرب فلسطين وحدهم .. بل هي قضية
العرب جميعاً، وأن فلسطين عربية يتحتم على الدول العربية وشعوبها صيانة عروبتها، وأنه
ليس في إمكان هذه الدول الموافقة بأي وجه من الوجوه على أية هجرة جديدة، ويعتبرون
ذلك نقضاً صريحاً للكتاب الأبيض الذي أرتبط به الشرف البريطاني.
وفي اجتماع مجلس الجامعة العربية في الثامن من حزيران 1946 في
بلودان، اتخذ المجتمعون قرارات "سرية" نصت على "حجب أية امتيازات
اقتصادية عن بريطانيا والولايات المتحدة وإلغاء مالهما من امتيازات في الدول العربية
وعدم تأييد مصالحها ومقاطعتهما مقاطعة أدبية في حالة إصرارهما على إدخال مهاجرين
يهود جدد إلى فلسطين. غير أن هذه التوصيات أو القرارات ظلت حبراً على ورق.
وفي مؤتمر لندن الذي عقد في أواخر 1946، قدمت الدول العربية
السبع الأعضاء في الجامعة العربية مشروعاً يستند إلى الكتاب الأبيض، إلا أنه رفض من
الحكومة البريطانية.
وكانت آخر محاولة عربية لإنقاذ سياسة الكتاب الأبيض في عام
1947 حيث تقدمت الوفود العربية والإسلامية إلى الجمعية العامة بعد إحالة المسألة الفلسطينية
إلى الأمم المتحدة من قبل بريطانيا، بمشروع أصبح يعرف باسم مشروع الأقلية الذي سقط
أمام مشروع الأغلبية الذي قرر تقسيم فلسطين. وبذلك انتهت آخر محاولة للإبقاء على
فلسطين موحدة كدولة فلسطينية وديمقراطية.
وقد يكون من الممكن القول بالإشارة إلى ما سبق، أن الدول
العربية لم تتمكن من وضع تصور عربي لحل المسألة الفلسطينية، إذ أن تعريب المسألة الفلسطينية
منذ أواسط الأربعينيات قد أدى إلى تغليب مصالح كل دولة عربية على المصلحة
الفلسطينية، حيث أصبحت المسألة الفلسطينية تعني ضرورة عدم انعكاسها سلباً على
مصالحهم السياسية الخاصة. كما وكان العرب ضعفاء بفعل التنافس القائم بينهم ولم
يتمكنوا من الاستفادة من الأهمية الإستراتيجية للمنطقة بالنسبة لبريطانيا
والولايات المتحدة.
المواقف
الفلسطينية من الكتاب الأبيض
قبل المضي في استعراض وتقييم المواقف الفلسطينية من الكتاب
الأبيض، يجدر التعرف على المواقف السياسية التي اتخذتها القيادة السياسية
الفلسطينية قبل مرحلة الكتاب الأبيض.
فمنذ عام 1929، إن لم يكن قبل ذلك، قبلت اللجنة التنفيذية،
التي كانت بمثابة القيادة الشرعية لعرب فلسطين إلى حين حلها في عام 1934، بحل وسط يتمثل
في إقامة حكومة فلسطينية على قاعدة التمثيل النسبي للسكان من عرب ويهود، ومع حق
المندوب السامي البريطاني في استخدام الفيتو إذا لزم الأمر، إضافة إلى شرط تقييد
الهجرة وبيع الأراضي لليهود[54]. كان عدد اليهود في فلسطين في ذلك الحين قليلا
نسبياً حيث كانوا يشكلون نحو 18% من السكان. ومع ذلك، فقد ظلت القيادة الفلسطينية
متمسكة بهذه المبادئ خلال الثلاثينيات على الرغم من تزايد الهجرة وارتفاع النسبة
السكانية لليهود. ففي 8/7/1937، أي بعد يوم واحد من صدور تقرير لجنة بيل الملكية
المتضمن التوصية بتقسيم فلسطين، أصدرت اللجنة العربية العليا، التي تشكلت عام 1936
لقيادة الثورة، مذكرة رفضت فيها توصيات اللجنة، وطالبت فيها "بوقف الهجرة
وبيع الأراضي، وإقامة حكومة وطنية ديمقراطية ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة تحفظ جميع
الحقوق المشروعة لليهود.
وفي الاجتماع التمهيدي الذي عقدته الوفود العربية في القاهرة
قبل التوجه إلى لندن لحضور المؤتمر، اتفق العرب بما فيهم الفلسطينيون على الحد
الأدنى المقبول عربياً من مؤتمر لندن، والذي تضمن إقامة حكومة فلسطينية يتم فيها تمثيل
اليهود وفقاً لنسبتهم العددية، على الرغم من أن نسبة اليهود كانت قد ارتفعت كثيراً
عما سبق. فخلال الاجتماع المذكور الذي عقد في 17/1/1939 تم
الاتفاق على المطالبة بما يلي:
- إقامة دولة "عربية" فلسطينية يكون تمثيل اليهود فيها وفقاً لنسبتهم العددية.
- منح اليهود ضمانات دستورية، حيث يمنحون استقلالاً داخلياً واسع النطاق في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية، فيكون تعليمهم بلغتهم والموظفون المحليون منهم ويكون لهم الاستقلال المطلق في شؤونهم وأحوالهم الشخصية، وذلك في إطار وقف الهجرة، وإلغاء فكرة الوطن القومي اليهودي.
- عقد معاهدة بين بريطانيا وفلسطين على غرار المعاهدة البريطانية العراقية[57].
وتضيف مصادر أخرى ما يلي: "خطة تستند في محتواها على
الميثاق الفلسطيني قدر الإمكان.. تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في المناطق
التي يؤلف لعرب الأكثرية فيها، وكذلك الإسلام دينها، وتكون اللغة العربية اللغة الثانية
في المناطق اليهودية.
وخلال مؤتمر سنت جيمس، طالب رئيس الوفد في خطابه بإقامة
"حكومة ديمقراطية فلسطينية"، كما تشير بعض المصادر إلى أن الوفد
الفلسطيني قد تلقى خلال انعقاد المؤتمر إيعازاً من الحاج الحسيني يتضمن الموافقة
على تشكيل حكومة انتقالية يكون ثلثاها من العرب والثلث من اليهود.
هكذا يبدو واضحاً أن القيادة الفلسطينية وتحت ضغط الظروف المستجدة
وموازين القوى، قد تخلت عن مطالبها السابقة المتمثلة في دولة عربية خالصة والتمييز
بين يهود ووطنيين وغير وطنيين أو الاعتراف فقط باليهود الذين كانوا في فلسطين قبل
الحرب العالمية الأولى.
فلماذا رفض الفلسطينيون العرب الكتاب الأبيض وقرروا عدم
التعاون مع بريطانيا على أساسه في البيان الصادر في 29/5/1939؟ وهل رفضوه حقاً؟
ومن رفضه ومن قبل به؟ ولماذا لم يتم التعاون مع بريطانيا عملياً لاستخلاص ما يمكن
استخلاصه من الكتاب؟
تشير الشهادات التي أوردها عدد من أعضاء اللجنة العربية العليا
الذين شاركوا في تلك الأحداث، وكذلك كتابات عدد من المراقبين الفلسطينيين الذين عاشوا
تلك الأحداث، ثم الدارسين لتلك الفترة، والتي سوف نستعرضها لاحقاً، إلى أنه فيما
يتعلق بالكتاب الأبيض نفسه، فقد كان الاعتراض الرئيس منصباً بدرجة أو بأخرى، على
وجود فترة انتقالية وتأجيل إقامة الحكومة إلى ما بعد عشر سنوات، وذلك على الرغم من
موافقة الحكومة البريطانية خلال المباحثات التي جرت بعد انفضاض المؤتمر، على تسليم
المراكز الرئاسية في الدوائر الحكومية للعرب فور عودة السلام لفلسطين كما
ورد سابقاً.
كما تشير الرسالة التي بعث بها محمد عزة دروزة الذي كان يمثل رأي
الحاج أمين الحسيني آنذاك، إلى عوني عبد الهادي بتاريخ 14/5/1939 إلى عدم وجود اعتراض
على فترة انتقالية، حيث تطالب الرسالة بتشكيل "حكومة وطنية بدستورها ومجلس
نوابها ورئيس دولتها خلال ثلاث سنوات"، يتم بعدها إنهاء الانتداب "خلال فترة معقولة، الأمر الذي يوضح أن الأمر لم يكن غير قابل
للتفاوض، فيما لو توفرت الإرادة العربية الفلسطينية لفرض وقائع جديدة فوق الأرض.
وكان البيان الصادر بتوقيع الحاج أمين الحسيني في 29/5/1939
الذي أعلن فيه رفض اللجنة العربية العليا للكتاب الأبيض قد أدرج العديد من
الانتقادات يمكن تلخيصها بما يلي: الإشارة إلى صك الانتداب، عدم ضمان الاستقلال
لأنه معلق بموافقة اليهود، الفترة الانتقالية ليست نهائية، الدستور يشير إلى وطن قومي
يهودي، ما ورد في الفقرة الخاصة بمراسلات حسين ـ مكماهون حول فلسطين، إعطاء اليهود
نسبة الثلث، تدابير انتقال الأراضي غير كافيه، وتم اختتام البيان الذي صدر بتوقيع
الحاج أمين الحسيني بالفقرة التالية: "من أجل هذا، فإن اللجنة العربية العليا
لا يسعها إلا أن تعلن باسم الشعب العربي في فلسطين رفضها لهذه الخطة، وعدم تعاونها
مع الحكومة البريطانية لتنفيذها.. إن الأمم الحية لا يكون القول الفصل في حياتها ومستقبلها
والقرار الأخير في مصير أوطانها داريها للكتب البيض والسود، إنما القول الفصل
والقرار الأخيرة لإرادة الأمة نفسها، وقد أعلنت الأمة العربية إرادتها وقالت
كلمتها داوية وجارفة، وستصل إلى ما تريد بعون الله، وستستقل فلسطين ضمن الوحدة العربية
وستبقى عربية إلى الأبد.
غير أن الكثير من الشهادات والاستنتاجات الأخرى، تؤكد على
المسؤولية الشخصية للحاج أمين الحسيني في رفض الكتاب، وتعزو ذلك إلى أسباب شخصية.
ففي كتابة الخاص بالحاج أمين الحسيني، يورد فيليب مطر عدة أسباب تتلخص في رفض بريطانيا
التعاون معه شخصياً، على الرغم من أن مصادر أخرى تؤكد على أن بريطانيا كانت تنوي
العفو عنه والسماح له بالعودة إلى فلسطين. كما يقول مطر بأن المفتي كان يضع
الاعتبارات الشخصية فوق الاعتبارات السياسية العملية، إضافة إلى مثاليته، كما يضيف
إلى ذلك سبب رفض بريطانيا العفو عن الثوار في فلسطين فوراً، وكذلك موقف الثوار
أنفسهم الذين أعلنوا رفضهم للكتاب، في وقت كان الحاج أمين الحسيني يشكل
رمزاً ومصدر إلهام لهم.
أما عوني عبد الهادي أمين سر اللجنة العربية العليا وممثل حزب
الاستقلال فيها، فيقول: لابد لي من القول بأنني كنت من القائلين بقبول الكتاب
الأبيض لأنني كنت أعتقد أنه من المستحيل على الحكومة البريطانية أن تذهب مع العرب إلى
أبعد ما ذهبت إليه، وبأن مهمة السياسي أن يعرف ما هو ممكن وما هو غير ممكن، وأن
السير على سياسة خذ وطالب هي أفضل من التعنت غير الجدي". ويرد عوني عبد
الهادي على تشدد المفتي إزاء المطالبة بتشكل الحكومة الفلسطينية فوراً، بقوله:
"وهنا أبديت رأيي وقلت، أنا لا أفهم تشددنا بطلب تشكيل الحكومة دفعة واحدة،
إذ لا يوجد هناك أي استقلال بعد قبولنا بأن يكون المندوب السامي على رأس هذه
الحكومة وله حق الفيتو وأن يكون مع كل وزير مستشار بريطاني.
ممثلاً لوجهة نظر الشيوعيين يقول إميل توما الذي عايش كل تلك
الأحداث: "القوى الديمقراطية رأت في الكتاب الأبيض نجاحاً حققته تضحيات
الجماهير، ودعت إلى القبول به بوصفه خطوة على الطريق التحرري.
أما أحمد الشقيري، الذي عايش أيضاً تلك الأحداث، فيقول:
"لم يكن الكتاب الأبيض محققاً لمطالبنا القومية بكاملها، بل لم يكن يخلو من
فجوات وسقطات، ولكنه كان خطوة على الطريق، وكانت جميع الدول العربية تلح على
اللجنة العربية العليا بقبول الكتاب الأبيض كحل مرحلي يضع زمام الأمور بأيدينا، معظمه
إن لم يكن كله.. كان معروفاً أن الحكومة البريطانية لم تكن مستعدة أن تتعاون معه،
بل مع جمال الحسيني.. ولكن الحاج أمين ضعف أمام نوازعه الشخصية، فازداد عداؤه
للكتاب الأبيض ولأنصاره، وبات يشير إلى المجاهدين علي ألا يوافقوا على الكتاب
الأبيض.
ويقول تسفي بيليغ الذي ألّف كتاباً هاماً عن الحاج أمين
الحسيني: "كان الكتاب الأبيض الثمرة الأكثر أهمية للكفاح السياسي العسكري
الذي قاده الحاج أمين الحسيني بعد عشرين عام تقريباً، لكن تطرفه كان السبب في ألاّ
يقطف الفلسطينيون هذه الثمرة، وذلك لأنه وقف مع تعنت قادة فصائل الثورة الذين رفضوا
الانصياع للقيادة السياسية وقبول الكتاب الأبيض، فهؤلاء القادة ما كانوا ليكتفوا
بأقل من الاستقلال الكامل، وطالبوا كشرط لإيقاف الثورة بالعفو عن المئات من
زملائهم الموجودين في السجون، بالإضافة إلى ذلك، أقلقت الحاج أمين إمكانية قيام
خصومه بقطف ثمار كفاحه وأن يسيطروا بمساعدة البريطانيين على مواقع مركزية في
التسوية النهائية". ويختتم بيليغ بقوله:
"لقد أزالت معارضة الحاج أمين للكتاب
الأبيض أحد عوامل الخطر المهدد للصهيونية.
ما الحاج أمين نفسه، فبعد أن هاجمه الكثيرون على رفضه للكتاب
الأبيض، وبخاصة بعد ما آلت إليه الأمور في عام 1948، قام خلال الخمسينيات بنشر سلسلة
مقالات في الصحف المصرية، أنكر فيها أنه رفض الكتاب الأبيض، وألقى باللوم على
بريطانيا لأنها لم تنفذه. غير أنه ما لبث في عام 1967 أن اعترف بالموقف الرافض
الذي اتخذه من الكتاب الأبيض، وعزا ذلك إلى تأجيل إقامة الدولة.
أما بالنسبة لمواقف أعضاء اللجنة العربية العليا، يصف عزة طنوس
الذي شارك في مؤتمر سنت جيمس الوضع بقوله: اجتمعنا أعضاء الوفد بعد عودتنا من لندن
مع المفتي في لبنان، باستثناء راغب النشاشيبي ويعقوب فراج (حزب الدفاع).. كانت
معنوياته عالية.. (وإذا صح ذلك فهو يعني أن الوفد لم يرفض الكتاب الأبيض في لندن
وإنما انتظر إلى حين الاجتماع مع الحاج أمين لاتخاذ القرار).. وثم احتدت المناقشة
حين تنبه بعضنا إلى أن الحاج أمين لم يكن راضياً عن الكتاب الأبيض.. وتبين لنا بعد
مناقشات استمرت خمسة عشر يوماً، أن الشخص الوحيد الذي يرفض الكتاب الأبيض هو
الحاج أمين، بينما كان الأربعة عشر عضواً مع الكتاب، وقد عقدوا العزم على إنهاء
السياسة السلبية التي تبنتها القيادة العربية من قبل، وصار شعارنا الآن: خذ وطالب
بالباقي. وعند هذا الحد من المناقشات، هيمن جو من الامتعاض والفزع.. فقد كان
الأعضاء الأربعة عشر يعرفون تأثير الحاج أمين الحسيني السحري على الجماهير الفلسطينية،
وبأن شيئاً لا يتم دون موافقته، وبأن الكتاب الأبيض لا ينفّذ إلا إذا باركه القائد
الأعلى.. واستمرت اجتماعات اللجنة العليا دون نتيجة، ويستطرد طنوس: "حين فشل
أعضاء اللجنة في إقناع الحاج أمين بتغيير موقفه، لم يجدوا مخرجاً غير حل
اللجنة العربية العليا وأن يتفرقوا.. والبديل الآخر كان في مواجهة المفتي وإعلان
قبولهم بالكتاب الأبيض، لكنهم وللأسف، لم تكن لديهم الشجاعة، والسبب في ذلك هو
عقلية الجماهير الفلسطينية المتعلقة بالمفتي.. ورأوا أن مجال العمل سُدّ أمامهم،
فما بقي لهم إلا أن يمضوا كل في طريقه بحثاً عن ملجأ أمين يقيهم من أذى الأيام
السوداء المقبلة، وترك كل منا الأخر على مضض، حزيناً مرغماً، وبقي البعض منا مع
الحاج أمين مثل جمال الحسيني وأمين التميمي. أما البقية: ألفرد روك ويعقوب الغصين
وأحمد حلمي عبد الباقي وعبد اللطيف صلاح وحسين الخالدي وفؤاد سابا ورشيد الحاج
إبراهيم وعوني عبد الهادي، فقد سمحت لهم حكومة الانتداب بالعودة إلى فلسطين، كما عاد
موسى العلمي وجورج أنطونيوس وأنا إلى القدس.
ويبدو أن فشل أعضاء اللجنة في إقناع الحاج أمين لم يحدث إلا
بعد مساعٍ أخرى، حاول فيها بعض الأعضاء العمل من أجل إقناع الحكومة
البريطانية بإجراء بعض التعديلات على الكتاب الأبيض، حيث توجه عزة طنوس إلى لندن
وعقد اجتماعاً مطولاً مع وزير المستعمرات مالكوم ماكدونلد الذي رد
عليه بقوله: "لا توجد وثيقة سياسية بصورة عامة بدون فجوات.. إن الكتاب
الأبيض يلغي الدولة الصهيونية وينهي سياسة الوطن القومي اليهودي ويبدأ سياسة جديدة
تؤدي بعد فترة انتقالية إلى فلسطين مستقلة أنتم دائماً فيها أكثرية، إن الخوف من
أكثرية يهودية ومن فقدان الأرض العربية قد زال وليس للعرب الآن ما يخافون
منه"، واستطرد قائلاً: "وإذا أخذنا بعين الاعتبار العطف المتزايد على
اليهود بسبب اضطهاد هتلر لهم، نجد أن الكتاب الأبيض هو إنجاز حكومي كبير"،
واختتم قائلاً: "سيكون شيئاً مؤسفاً إن رفضت اللجنة العربية العليا سياسة
جهدت الحكومة في إقامتها ضد صعوبات كبرى. إذا أضعتم هذه الفرصة، فلن تعود أبداً.
كما حدت بعد ذلك اجتماع القاهرة الذي وعدت فيه الحكومة
البريطانية بإجراء بعض التعديلات، وهو المشار إليه سابقاً.
وفي حين يقول عزة طنوس أن جميع أعضاء اللجنة كانوا مع الكتاب
باستثناء الحاج أمين، فإن أحمد الشقيري يقول بأن اللجنة "قد انقسمت
بين فريق هو الأكثرية يرى أن نقبل بالكتاب ونعمل على تحقيقه حتى تصير مقاليد
الأمور بأيدينا.. وفريق آخر هو الأقلية ويرأسه الحاج أمين يرى أن نرفضه". أما
الحاج أمين نفسه فادعى في جزء من مذكرات كتبها عام 1971 أن جميع أعضاء اللجنة
العربية العليا قد أيدوه في موقفه الرافض للكتاب الأبيض، علماً بأن العديد من
أعضاء اللجنة لم يحضروا الاجتماع الذي دعا إليه لإصدار البيان الخاص برفض الكتاب
الأبيض، بينما يقول أحمد الشقيري إن أكثرية اللجنة:
جمال الحسيني، أحمد حلمي عبد الباقي،
عوني عبد الهادي حسين الخالدي وغيرهم رضخوا أمام رفض المجاهدين كما عبر عنه الحاج
أمين، فيما يصف عصام سخنيني الانقسام الذي حدث في الساحة السياسية العربية
الفلسطينية إزاء الكتاب الأبيض، بأنه لم ينحصر في الخلاف التقليدي بين الحسينيه
والنشاشيبية فقط، بل وصل هذا الخلاف إلى داخل اللجنة العربية العليا نفسها وإلى
صفوف أنصار الحاج أمين نفسه. بالإضافة إلى ذلك، فإن حزب الدفاع الذي كان يرأسه
راغب النشاشيبي الذي لم يشارك في الاجتماع مع الحاج الحسيني، عقد في 29/5/1939 مؤتمراً
يقال بأن عدد الحاضرين فيه بلغ 1400 شخص، معلناً قبول الحزب والحاضرين بالكتاب
الأبيض وكان ذلك في نفس اليوم الذي أصدر فيه الحاج أمين الحسيني الرفض الرسمي
للكتاب الأبيض. كما أعلن حزب الكتلة الوطنية الذي كان يرأسه عضو اللجنة العربية
العليا عبد اللطيف صلاح، عن تأييده للكتاب الأبيض.
ولكن كيف كانت ردود
الفعل على الكتاب الأبيض داخل فلسطين؟
فعلى صعيد الثورة والثوار، فقد رفض الثوار الكتاب وصدر بيان
عنهم يندد بالحسينية والنشاشيبية والملوك العرب "الذين يحكمون تحت إمرة
بريطانيا، ورفضوا الهدنة وطالبوا بالاستقلال التام لفلسطين عربية وعلى الأرض شهد الوضع
خلال انعقاد مؤتمر سنت جيمس تصعيداً "في العمليات العسكرية تواصل حتى أيلول
1939، تكبد خلالها الفلسطينيون العرب "خسائر لم يكن من الممكن تعويضها".
وجاء استشهاد عبد الرحيم الحاج محمد في آذار 39 بمثابة ضربة قاصمة للثورة..
وأخذت القيادات المحلية بعد ذلك تنهار وتغادر ميادين القتال عشية اندلاع الحرب
العالمية الثانية، حيث أدى التقارب الفرنسي ـ البريطاني إلى إغلاق طريق
الإمدادات القادمة من سورية ولبنان، كما كانت الحدود مع شرقي الأردن قد أغلقت.
ووفقاً لما كتبه أكرم زعيتر في مذكراته بتاريخ 3/11/1939، "فإن الثورة قد انتهت قتالاً وسلاحاً ومعارك". أما الأسباب
فيوجزها بظروف الحرب وغياب القادة وإنهاك القوى وشح المال والسلاح ونفاذ الذخيرة
وقطع بريطانيا وعد على نفسها بتنفيذ الكتاب الأبيض" . وعبثاً يحاول الحاج
أمين الحسيني خلال عام 1940 إحياء الثورة من مقره في بغداد ، حيث كان قد غادر
لبنان هارباً إلى بغداد في 16/10/1939 بعد التقارب الفرنسي ـ البريطاني.
يصف عجاج نويهض الذي عايش تلك الفترة في فلسطين، الوضع بقوله:
"وصلت بنا الحالة هنا.. إذا سألت العربي اليوم أياً كان تقريباً عن رأيه في
الكتاب الأبيض، فإنه يعلم ما فيه من نقص وإن اختلفت وجوه التعبير، ولكنه عندما يتكلم
بجوارحه بقول: "متى الخلاص متى الخلاص.
كما يصف عمر صالح البرغوثي، الذي عايش أيضاً تلك الفترة في
فلسطين، ردود الفعل على الكتاب الأبيض بقوله: "المجلس (أي اللجنة العربية
العليا) معلق بقرارات وآراء سماحته وهم قليلون، والمثقف يرى أنه يصلح للتعاون مع
الحكومة (البريطانية) بشرط أن يكون الطرف الوطني غير حسيني وغير
نشاشيبي، وهؤلاء كثيرون. وهذه الفكرة منتشرة في السهل والجبل والمدينة
والقرية.. أما السواد، فقد تعبوا وملوا ويريدون إنهاء الموقف بأي حل كان.. فالفلاح
تعطلت أرضه والتاجر كذلك والعامل.. والحزازات زادت.
ومع تدهور مكانة الحج أمين الحسيني في فلسطين بعد فشل انقلاب
رشيد عالي في العراق عام 1941، وما حققته بريطانيا في العام نفسه من انتصارات،
بدأت بالقضاء على انقلاب رشيد عالي ثم احتلال إيران وسورية، أخذ الفلسطينيون العرب
يشقون حياتهم بدون قيادة ولا زعامة ولا مؤسسات وطنية تحميهم أو تنير لهم طريقهم.
فتراجع نفوذ الحاج أمين الحسيني وقابله ازدياد تقارب وتحالف حزب الدفاع مع الأمير
عبد الله في شرقي الأردن، ولم تفلح بعض المحاولات المحلية لتجميع الأحزاب والقوى
السياسية. كما أن بقية الأحزاب، التي كانت في الأساس مؤسسات نخبوية، تكاد تكون قد
اختفت مع تشرذم وتشتت قادتها. وبفعل غياب القيادة السياسية الفاعلة، تزايد
الاعتماد على الحكام العرب وانتشرت الفئوية، وبخاصة مع بداية انتشار الحديث عن
مشاريع عربية وحدوية منذ عام 1943. وتشير رسالة بعث بها وفد عراقي برئاسة جميل المدفعي إلى فلسطين
للتباحث في قضايا الوحدة العربية، موجهة إلى نوري السعيد، أن الوفد لم يتمكن من
لقاء أي من الزعامات الفلسطينية المعروفة بسبب تشتتهم، حيث كان قد تم اعتقال بعضهم
ونفيهم إلى خارج البلاد، بينما هاجر البعض الآخر إلى الدول العربية المجاورة
واحتلوا مناصب وظيفية عالية في مصر وسورية والعراق وشرق الأردن بشكل خالص.
ولدى بدء الإعداد والتحضير لتشكيل جامعة الدول العربية، لم
تتمكن الزعامات العربية من إيجاد جسم سياسي عربي فلسطيني لحضور مؤتمر الإسكندرية في
عام 1944، وعقدت الدورة الأولى من المباحثات دون أي ممثل فلسطيني، حيث تم الاتصال
بموسى العلمي فحضر الدورة الثانية من أعمال الاجتماع المذكور الذي صدر عنه
برتوكول الإسكندرية. وقد ألقى موسى العلمي في 4/10/1944 كلمة فلسطين مركزاً على
الكتاب الأبيض، حيث ألقى اللوم أولاً على جميع العرب في رفض الكتاب، غير أنه
ادعى بعد ذلك أن الجانب الفلسطيني قد وافق عليه في عام 1940 بعد المباحثات التي
جرت في بغداد بين جمال الحسيني والكولونيل نيوكمب، الناطق باسم الحكومة البريطانية
وفي ختام هذه المطالعة فمن حقنا بعد كل ما ورد فيها من
"أسباب" لرفض الكتاب، أن نتساءل: لماذا؟
إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الكتاب الأبيض قد رفض من قبل الحاج
أمين الحسيني بمفرده، وبأن ذلك الرفض لم يكن لأي من الأسباب الواردة سواء في بيان
اللجنة العربية العليا أو في أقوال أعضاء اللجنة والتحليلات اللاحقة، أو في أقوال
الحاج أمين الحسيني نفسه، وإنما كان في ما قاله عزة طنوس، والمتمثل بما يلي:
".. وأصبح واضحاً لدينا أنه كان لديه مخطط آخر لمستقبل فلسطين، ولم يعرف أحد
في ذلك الوقت أنه كان يبني مخططه على نصر الألمان النهائي أو على أي شيء آخر.
فبعد رفض الحاج أمين طلباً فرنسياً بإعلان تأييده للحلفاء في
الحرب، هرب إلى بغداد، معتقداً، أن بإمكانه تغيير الصورة الإستراتيجية في المنطقة
من خلال عزل العراق عن الجبهة المؤيدة للحلفاء ولبريطانيا بالذات، والتأثير بالتالي
في مسار الحرب، لصالح ألمانيا.
فعلى المستوى العسكري، يمكن القول بأن الحاج أمين الحسيني
وجماعته من الضباط العراقيين بزعامة رشيد عالي الكيلاني قد أساؤوا التقدير حين
قاموا بانقلابهم في أيار1941، قبل التأكد من الخطط العسكرية الألمانية، حيث كان مقرراً
أن تشن ألمانيا هجوماً على الممتلكات البريطانية في المنطقة العربية في حزيران
1941، غير أن هتلر قد غير فجأة من خططه وشن هجومه على الاتحاد السوفييتي في
التاريخ نفسه. كما كان تشرشل قد استبق الأحداث باحتلال العراق وسورية وإيران. لم
يخسر رشيد عالي الكيلاني وضباطه إلا أنفسهم نتيجة ذلك الخطأ الاستراتيجي. أما
الحاج أمين الحسيني، فقد خسر وطناً. أما على المستوى السياسي، فقد أساء الحاج أمين
الحسيني التقدير لأوضاع الثورة في فلسطين واحتمالات قدرتها على الصمود والاستمرار،
متخذاً قراره على أساس أنها قادرة على ذلك، وانصاع لما أراده الثوار، دون تقدير
لمسؤولياته كزعيم وقائد سياسي، حيث ما لبث الثوار أن انهاروا بعد أن اكتمل التطويق
البريطاني ـ الفرنسي لهم. أما المستوي الثالث، فيتعلق بطبيعة القيادة الفردية
للحاج أمين الحسيني وللضعف الشديد في بنية القيادة السياسية الفلسطينية، ولفردية اتخاذ
القرار من جانبه وتقبل أعضاء القيادة لتلك الفردية.
ويتأكد هذا الضعف السياسي، كما تتأكد محدودية الثقافة السياسية
لهؤلاء الأعضاء في عدم تحملهم لأية مسؤولية سياسية أو أخلاقية حين حلوا اللجنة العربية
العليا وانفضوا تاركين فلسطين بدون قيادة، متجهين للبحث عن مصالحهم الشخصية.
أما على المستوي العربي، فإن الكتاب الأبيض ما لبث أن ضاع في
خضم مشاريع الوحدة أو الاتحاد العربي التي شكلت مقدمات، بل ورافداً لفكرة التقسيم
من خلال قبولها بحكم ذاتي لليهود، الذي يعني في المطاف الأخير، دولة لليهود في فلسطين.