جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

مقالات

اسطورة الطوفان



من كتاب "الاسطورة والتراث" لسيد القمني
إن طوفاناً سيهلك مراكز العبادة
وتهلك ذرية البشر ...
إن هذا هو القرار الذي أصدره الإله في مجمعهم
قم فابن فلكاً
هذا ما همس به الإله لعبده الصالح زيوسودرا
                                                من ملحمة جلجامش.

وتتابع الملحمة فتقول:
أرعد الإله حداد في الغيوم
وبعد أن زلج زيوسودرا الباب
كان الإله حداد يرعد في الغيوم
وأصبحت الريح عاتية، فأرخى الحبال
وأنطلقت السفينة مع التيار
وجاءت كل الرياح، والعواصف المدمرة،
واكتسحت الزوابع، العواصم،
وبعد أن اكتسحت الزوابع البلاد
في سبعة أيام وسبع ليال
وتأرجحت السفينة مع الرياح المدمرة،
وفي المياه العالية
بزغت الشمس تنير الأرض[1]
أما التوراة فتقول:
"... فقال الله لنوح: نهاية كل بشر  قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلماً منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض ... أصنع لنفسك فلكاً من خشب .. فها أنا أتي بطوفان الماء على الأرض ... كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك، ومن كل حي، من كل ذي جسد أثنين .. تكون ذكراً وأنثى ... وكان الطوفان ..
وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فتغطت جميع الجبال الشامخة .. فمات كل ذي جسد .. وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوماً، ثم ذكر الله نوحاً(؟!) .. وأجاز الله ريحاً على الأرض، فهدأت المياه، وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء .. واستقر الفلك في الشهر السابع .. على جبال أراراط ..
وحدث من بعد أربعين يوماً أن نوح فتح طاقة الفلك .. وأرسل الغراب، فخرج متردداً .. ثم أرسل الحمامة .. فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها .. فلبث سبعة أيام وعاد فأرسل الحمامة من الفلك، فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا بورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلت من الأرض، فلبث سبعة أيام أخر، وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه .. فخرج نوح وبنوه وأمرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، وبنى نوح مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال للرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان ..
وكلم الله نوحاً وبنيه معه قائلاً: هذه علامة ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم وضعت قوسى في السحاب، فتكون علامة ميثاق بيني وبين كل نفس حية، فلا تكون المياه طوفاناً لتهلك كل ذي جسد .. وعاش نوح بعد الطوفان ثلث مئة وخمسين سنة، وكانت كل أيام نوح تسع مئة وخمسين سنة – تكوين – 6: 9".
هذا ما جاء بالكتاب العبري المقدس حول قصة الطوفان، وربما أصبح واضحاً أننا سنكرر القول: "وكان مظنونا أنها إبداع خاص بالمؤلف التوراتي"، والقول لازم عن المقدمات االتي أسلفناها، والتي أصبحت معلومة بعد حل رموز اللوح الحادي عشر من ملحمة (جلجامش) البابلية، مما دفع الأثاري (كريمر) – بعد ذلك بربع قرن تقريباً – إلى الإعلان بثقة تامة وبلا وجل: "أن قصة الطوفان التي دونها كتاب التوراة العبراني لم تكن أصلية، وإنما هي من المبتكرات السومرية التي اقتبسها البابليون ووضوعوها في صيغة الطوفان البابلي"[2]
وباستقراء الثلث الأسفل من لوح سومري ذي ستة حقول (نشرة أرنوبول عام 1914)، يخبرنا أنه بعد فترة قصيرة من خلق العالم، اكتشف الآلهة السومرية أن الإنسان لم يحقق الغاية من خلقه، وانه أفسد في الأرض وسفك الدماء، لذلك قررت إفناء الحياة على الأرض وغسلها بماء الطوفان، هذا بينما يؤكد الباحث العراقي (فاضل عبد الواحد): "أن الطوفان يعتبر من المظاهر الطبيعية المألوفة في وادي الرافدين، فمنذ قديم الأزمان حتى تاريخنا المعاصر، مازالت مياه دجلة والفرات وروافدهما، تغمر مساحات واسعة كل عام تقريباً، خاصة في الجزء الجنوبي من القطر، وأن هذه الظاهرة الطبيعية المروعة، التي لم يستطع الإنسان في وادي الرافدين السيطرة عليها بوسائلة المتوفرة أنذاك، وكانت في نظر الفرد مثل غيرها من الظواهر الطبيعية الأخرى، سراً من الأسرار الإلهية وسلاحاً من أسلحتها، ولهذا فقد احتل الطوفان حيزاً مهماً في معتقدات سكان وادي الرافدين وتأليفهم، ولنا أن نفترض أن واحداً من تلك الفيضانات العظيمة في بلاد سومر، بقي صداه في ذاكرة الأجيال لشدة هولة، وبسبب ما لحق بالناس والبلاد من دمار، بحيث اتخذ منه المؤرخون القدامى نقطة لتأريخ الحوادث"[3].
ولعل ما يدعم فرضية الباحث العراقي بشدة، التنقيبات الآثارية التي كشفت الطبقات السفلى للمدن السومرية القديمة، والتي أظهرت تحتها طبقة من الطمي يتراوح سمكها ما بين نصف المتر والثلاثة أمتار[4]، مما يشير إلى حدوث الفيضان العظيم بما لا يقبل دحضاً للبيان الأركيولوجي.
أما ألواح سومر فتطالعنا: أن الملك الورع التقي (زيوسودرا Ziusudra)، الذي كان يؤدي النذور بانتظام لكهان الآلهة، اختارته الآلهة لتخبره بقرار إفناء الحياة الأرضية بالطوفان، ونصحته ببناء فلك عظيم يجمع له من كل كا ئنات الأرض، من كل زوجين إثنين، وهو ما يوضح لنا أن السومريين قد تصوروا فيضانهم حدثاً كونياً عم الأرض بأسرها، فسجلوه بهذا المعنى، وتمضى القصة في تصوير هول الفيضان وجبروته، إلى أن يهدأ وترسو السفينة، ويطلق (زيوسودرا) حيواناته، فتكافئة الآلهة بالخلود الألفي في (دلون).
وتأتي الدولة البابلية، فتتناول الملحمة وتعيد صياغتها، ويظل المحتوى، ويتغير ابطال المغامرة، فهذه المرة يصبح البطل هو (أوتنابشتيم Utnabeshtem) الذي ناداه الإله قائلاً:
أوتنابشتيم، يا رجل شوربياك
اهدم الدار، وابن سفينة
دع أملاكك، وانقذ حياتك
ارحل بها، وخذ بذرة كل حي.
وينفذ العبد الصالح أوامر ربه، ويروي قائلاً: وأكملت السفينة في اليوم السابع، وحملتها بكل صنوف الأحياء، واستمرت أعاصير الطوفان ستة أيام وست ليال، واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب، وفي اليوم السابع أطلقت حمامة، فذهبت وعادت، وعز عليها أن تجد مكاناً طاهراً تحط عليه، وأرسلت سنونو وعاد ولم يجد موضعاً طاهراً يحط عليه، فأرسلت غراباً فذهب ورأى الماء يتناقص، فأكل وعب ودار ولم يعد، وحينذاك واجهت الجهات الأربع، وضحيت، وسكبت قرباناً فوق قمة الجبل"[5]، وكانت تضحية (أوتنابشتيم) بدوره، ببعض حيوانات السفينة الطاهرة، قام بذبحها وحرقها، ويقول النص: فتنشق الرب الرائحة الذكية"[6].
وعقب الإله (إنليل) على الطوفان بقوله: "لقد حمل المذنب ذنبه، والآثم إثمه، أمهله كي لا يفنى، ولا تهمله كي لا يفسد"[7]، وهكذا كان غرض الإله تطهير الأرض من القتلة وسفاكي الدماء، فسفك هو دماء البشر والحيوان ومزقهم شر ممزق، دون أن يميز بين صالح وطالح، لكن (إنليل) وبقية الآلهة ندموا على ما ألحقوه بالبشرية من ويل، وعند ذلك قامت الإلهة (عشتار) بتعليق عقدها الثمين الملون في باحة السماء، ليصبح قوس قزح، رمز الميثاق مع البشر بعدم تكرار الطوفان، وعقبت بالقول: "كما أنني لا أنسى عقد اللازورد الذي كان يزين عنقي فإنني لن أنسى تلك الأيام قط، سأ1كرها دوماً"[8].
الرمز واضح، فقد سجل الكاتب التوراتي الملحمة الرافدية بكل منمنماتها وزخارفها الدقيقة، لكن إذا كان أهل الرافدين قد سجلوها تذكرة بحدث يتعلق بظروف طبيعة بلادهم، وبأنساقهم الفكرية، فإن الكاتب التوراتي الذي لم يعش واقع الحدث ولا علاقة له بالأمر، يتناول الملحمة ليحقق منها أغراضاً أخرى، فينسب الأمر كله للرب العبراني، ثم ينسب بطولة الملحمة للرجل الذي نسبوا إليه النسل الميمون (نوح)، لأن من نوح سيأتي بنو عابر، ثم يضيف الكاتب التوراتي مالم يكن في الأصل الرافدي، بما يصادق على رؤيتنا بشكل وضاء، تلك الرواية التي تزعم ان بني عابر قد استلبوا التراث، وحشوه بما يلزم، ثم أعادوا تصديره إلينا مرة أخرى، ملحقاً بما يحقق الأغراض المرصودة.
وربما كان من المستحسن، قبل أن نتناول ذلك الحشو وكشف المرصود، أن نركن قليلاً  إلى كتب التراث الإسلامية، نقرأ بعض ما تعلق بالأمر فيها، وقبلها نعرج على ما جاء في أخبار العرب الجاهلية، حيث يؤكد لنا الباحث (محمود الحوت) أن أهم أساطير العرب مستمدة من مقدسات اليهود الذين دخلوا بلاد العرب واستقروا فيها وأصبحوا جزءاً من شعوبها وقبائلها، لذلك اعتقد العرب في جاهليتهم أن نوحاً هو أحد مشاهير الأنبياء الخمسة أولى العزم، وأخذوا أيضاً بروايات اليهود حول كونه النسل التاسع فقط لآدم[9]، وهو أمر لم يستدع من العقل العربي أي تساؤل حول إمكانية ضلال الإنسان في مثل هذا الزمن القصير، أو حول استحقاق هذا النسل المتواضع لمثل هذا العقاب الهائل، كلا لم يتساءل العربي وهو في جاهليته مثل هذه التساؤلات، ويزخر الشعر الجاهلي بأخبار السفينة النوحية، فهذا (الأفوه الأودي) نموذجاً يأبى إلا أن يسجل أسماء أبناء نوح قائلاً:
ولما يعصمهما سام وحام                          ويافت حيثما حلت ولام
أما طول العمر النوحي فيصبح مضرب المثل، ومكافأة الله له غاية المنى، ويؤخذ ذلك من مديح (الأعشى) لإياس:
جزى الله إياسا خير نعمة كما                    جزى المرء نوحاً بعدما شابا
في فلكه إذ تبداها ليصنعها                        وظل يجمع ألواحاً وأبواباً
أو مثل ضرب الراجز:
فعلت لو عمرت سن الحل                       أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل                      صرت رهينة هرم أو قتل
ويذهب (د. جواد على) في موسوعته (الفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) إلى أن الشاعر (أميه بن عبد الله بن أبي الصلت) هو الناظم الحقيقي لحادثة الطوفان، بالشكل الذي عرفه العرب قبل الإسلام مباشرة[10].
هذا أمر ، أما الرواية القرأنية الكريمة عن الطوفان فأمر  آخر، فالنبي (نوح) فيها (عليه السلام)، نبي كريم كمحمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله تعالى لهداية قومه فكانوا كأهل الجاهلية، في تكذيبهم وجحودهم لدعوة الإسلام الكريمة، ولما كان دعاء النبي مستجاباً، فقد دعا نوح (عليه السلام) على ما تقوله الآيات الكريمة " وقال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا – 36 – نوح".
وكانت قصة النبي (نوح عليه السلام)كغيرها من قصص الأنبياء، والقرى الكافرة بالنبوات، عبرة لمن عارضوا دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتحذيراً مبطناً ووعيداً، وواضح في مجمل الآيات التي ذكرت النبي نوحاً عليه السلام، ربطها بين ومثال ذلك:
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح – 42 – الحج.
وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس أية – 37 – الفرقان.
كذبت قبلهم قوم نوح – 12ص – 12- القمر – 5 – غافر.
أما ما جاء في كتب الأخبار فلعل أهمية وأجدرة بداية بالتسجيل والتدبير، ما جاء قوم (نوح) وقوم (محمد عليه الصلاة والسلام)، تذكرة بمصير من سبق وكذبوا،  في قول الشيخ (الحافظ ابن كثير): "وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، وأعترف به آخرون منهم، وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا .. وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع، وجهل بليغ، ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الأرض والسماء"[11]
هذ وقد جمع (الجزائري) ما ورد عن النبي نوح (عليه السلام) في موجز لطيف، يصف فيه حجم السفينة بقوله: "فقدر طولها في الأرض ألف ومائتي ذراع، وعرضها ثمانمائة ذراع،وطولها في السماء ثمانون ذراعاً .."، وعندما ركب نوح (عليه السلام) السفينة ومن معه "ضربتها الأمواج حتى وافت مكة (؟!) وكافت في البيت، وغرق جميع الدنيا إلا موضع البيت، وإنما سمى البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق، فيقي الماء ينصب من السماء أربعين صباحاً، ومن الأرض العيون، حتى ارتفعت السفينة فمست السماء، فرفع نوح يده وقال: يا رهمان أنفر، وتفسيرها يا رب أحسن، فأمر الله الأرض أن تبلع ماءها ... واستوت السفينة على جبل الجودي وهو جبل بالموصل، جبل عظيم ... ويروي عن أبي عبد الله .. أن مدة لبثهم في السفينة سبعة أيام ولياليها .." ثم يروي عن وهب مسندا أن الله أوحى لنوح حين هبط من السفينة: "يا نوح إني خلقت خلقي لعبادتي، وأمرتهم بطاعتي، وقد عصوني وعبدوا غيري، واسوجبوا بذلك غضبي فغرقتهم، وإني قد جعلت قوسي اماناً لعبادي وبلادي، وموثقاً مني بيني وبين خلقي ، يأمنون إلى يوم القيامة من الغرق، ومن أوفى بعهدي مني؟ ففرح نوح عليه السلام وتباشر، وكانت القوس فيها سهم ووتر، فنزع الله عز وجل السهم والوتر من القوس، وجعلها أماناً لعباده لا تقولوا قوس قزح فإن قزح اسم الشيطان، ولكن قولوا قوس الله، وإن هذه المجرة التي في السماء ويسمونها مجرة الكبش، موضع انفطار السماء للماء، لأنه لم من الغرق، وفي الحديث:  مايزال ينزل منها قطرات (؟!) وعندما نزل دفعاً التأمت السماوات وبقي أثره كالجرح المندمل يبقى أثرة في البدن" [12].
وقد أشاد (ابن كثير) بدوره للقربان الذي رفعه (نوح عليه السلام) لله وللقوس علامة العهد في قوله: "إن الله كلم نوحاً قائلاً: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التي معك، ولينموا وليكثروا في الأرض، فخرجوا وابتنى نوحاً مذبحاً قرباناً إلى الله عز وجل، وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال، فذبحها قرباناً إلى الله عز وجل، وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض، وجعل تذكارا لميثاقه إليه: القوس الذي في الغمام وهو قوس قزح[13].
أما العجيب، فهو ما جاء عند (الجزائري) يحمل حفريات من عقائد أهل الشام والرافدين القديمة، فيقول: "عن الصادق .. قال: يوم النيروز هو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح عليه السلام على الجودي"[14]، والنيروز كما هو معلوم عيد الربيع والخصب والزرع القديم، حيث كانت منطقة الرافدين والشام تدين بعبادة عدد من آله الخصب والزرع والمطر منذ فجر التاريخ، مثل الإله (حداد) إله الصواعق والبروق والأمطار، والإلهة (بارات) إلهة (بيروت) الفينيقية، وكانت الوجه الآخر لعملة (عشتار) الرافدية، والتي حملها معهم الفينيقيون لتبارك رحلاتهم البحرية عبر جبل طارق، فأعطت للجزر البريطانية اسمها، وكان رمزها الأول هو الصليب، نجده منقوشاً على عرشها، أو تمسكه – في مصوراتها – بيدها، علما أن الصليب كان الاصطلاح السومري الدال على الخصب[15]، كما حملت اسم ستيلا ماريا) أو ستلا ماري) أي كوكب البحر[16]، حيث عبد الفينيقيون عشتار كما عبدها الرافديون، ممثلة في كوكب الزهرة، ولما كان الفينيقيون قوماً بحريين يعتمدون في حياتهم على التجارة البحرية، فقد اتخذوا من الزهرة أو (عشتار) أو (بارات) أو (ستيلا ماريا) أو (ماريا) كوكبهم المعبود، بل إن (ماريا) هو الاشتقاق اللاتيني للماء الطاغي أو البحر الهادر أو الطوفان.
وبالعودة إبى الجزائري يقول: "عن أبي الحسن .. أن الله أوحى إلى الجبال إني واضع سفينة على جبل منكن في الطوفان فتطاولت وشمخت، وتواضع جبل بالموصل يقال له الجودي، فمرت السفينة تدور في الطوفان على الجبال كلها حتى انتهت إلى الجودي، فوقفت عليه فقال نوح: بارات قني، بارات قني، يعني اللهم أصلح اللهم أصلح، وفي حجيث آخر أنه ضرب جؤجؤ السفينة الجبل، فخاف عليها قال: يا ماريا أتقن، يعني رب أصلح، وفي حديث آخر أنه قال: يا رهمان أتقن، وتأويلها يا رب أحسن.. وفي عيون أخبار الرضا، قال: " إن نوحاً .. لما ركب السفينة أوحى الله إليه: يا نوح إن خفت الغرق فهللني ألفاً ثم سلني النجاة أنجيك من الغرق ومن معك، فلما استوى نوح ومن معه في السفينة ورفع القلص عصفت الريح عليهم، فلم يأمن نوح من الغرق، فأعجلته الريح فلم يدرك أن يهلل ألف مرة فقال بالسيريانية هلوليا ألفاً ألفاً، يا ماريا أتقن، فأستوى القلص وجرت السفينة"[17].
وإن النداء (هولوليا) كان نداء معروفاً ومستعملاً في الأناشيد الطقسية لآلهة الخصب القديمة، وكانت رمزاً لعبادة (ديونسيوس) النسخة الرومانية لتموز الرافدي زوج عشتار، ونسخة من حداد صاحب الأمطار والرعود والبروق، و (هولوليا) من بالإيلوليين، والنداء مركب من شقين: الأول هو (إيل) وهو اللفظ السامي الدال على الإله، أما الثاني فهو – احتمالاً – من السومرية (A - U) أي السائل المخصب الأصل (ريلوليو Eieleu) حتى عُرف عباد (ديونيسيوس) نسبة لهذا النداء وهو خاصة (حداد) صاحب الرعود والبروق والصواعق والسيول[18] ونعود – منهاً للتشتت – إلى موضوعنا ورؤيتنا وزعمنا إن العبريين قد استلبوا تراثنا وحشوه بما يلزم، ثم أعادوا تصديره إلينا مرة أخرى ملحقاً بما يحقق الأغراض المرصودة.
فهذا (نوح) التوراتي يهبط من سفينته ومعه أولاده الثلاثة (سام، وحام، ويافت) ومن نسلهم تأتي شعوب الأرض،  وحسب التصنيف التوراتي فإن (سام) سيخلف ذرية من أهل البوادي الرعاة، الذين سينسلون بني عابر المباركين، أما (حام) فسينجب ولدين ينسلان شعبين، الأول هو (مصرايم) أو المصريين، وأهل السودان كل ذوي البشرة السوداء حتى الكوشيين أو الأحباش، والثاني هو (كنعان) أو الكنعانيين سكان فلسطين (تكوين/10)، ولعله من الواضح أن الرجل وهو يدون، قد اتخذ لجده البعيد اسما من جذر السمو (سام)، وحط باهل النيل وفلسطينفي طين الأرض وحمئها (حام)، فهو من جذر الحمو والحمأ، وربما ربط الكاتب بين الحمو واسوداد الطين واسوداد البشرة، كما أن الحمأ هو طين الأرض الحارة الخصبة. وتصل الإضافات التوراتية إلى هدفها حين تقول: وابتدأ نوح يكون فلاجاً وغرس كرمه وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه واخبر أخويه خارجاً، فأخذ سام ويافت الرداء، ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم بما فعله به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم – تكوين – 9 – 20:26.
وهكذا: ومرة أخرى، تحيق اللعنة بكنعان الفلاح، مع قرار سماوي ونبوءة مقدسة، تؤكد أن (كنعان) سيكون عبد لذرية الراعي (سام) أبي العبريين، دونما ذنب جناه، سوى أن أباه وليس هو، أبصر عورة (نوح)، بل إن (نوحاً) نفسه لم يصب بداء الثمل من السكر، إلا عندما "ابتدأ يكون فلاحاً"؟!
والمغزى أوضح من الحاجة للشرح أو التعليق. فأرض كنعان هي المطمع والمشتهى، لأن مصر والرافدين أكبر من الطموح، ومع ذلك لم يكن هناك بأس من طرح الفكرة ابتدائياً؛ فمن يعلم؟ فيقول الرب لإبراهيم: "لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات – تكوين – 15 – 18".
أما النجاح الحقيقي الذي حققته مثل هذه الإضافات المصدرة إلينا، فهو أنها شقت طريقها بثقة داخل تراثنا الإسلامي، مع ملحقات وزيادات، وأحياناً مجاملات وملاطفات لبني إسرائيل، بحسبانهم محل احتكار النبوات التي سبقت الرسالة الإسلامية، وخاصة أن الآيات القرأنية الكريمة قد أعادت التاريخ كله دورة كاملة، وأكدت أن كل الأنبياء السابقين في بني إسرائيل إنما كانوا مسلمين، ومن هنا، ومع قلة التفاصيل في العموميات القرأنية، لم يجد كتبة التراث والأخبار حرجاً أو بأساً من الرجوع إلى المنمنمات الدقيقة لتاريخ هؤلاء الأنبياء والمسلمين، في كتاب اليهود المقدس، حتى أصبح منهلاً لا ينضب للمشتغلين بعلوم التراث، ولا غضاضة في الأمر مع إعلان النبي (محمد صلى الله عليه وسلم) أنه هو ذاته فرع من الشجرة المباركة، عبر (إسماعيل إبن إبراهيم)، ومعلوم أن (إبراهيم) أهم أرومات العبريين وأنشرهم ذكراً، هذا مع التصريح الواضح في الحديث النبوي عن (البخاري) "بلغوا عني ولو أية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وهو الحديث الذي استندت إليه طبقة كتاب السير والتاريخ المسلمين، وعلى رأسهم (ابن كثير) الذي أورد الحديث في مقدمته لكتاب البداية والنهاية، معلناً أنه سيجعل من روايات أهل الكتاب مصدراً لأغنى عنه، ويعقب على الحديث الشريف بالقول: "فهو محمول على الإسرائليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار"[19].
وإجمالاً لذلك، قام (النيسابوري الثعلبي) يصب جام غضبه على (حام) المزارع، فيقول راوياً عن قتادة منسوباً إلى النبي (ص): فأصاب (حام) امرأته في السفينة، فدعا نوح ربه، قال: فتغيرت نطفته فجاء بالسودان"[20]، فالأسود هنا أدنى درجة من الأبيض، وسر سواده مضمر في الحديث، وربما كان ذلك سر أن العبيد يغلبهم السواد، ثم يضيف من عطاء الحديث (ودعا نوح على حام أن لا يعدو شعر ولده آذانهم، وحيثما كان ولده يكونون عبيداً لولد سام[21]، ثم يزيد مجاملاً مؤكداً لأهل التوراة فضلهم، فيقول: "ولما حضرته الوفاة (يقصد نوحاً) أوصى إلى ابنه سام، وجعله ولي عهده"[22].
أما زعيم طبقة كتاب السير (ابن كثير)، وهو – زيادة في النكاية – من ابناء فلسطين، ومن مواليد بلدة "شركوين"، وعاش حياته في "مجدل" وتوفي بها، فيجعل كنعان هو الأبن الكافر من بني (نوح) والذي قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء[23]، ويكرر الثعلبيات قائلاً: "إن حام واقع امراته في السفينة، فدعا عليه السلام نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود هو كنعان .. وقيل بل رأي أباه نائماً وقد بدت عورته، فلم يسترها وسترها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وأن يكون أولاده عبيداً لإخوته"[24].
أما (المسعودي) فأسعده أن يردد "ودعا على ولده حام، لأمر كان منه مع أبيه قد اشتهر، فقال: ملعون حام، عبد عنيد يكون لإخوته، ثم قال مبارك سام"[25] أما (نعمة الله الجزائري) فينعم على سام بمزيد من النياشين والتبريكات، فيقول في قصص الأنبياء: "عن أبي عبد الله أن جبريل أتى فقال له: يا نوح إنه قد أنقضت نبوتك واستكملت أيامك، فانظر الاسم الأكبر وميراث العلم فادفعها إلى ابنك سام .. فدفع عليه السلام آثار النبوة إلى ابنه سام، فأما حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به"[26] وسبب ذلك مسلمات مصدقة، صدق بها (الصدوق القمي) في كتابه "علل الشرائع" وهو يقول: "إن نوحاً كان يوماً في السفينة نائماً، فهبت ريح فكشفت عورته، فضحك حام ويافث، فزجرهما سام ونهاهما عن الضحك، وكان كلما غطى سام شيئاً تكشفه الريح، كشفه حام ويافث، فأنتبه نوح فرآهم يضحكون فقال: ما هذا؟ فأخبره بما كان، فرفع نوح يديه إلى السماء يدعو ويقول: اللهم غير ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان .. جميع البيض سواهم من سام، وقال نوح عليه السلام لحام ويافث: جعلت ذريتكما خولاً أي خدماً لذرية سام إلى يوم القيامة"[27].
والأمثلة على ذلك كثير، ولن نجد كتاباً تراثياً يخلو من ذكر القصة التوراتية الملغومة، مع إضافات وشروحات اجتهادية لإنصاف (سام) على (حام) أو لإنصاف الراعي على المزارع، أو أهل المراعي على أهل الوديان الخصبة، ومن هنا نفهم لماذا أصبح كل الفراعين في نظر أحفادهم المسلمين كفار ملاعين، ولماذا يترحم الفلسطيني اليوم على (طالوت) أو (شاؤول) الإسرائيلي، ويلعن جده جالوت) أو (جوليات) الذي استشهد وهو يدافع عن أرضه،  وما على الأثنين سوى مسح عرق الحياء عن الجبين، من أفاعيل الأجداد الملاعين، مع بني عابر الطيبيين، وإذا كان (ابن كثير) قد صب نقمته على جده (كنعان)، فلا غرابة إذا وجدنا العرف في القرية المصرية يستمد أصوله من كتب التراث الإسلامية فيجعل من ينتحلون اسم "العرب"، ويعدون أنفسهم من أصل رعوي (من جزيرة العرب) أصحاب حق مشروع في السيادة والسلب والنهب دون استهجان، بينما يصبح الانتساب للفلاحين سُبة وعار وضعفاً ومذلة وهواناً، مما جعل أصحاب الأصول المصرية القحة يتنافسون في استكشاف أصول بدوية عربية لأروماتهم، مما يسجل النتيجة الواضحة للجولة بين الراعي والمزارع، أو بين أبناء (سام) وأبناء (حام)، على المستوى الديني، ثم بالتبعية على المستوى الاجتماعي والنفسي، بل السياسي، وهو امر لا مندوحة من الاعتراف به، ولا عزاء للفلاحين.




[1] - د. فاضل عبد الواحد: الطوفان في المراجع السماوية، أوفست الإخلاص، بغداد، 1975، ص23، 74.
[2] - صمويل كريمر، ترجمة د. فيصل الوائلي: السومريون تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، وكالة المطبوعات، الكويت ، ص 948.
[3]  - د. فاضل: الطوفان، سبق ذكره .. ص 110، 111.
[4] - د. عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم، الهوية العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1976، ج1، ص 400.

[5]  - د. عبد العزيز صالح: الشرق ...، سبق ذكره، ص 475، 476
[6]  - فراس السواح: مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت، 1980، ص 154.
[7]  - الموضع نفسه.
[8]  - الموضع نفسه.
[9]  - محمود سالم الحوت: في طريق الميثولوجيا عند العرب، دار النهار، بيروت ط2، 1979، ص44.
[10]  - جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جامعة بغداد، ط2، 1993، ج1، ص 253، 255.
[11] - إسماعيل ابن عمر ابن كثير: البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، ج1، 1990، ص 110.
[12] - نعمة الله الجزائري: النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1978، ص 85، 86، 95، 93، 88.
[13] - ابن كثير: البداية ... ، سبق ذكره، ج1، ص 110.
[14] - الجزائري: النور..، سبق ذكره، ص96.
[15] - السواح: سبق ذكره، ص 301، 392.
[16] - عباس العقاد: الله، دار الهلال، القاهرة، ص153.
[17] - الجزائري: النور..، سبق ذكره، ص 38، 79.
[18] - السواح: سبق ذكره، ص 294.
[19] - ابن كثير: البداية ..، سبق ذكره، ج1، ص 5.
[20] - الثعلبي النيسابوري: عرائس المجالس، المكتبة الثقافية، بيروت، د. ت، ص 75.
[21] - الموضع نفسه.
[22] - نفسه ص 60.
[23] - ابن كثير: سبق ذكره، ج1، ص 105.
[24] - نفسه ص 108.
[25] - المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة الإسلامية، بيروت، ج1، ص 41.
[26] - نعمة الله الجزائري: النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1978، ص 80، 81.
[27] - الصدوق القمي: علل الشرائع، المكتبة الحيدرية، ط2، 1966، ج1، ص 32.
الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *