جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

مقالات

مقتطفات من كتاب "الاسطورة والتراث" لسيد القمني



دس السم في العسل
في أنقاض مدينة "أوغاريت" الكنعانية القديمة، (تل شمرا حالياً)، تم العثور على ثروة لا تقدر بثمن من المدونات الكنعانية، التي ألقت ضوءاً مباشراً على أصل ميثولوجيا الخلق التوراتية، وكأن أهم ما ورد فيها تطابق الأحداث، حتى اسم أبي البشر (أدم) بلفظه ورسمه، وهو كما ورد "أب أدم ويقرب"، أي "ويقترب أبو البشر"[1]، ومن النصوص التي وجدت قضاء الإله على اليم أو الغمر، أو البحر الأول ممثلاً في تنين هو بالاسم ذاته: "لوياثان" مما يثير الدهشة لشدة التطابق: أنظر النص الكنعاني يقول:

في ذلك اليوم
يعاقب الرب القاسي العظيم، الشديد لوياثان
ويضع نهاية للحية الملتوية الهاربة
شالياط ذات الرؤوس السبع[2].
ونص آخر يقول:
ألست أنت التي محقت يم؟
ألست أنت التي أفنت التنين؟
وسحقت الحية
ذات الرؤوس السبع؟!
أما العجيب في أمر هذه القصة كلها، التي تعود إلى مفاهيم شعوب زراعية، تعبر عن مشكلات المزارع وهمومه، ووضعت لتفسير ظواهر ترتبط تماماً بعلاقة البحر بالطمي بالنهربالخصب بالفلاح نفسه، العجيب أن تنتقل بقضها وقضيضها إلى التوراة، وهو كتاب شعب رعوي بدوي لا علاقة له بكل هذا، ويحل فيها الرب العبراني محل كل آلهة المنطقة الزراعية، ليقوم بكافة الأدوار، في مختلف ملاحم قصص البطولة بين المزارع والبحر، دونما مبرر منطقي واحد، سوى استيلاء الرب التوراتي على تراث المنطقة، الذي أصبح تراثاً مقدساً، ينحشر داخل كتاب مقدس، ولا شك أن الكاتب التوراتي كان يعلم أن الجميع سيقبلها، في مصر أو كنعان أو الرافدين، لأنها إنما تردد تراثهم هم، ومفاهيمهم هم، وذكرياتهم هم، أيام كانت الأنهار تحفر في الرمل طريقاً لها، ولا يوجد من أرض تصلح للزراعة إلا في الدلتا حيث يفرش النهر طميه، فيهاجمه البحر، لكن التوراة ألبسته ثوباً جديداً، وبطولة جديدة، وشعباً يختص بشؤون الإله البطل الجديد هو الشعب العبري.
إلى هنا والخطورة محدودة فيما حدث، لكن الإضافات التي لحقت هذا التراث، وعشقها الكاتب التوراتي في قصة الخلق القديمة، تشير إلى المنحنى الخطير، والسم المدسوس في العسل، الذي التهمه الجميع شاكرين حامدين، أما الغل اليهودي والحقد البدوي على الزراع، يجسد الأهداف المطلوبة داخل عقل المنطقة وروحها وقلبها المطمئن بالإيمان، فتروى التوراة ما لم يقله الأصل البابلي والكنعاني، أو تعكس الوضع الذي كان في أصل الرواية المصرية، حول أول بشر على الأرض، فبينما نجد أول البشر في مصر (أوزوريس) رمزاً للأرض المنزرعة، إلهاً للخير، وأخاه (ست) رمز البوادي والبداوة إلهاً للشر، تقول رواية التوراة:
إن أبا البشر (أدم)، قد أنجب أخوين هما (هابيل) و (قايين)، "وكان هابيل راعياً للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض، وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قرباناً للرب، وقدم هابيل أيضاً من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فأغتاظ قايين جداً، وسقط وجهه ... وحدث، إذ كانا في الحقل، أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله – تكوين 4- 2: 8".
هكذا وضح أن الرب قد ميز بين الراعي على المزارع، أو "العبراني" على "المصري، والكنعاني، والرافدي" منذ بدء الخليقة، دونما سبب واضح سوى أن الفلاح اجتهد، وعرق، وزرع، وحصد، وقدم ثومه، وبصله، وكراثه، قرباناً مروياً بعرق جهده البطولي فأذى أنف الرب، الذي كان دوماً يتوق إلى رائحة اللحم المحروق، ويلح دائماً في طلبه، وهو ما قدمه له الراعي لتهدأ نفسه وتستريح. والسبب الأوضح أن قايين فلاح من أهل الخصب والزرع، ومن ثم كان لا بد من إبراز الشر الكامن فيه، مقابل طيبة الراعي السمح الذكي، الذي لم يبذل جهداً، إنما اكتفى بالاسترخاء إلى جوار قطعانه وهي تتلاقح، ثم أخذ من منتوجها لربه قرباناً، فيقتل المزارع أخاه الراعي الطيب غيرة وحسداً، ولا يبقى للمزارع ميزة بكل جهوده وحضارته ومنشأته وتراثه وبطولاته، إزاء التفضيل الرباني لهابيل العبراني، وما عليه إلا أن يترك الأرض وتاريخه فيها للراعي الطيب، وما شاء الله قدر.


[1] - فراس السواح: سبق ذكره، ص 88
[2] - نفسه ص 185
الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *