أبحاث
الدين / الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من أجل مجتمع بلا إرهاب - الجزء السابع
محمد الحنفي
التوفيق بين الدين و الرؤيا المادية للواقع
(1) :
و في تناولنا لعلاقة الدين بالماركسية نصل إلى
مناقشة التوفيق بين الدين و الرؤيا المادية للواقع، لا باعتبارها رؤيا
ماركسية. لأن الرؤيا المادية قديمة قدم الفلسفة المادية التي ارتبطت بالفلسفة الإغريقية ، و عرفتها جميع مراحل التاريخ البشري.و تعتبر أساس وجود العلوم الدقيقة و من بعدها العلوم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. كما هو الشأن بالنسبة للدين الذي ارتبط بالمراحل الأولى لوجود البشرية ، و حسب النصوص الدينية فإن الدين جاء مرتبطا بوجود الإنسان. و هو أساس هذا الكون حسب منطوق النصوص الدينية المختلفة فمنها ما جاء في القرءان " و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى".
ماركسية. لأن الرؤيا المادية قديمة قدم الفلسفة المادية التي ارتبطت بالفلسفة الإغريقية ، و عرفتها جميع مراحل التاريخ البشري.و تعتبر أساس وجود العلوم الدقيقة و من بعدها العلوم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. كما هو الشأن بالنسبة للدين الذي ارتبط بالمراحل الأولى لوجود البشرية ، و حسب النصوص الدينية فإن الدين جاء مرتبطا بوجود الإنسان. و هو أساس هذا الكون حسب منطوق النصوص الدينية المختلفة فمنها ما جاء في القرءان " و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى".
فالدين باعتباره رؤيا إلهية للكون، له علاقة بالواقع
و الرؤيا المادية أيضا تنطلق من الواقع، و تعود إلى الواقع. فكيف نتجاوز الأزمة المفتعلة
بين الرؤيا الدينية، و الرؤيا المادية للواقع ؟ و كيف يتم التوفيق بينهما مع المحافظة
على كل منهما ؟ فوجود الدين و انتشاره في الواقع، و بهذا الشكل المهول، و لدى جميع
الشعوب يؤكد أن القوة المادية للدين اكبر من أية قوة أخرى في التاريخ البشري، و في
واقع البشر في نفس الوقت. و لكن عظمة القوة المادية للدين، لا تنفي و لا يمكن أن تنفي
القوة المادية للرؤية المادية للواقع لأنها هي التي تقف وراء هذا التطور الهائل في
جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية و العلمية و الفكرية
التي تقتضي الانطلاق من الواقع لتطوير مجال معين، و حتى المقتنعين بدين معين ينسلخون
من دينهم عندما يشرعون في إجراء أبحاثهم التي لا تكون إلا مادية، و عندما يصلون إلى
نتائج معينة يرجعون الوصول إليها إلى الدين. و هذه هي المفارقة الكبرى التي تقف عائقا
دون إطلاق إمكانية ازدهار الفكر العلمي. فالعالم الباحث، و منهج البحث العلمي المادي.
والنتائج التي يتم التوصل إليها، كل ذلك يتم إدخاله بوتقة الدين، و الرؤيا الدينية
التي تقوم بتفسير كل شيء بمنهج الإيمان بدين معين. فهل تملك البشرية الشجاعة الكافية
مثل تلك التي امتلكها الفلاسفة الماديون للإعلان عن سيادة المنهج المادي في الحياة
؟ و هل يملك الماديون في نفس الوقت الإقرار بأن الدين هو قوة مادية قائمة في الواقع
؟
إننا في معالجتنا لهذه الإشكالية لابد أن نعتمد
طرح السؤال، و محاولة الإجابة عنه من اجل تفكيك الواقع القائم، و إعادة تركيبه على
المستوى النظري من اجل الوصول إلى خلاصات تقتضي منا اعتمادها في التوفيق بين الدين
و الرؤيا المادية للواقع.
و كمدخل للأسئلة التي نعتزم طرحها للمناقشة المتأنية
و الهادئة يطرح السؤال : ما هي علاقة الدين بالواقع ؟
إن الدين كإيمان برسالة معينة تقتضي وجود طقوس
معينة يلتزم المومنون بتلك الرسالة بها. و تعمل على إنتاج قيم معينة تتناسب مع تلك
الطقوس، و مع رؤيا ذلك الدين للإنسان في علاقاته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية
و المدنية و السياسية ، لابد أن ينتج تصورا عاما للواقع العام يمكن الانطلاق منه لبناء
تصور معين عن الواقع الخاص.
فالدين كإيمان يفرض أن الواقع في تجلياته المختلفة
و بمختلف مكوناته هو من خلق الله، و وجوده هو نتيجة لأمره كما جاء في القرءان
"إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" و لذلك فكل ما يوجد في هذا
الكون هو من خلقه و من إرادته. و هذا الخلق، و هذه الإرادة تسعى إلى جعل كل هذا التطور
الهائل الذي يقوم به الناس في جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و
السياسية هو من إرادة الله الذي يسخر البشر للقيام بكل ذلك، و يمكنهم منه، و يختبرهم
في نفس الوقت في عقيدتهم حتى يستمروا عليها.
و كون الدين يعتبر كل شيء من عند الله كما في
القرءان " قل كل من عند الله" إلا انه يعمل ما أمكن على أن يجعل أمر الناس
بأيديهم " و أمرهم شورى بينهم" كامتداد للقول بأن تعامل الناس فيما بينهم
و تقريرهم في أمورهم و تدبير اختلافهم من خلال قيام مؤسسات معينة لاجل ذلك. حتى يتم
تمييز الدين كمعتقد و كطقوس و كقيم عن الدولة التي هي من صنع الناس، مهما كان هؤلاء
الناس، و مهما كانت جنسيتهم، و جنسهم، و مستواهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و
السياسي، و مهما كان لونهم، أو لغتهم. لأن فصل الدين عن الدولة في نظر الدين يجعل الحاكمين
يمتنعون عن القيام بأفعال معينة في حق البشر باسم الله، و باسم دين معين حتى لا يصير
الدين سلاحا يستخدم ضد المخالفين.
ففصل الدين عن الدولة هو الأصل في الدين، و عدم
الفصل بينهما لا علاقة له بالدين بقدر ما له علاقة بأدلجة الدين لأنه في الدين لا يخضع
الناس إلا لله، و في الدولة لا يخضع الناس إلا للحاكم. و الفصل بينهما يحرر الدين من
الدولة و يحرر الدولة من الدين. و هذا التحرر المتبادل يقضي بممارسة الدين في استقلال
تام عن الدولة، كما يقضي بممارسة الدولة للسلطة بعيدا عن الدين الذي هو لله دون سائر
البشر " و أن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا" و إذا كان هناك ربط بين
الدين و الدولة فإن ذلك ليس أصلا في الدين انه مسألة عارضة بسبب لجوء طبقات معينة إلى
ادلجة الدين باعتبارها مالكة للسلطة، و باعتبارها ساعية إلى إضافة السلطة الدينية إلى
السلطة الدنيوية، من اجل اكتساب سلطتها الدنيوية للشرعية الدينية، أو باعتبارها داعمة
لتلك السلطة، أو باعتبارها ساعية إلى امتلاك السلطة، و توظف الدين لبسط سيطرتها على
المجتمع. و الدين الحقيقي و غير المؤدلج لا يقبل أبدا أن يتحول إلى وسيلة لظلم الناس،
أو لجعلهم خاضعين لارادة الحاكم باسم الله بسبب ادلجة الدين. و مادام الأمر كذلك فإن
الدين سيبقى بريئا منه. و الدولة الدينية في نظر الدين الحقيقي هي دولة غير شرعية،
لأنها لا تأتي نتيجة لاختيار البشر لها بقدر ما تفرض عليهم بقوة الحديد و النار.
و إذا كان الدين حسب هذا التصور هو الذي يقف وراء
كل ما يوجد في هذا الكون. فإنه في نفس الوقت يتحول إلى مقوم من مقومات الواقع المادي،
أي يصير سمة من سمات الواقع الاجتماعي المستهدف بالتحليل، لأن إغفاله لا يعني إلا نقصا
في الخصائص التي تميز واقعا معينا، و اعتباره سيكون مكملا للتحليل الهادئ الذي يسعى
إلى الوقوف على تمييز الواقع بقوانين خاصة يمكن اعتمادها في وضع البرامج المميزة له،
و التي يمكن استحضارها في وضع البرامج و الآليات التي يمكن اتباعها لتطوير الواقع،
و جعله يتحول باستمرار.
و اعتبار الدين مكونا من مكونات الواقع سيساعد
على الفهم الصحيح للدين، و انه ليس وسيلة للوصول إلى السلطة بقدر ما هو اعتقاد بوجود
قوة معينة هي مصدر الوجود كله و ممارسة طقوس معينة تميز ذلك الدين الذي يصير منتجا
للقيم، التي تجعل الناس يتوحدون، و يتعاونون، و يتضامنون فيما بينهم، كما يدل على ذلك
تنوع العقائد و تنوع الواقع في نفس الوقت، فكل واقع له معتقده ، أو معتقداته المكونة
له، و سواء توحدت تلك المعتقدات أو تعددت، فإنها تبقى من مكونات الواقع و مصدرا للقيم
سواء توحدت الطقوس أو تعددت. و هو ما يستوجب أن تبقى تلك المعتقدات محايدة، حتى لا
تكون مصدرا للسلطة و حتى لا تنتج من يحكم باسم الله، و يستبد بالمجتمع. فالاستبداد
غالبا ما يكون ناتجا عن ادعاء الحكم و التحكم في الواقع باسم قوة غيبية، و تلك القوة
الغيبية تصير متحيزة إلى الطبقة التي تحكم أو إلى الطبقة التي لا علاقة لها بالحكم،
و لكنها تسعى إلى الوصول إليه.
و كون الدين مصدرا لكل ما يوجد في هذا الكون،
أو مكونا من مكونات الواقع، فإن ذلك كله يصير مبررا لجعل الدين مرتبطا بالواقع و مستمرا
فيه، و يجب استحضاره في كل تعامل مع أي واقع. و التعامل معه على انه مصدر للقيم التي
يتمثلها الناس في حياتهم اليومية، و من خلال ممارستهم لطقوس معينة، ما لم يتأدلج الدين،
فإذا تأدلج، فإن اعتبار تأدلجه يجب أن يستحضر، لأنه حينها لا يبقى دينا بقدر ما يصير
مصدرا للسلطة المعتمدة من قبل الحاكمين.
و انطلاقا من اعتبار الدين مصدرا لكل ما في هذا
الكون، أو من اعتباره مجرد مكون من مكونات الواقع، أو مصدرا للسلطة في حالة ادلجته،
فهل يقوم الدين بصياغة الواقع ؟
إننا أمام رؤيا، و أمام تصور ديني متوحد، أو متعدد،
أو مؤدلج، و هذا التصور يختلف باختلاف الوضعية التي يكون عليها الدين نفسه. فالمنطلق
في كل دين أن الله أوجد هذا الكون بأمره " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له
كن فيكون" و سواء تعلق الأمر بالمسيحية أو اليهودية أو الإسلام أو أي دين آخر.
فتلك القوة التي يعتقد المومنون بدين معين هي التي تقف وراء وجود هذا الكون. إلا أن
هذا التصور يختلف باختلاف الأديان، و باختلاف الرسل الذين تلقوا الوحي، و باختلاف الغاية
من الدين.
فاليهود يعتقدون بوجود تصور الهي معين لهذا الكون
يبنون على أساسه طقوسهم الدينية، و يسعون إلى تصريف ذلك التصور و إشاعته بين الناس،
و جعل الآخرين يقتنعون به، و يعملون على اجرأته على ارض الواقع، لا انطلاقا من الشروط
التي يقتضيها الواقع، و لا سعيا إلى جعله يتحرك كما يريد، بل كما تريد الديانة اليهودية.
فإذا استعصت اعتبرت مخالفة للدين، و مطالبة بالتطويع حتى تتناسب مع دين اليهود، الأمر
الذي يقتضي اعتماد ادلجة الدين لإكساب البشر صفة الله و يتصرفون على هذا الأساس، و
يستخدمون القوة لإدخال الواقع ضمن ذلك التصور الأمر الذي كلف البشرية الكثير من المآسي،
و لازال يكلفها الكثير من المآسي إلى يومنا هذا. و سيكلفها الكثير من المآسي مستقبلا
ما لم يتم وضع حد للدولة الإسرائيلية باعتبارها دولة دينية. و ما لم يكن هناك إجماع
عالمي على ضرورة وضع حد لادلجة الدين الذي يعتبر مدخلا لمحاصرة دولة إسرائيل باعتبارها
دولة دينية قائمة في الأصل على ادلجة الدين رغم ظهورها بالمظهر الديمقراطي الذي يتناقض
جملة و تفصيلا مع ادلجة الدين التي استطاعت أن تكرس إعادة صياغة التوازن على مقاس مؤدلجي
ديانة موسى. لتختفي بصفة نهائية النسخة الأصلية من الكتاب المنزل على موسى. و لذلك
نجد أن التصور السائد في اليهودية، هو التصور القائم على ادلجة الدين الذي يقضي باعتماد
منطق القوة لإدخال العالم في ذلك التصور، و كل من رفض يعتبر عدوا للدين اليهودي، و
يصير مستهدفا باستعمال القوة، و مهما كان جنسه أو لونه أو عقيدته، حتى تبسط دولة إسرائيل
سيطرتها على العالم.
و المسيحيون كذلك يعتقدون بوجود ذلك التصور الذي
يختلف عن تصور اليهود الذي يعمل على أن يجعل العالم قائما على السلام منذ مجيء عيسى،
و قبل أن تتحول المسيحية إلى مجرد مؤسسات دينية تصبغ إرادة الله على هذا الكون، أو
تسحب تلك الإرادة لتصير صياغة التصور الإلهي بيد الكهنة و الرهبان القابعون في الكنائس
أو في الأديرة ، و المختصون في إصدار الأحكام التي تساهم في صياغة الكون، أو في تقويم
صياغته. و هذا التوجه هو الذي يمكن اعتباره ممارسة إيديولوجية من نوع خاص، لأن رجال
الدين أولئك صاروا يشكلون طبقة اجتماعية، تعبر المسيحية عن مصالحهم الطبقية التي صارت
في مراحل تاريخية معينة في حاجة إلى سلطة الدولة لخدمة تلك المصالح بواسطة تلك القوة.
و هو ما جعل رجال الدين المسيحيين يعطون الشرعية للحكام، أو نزع هذه الشرعية، ليصير
الحكام باسم الكنيسة ينوبون عن الله في الأرض، و يقومون بصياغة الواقع وفق ما تقتضيه
مصلحة الحكام و مصلحة رجال الدين، الأمر الذي جعل تلك المصالح تختلف بين رجال الدين.
فظهر ما صار يعرف بالإصلاح الديني الذي افرز مذهبا مسيحيا آخر. و هو ما اقتضى العودة
إلى الأصل في الدين الذي هو الحياد ليبقى التصور الإلهي بعيدا عن التلوث السياسي، الذي
له علاقة بالصراع الطبقي. و هو ما صار يعرف بفصل الدين عن الدولة ليبقى التصور الديني
للكون مجرد معتقد يحرص رجال الدين في مختلف الكنائس على استمراره و على إشاعته بين
الناس في إطار الابتعاد عن شؤون الدولة و ليصير التصور القائم في الواقع من صنع البشر.
أما الدين الإسلامي فقد فصل منذ البداية بين ما
لله، و ما للبشر، فما لله لله، و ما للبشر للبشر، و بنص القرءان " و أن المساجد
لله فلا تدعو مع الله أحدا" و " أمرهم شورى بينهم" و هذا الفصل هو الذي
تم اعتماده منذ البداية، إلا أن مجيء بعض التشريعات التي اقتضاها تنظيم المجتمع في
عهد الرسول محمد بن عبد الله جعل البعض يلتزم بها وفاء للعقيدة، و اعتبارها جزءا من
الدين، و في إطار العبادات المعبرة عن سريان ذلك الدين. و جعل البعض الآخر يعتبرها
دليلا على أن الدين الإسلامي قام على أساس انه دين و دولة. و انطلاقا من هذا الفهم
المختلف، فإن التصور الديني الإسلامي للكون يصير من خلال التأويل الذي يمارسه مؤدلجوا
الدين للدين، حتى يصير ذلك التصور في خدمة مصالحهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية
و المدنية و السياسية و التصور الديني للكون القائم على ادلجة الدين و المعبر عن مصلحة
طبقية معينة يختلف باختلاف الطبقة المؤدلجة للدين. فإذا كانت هذه الطبقة مالكة للسلطة
تفرض تصورا معينا، و إذا كانت داعمة لها و مستفيدة منها تدعم تصور الطبقة الحاكمة،
و إذا كانت تسعى إلى الوصول إلى السلطة تحمل تصورا آخر يختلف.
و انطلاقا من هذا التعدد في التصورات الدينية
للكون أو في التصورات المؤدلجة للدين الإسلامي نستطيع القول بأنه لا يوجد تصور واحد
للكون بسبب تعدد المعتقدات و تعدد الأديان. و تعدد الإيديولوجيات الموظفة لليهودية
أو المسيحية أو للدين الإسلامي. و ما يمكن أن نستخلصه من هذا التعدد و التنوع هو أن
إبعاد الدين عن الممارسة الإيديولوجية و السياسية اصبح ضرورة تاريخية للوصول إلى تحرير
البشر من ادلجة الدين، و من حكم الدولة الدينية، تجسيدا لقول الله " و أمرهم شورى
بينهم"، و سعيا إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي لا
تقوم إلا بقيام دولة الحق و القانون، التي هي دولة البشر، و ليست دولة دينية كما يسعى
إلى ذلك مؤدلجو الدين أنى كان هذا الدين، حتى يبقى ما لله لله و ما للبشر للبشر.
و إذا اعتبرنا أن وحدة التصور الديني للواقع غير
ممكنة لما أتينا على ذكره، فهل يمكن اعتبار الدين إفرازا للواقع ؟
إننا إذا احتكمنا إلى المنطق المقبول عقليا، و
درسنا دراسة علميا تاريخ الأديان، و بدون تحيز إلى الدين أو ضد الدين. فإننا نجد تعددا
هائلا في الديانات، و في تنوعها، و في صيرورتها تاريخية، أو في استمرار انتشارها، و
في اختلافها حسب الشعوب و الأمم، و القارات. و ما يمكن أن نستنتجه من كل ذلك هو أن
الدين، أي دين هو مجرد إفراز لواقع معين، و يكتسب شرعيته من هذا الإفراز. و يصير لذلك
من مكونات ذلك الواقع الذي لا يجب إغفاله في التعامل معه. و قد يقول قائل بأن اعتبار
الدين إفراز للواقع هو تجن على الدين. فنسأله لماذا هذا التعدد في الديانات الوثنية،
و في الديانات الموحدة في نفس الوقت. و لماذا اختلاف هذا التعدد باختلاف الواقع، و
لماذا تختلف الديانات من عصر إلى عصر آخر ؟ أليس ذلك نتيجة للتفاعلات التي تجري في
الواقع ؟ أليس تعبيرا عن حاجة الواقع إلى مستند يعتمد لتفسير ما يجري على ارض الواقع
؟ فلماذا لا يكون الدين موحدا منذ خلق الله لآدم ؟ و لماذا لا يبقى موحدا منذ مجيء
ديانة موسى؟ لماذا لا يبقى موحدا منذ مجيء ديانة عيسى ؟ و لماذا هذه المذاهب الدينية
المختلفة بعد مجيء الدين الإسلامي ؟ و لماذا لجوء المومنين بالديانات الكبرى إلى ادلجة
الدين، و منذ بداية شيوعه بين الناس ؟ و لماذا هذا الصراع على السلطة باسم الدين ؟
و لماذا لجوء مؤدلجي الدين إلى الاستبداد بالمجتمع و حكمه بالحديد و النار بعد الوصول
إلى السلطة ؟
إننا سوف لن نعمل على الإجابة على هذه الأسئلة
التي طرحناها لا لأننا نعجز عن الإجابة عليها، بل لأننا نعتبر أن طرحها واجب لإثارة
النقاش حول علاقة الدين بالواقع، و كونه إفرازا له. لأننا إذا اعتبرنا الدين إفرازا
للواقع، فإن ذلك لا يسيء إلى الدين بقدر ما يدعم ضرورته، لأن كل مجتمع يعتبر في حاجة
إلى التغذية الروحية التي توطد وحدته و تجعله قادرا على الاستمرار في تلك الوحدة التي
تؤهله لمواجهة كل التحديات التي تعترض طريقه.
و إذا اعتبرنا انه ليس إفرازا للواقع، فإننا نقع
في معضلة اكبر، و هي لماذا لا يكون الوحي المنزل منذ البداية جامعا و مانعا، و مستوعبا
لكل زمان و مكان حتى نتجنب كل هذا الخضم من الديانات، و حتى يصير الناس جميعا يتغذون
من مصدر واحد، و يتجنبون كل هذه الصراعات التي قامت على أساس عقائدي، و على مر العصور،
و التي أتت على الكثير من الأرواح التي كان يمكن أن تفيد البشرية. انه من الإيجابي
جدا أن لا يكون الدين إفرازا للواقع حتى يتوحد الناس حول ذلك الدين. و لكن الواقع المختلف
في الأصل قد لا يتناسب مع التصور الذي يحمله ذلك الدين، و سوف يجد نفسه مضطرا لإفراز
دين مخالف لأجل أن يتعاطى معه الناس لمناسبته لخصوصيتهم. و هذا ما أكدته التجارب البشرية
حيث نجد أن كل واقع افرز دينا مناسبا له. و أن هذا الدين كان يختلف من قارة إلى أخرى،
و من دولة إلى أخرى، و من قبيلة إلى أخرى، و من عشيرة إلى أخرى، بل و من أسرة إلى أخرى،
و من فرد في أسرة إلى فرد آخر. لأن وجود الدين مرتبط في الواقع بوجود الإنسان المتأمل
في هذا الكون العاجز عن معرفة ما يجري فيه، فيفترض وجود قوة خفية وراء ذلك. فيستعظمها،
فيعبدها و يعتبرها مصدر كل ما في الكون، و يعمل على إقناع الناس بها في جميع الأحوال
و في جميع الأماكن. و لذلك لا نستغرب إذا وجدنا الناس يصنعون تماثيل يعبدونها. و هذه
التماثيل تكون مستوحاة من عناصر الواقع الذي يعيشون فيه.
و بالنسبة للديانات الكبرى التي عمت أرجاء العالم
و صارت متواجدة في كل القارات، هل يمكن اعتبارها إفرازا للواقع ؟
إن الأبعاد الإنسانية التي تحملها الديانات الكبرى
التي تجردت من الواقع العيني بنسبة كبيرة، و احتضنت القضايا الإنسانية الكبرى التي
تتجسد في كل إنسان، و في كل مكان. لأن القيم التي تنتجها الديانات في اصلها هي قيم
إنسانية، مما يجعلها مستقطبة لجميع الناس و على مر السنين مما يجعل المقتنعين ببعضها
يقدرون بالملايير كما هو الشأن بالنسبة للمسيحية و الإسلام.
و لكن هذه الديانات التي صارت ذات بعد كوني لقيمها
الإنسانية كانت و لازالت، و ستبقى مستهدفة بالادلجة من قبل مستغلي الدين في الأمور
الإيديولوجية و السياسية، و أزمة الديانات التي صارت إنسانية تكمن في كونها قابلة للادلجة
في مختلف العصور، و في مختلف القارات. و لا يمنع ادلجتها هذا التطور الهائل للعلوم
و الآداب و الفنون و الثقافة و السياسة و الإعلام و المعلوميات و التقنيات و غير ذلك
مما يستهدف الحياة الأدبية و الفكرية و الفلسفية و الاقتصادية و الاجتماعية. و بالتالي
فإن ادلجة الدين تزداد اتساعا في صفوف المتعلمين، و تزداد استقطابا للأطر العلمية و
التقنية بالخصوص. فلماذا هذا التمسك بأدلجة الدين ؟ و لماذا ينجر المتخصصون في العلوم
و التقنيات وراء ادلجة الدين ؟
إن التفسير الذي نجده لظاهرة ادلجة الدين على
المستوى العالمي و ادلجة الديانات التي اتخذت أبعادا إنسانية، و هذه الأبعاد الإنسانية
صارت مجالا للاستغلال الإيديولوجي. يرجع إلى أن الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها المتعلمون
بالخصوص لا إيديولوجية لها و أنها تلجأ إلى استعارة إيديولوجيات غيرها، و أنها تحاول
باستمرار العمل على التوفيق بين مختلف الإيديولوجيات إلا أن ذلك التوفيق غالبا ما ينفرط.
و لذلك، فهذه الطبقة الوسطى وجدت ضالتها في ادلجة الدين التي تمكنها من تحقيق أمرين
أساسيين :
الأمر الأول : و يتمثل في تنصيب نفسها وصية على
الدين و الكلام باسمه، و النيابة عن الله في الأرض، و الحكم باسمه، و قطع رقاب الناس
باسمه في حالة وصول هذه الطبقة إلى السلطة.
و الأمر الثاني : تضليل الكادحين، و تجييشهم و
جعلهم يعتقدون أن ما يتلقونه عن هؤلاء المؤدلجين هو الدين و الشروع في تجييشهم وجعلهم
يتوهمون أنهم إنما يتوجهون بتجييشهم ذاك الى الجهاد، و انهم بتخلصهم من الملحدين و
العلمانيين و الماركسيين و الاشتراكيين إنما يخدمون مصلحة الدين، و مصلحة المتدينين.
و الواقع أن هؤلاء الذين ينساقون وراء مؤدلجي الدين إنما ينساقون وراء الوهم بالجزاء
الأوفى في الحياة الأخرى، و هم في الوقت نفسه إنما يخدمون المصالح الطبقية لمؤدلجي
الدين على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدينة و السياسية.
و بتحقيق الطبقة الوسطى لهذين الأمرين من ادلجة
الدين فإنها تكون بذلك قد شرعت في تحقيق تطلعاتها الطبقية التي تمكنها من الوصول إلى
المؤسسات التمثيلية دعما للطبقة الحاكمة في البلد المعني بأدلجة الدين، أو من الوصول
إلى السيطرة على أجهزة السلطة، و التمكن من توظيفها لخدمة مصالحها الطبقية و خدمة تلك
المصالح باسم الدين و باسم الله، و التخلص من كل المناهضين لأدلجة الدين باعتبارهم
أعداء للدين، لتصير تلك الطبقة الوسطى مستبدة و رجعية و متحكمة.
و بهذا التحليل المسهب يمكن أن نميز في الديانات
ذات الأبعاد الإنسانية، و المتواجدة في مختلف القارات، بين مستويين:
مستوى الدين الذي صار إنسانيا، و بالتالي يصير
من حق كل إنسان أن يومن به أنى كان لونه أو جنسه أو لغته أو الطبقة التي ينتمي إليها،
و مستوى من هذا النوع لا يمكن اعتباره إفرازا للواقع بقدر ما يصير مساهما في صياغته
بالإضافة إلى صيرورته من مكوناته.
و مستوى ادلجة الدين التي لا يمكن أن تحدث إلا
إذا تم إنضاج شروط اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و مدنية و سياسية تؤدي بالضرورة إلى
اعتماد ادلجة الدين التي تصير إفرازا لتلك الشروط، و نتيجة لها.
أما الديانات الصغيرة التي ارتبطت بالزمان و المكان
و في أي منطقة من العالم، و التي لم تستطع الوصول إلى صيرورتها ذات بعد إنساني فهي
ديانات تولد و تموت في نفس الواقع فهي إفراز و مكون من مكونات ذلك الواقع ما دامت حية.
و إذا كان الدين ذا بعد إنساني، أو إفراز للواقع،
فكيف يرى هذا الدين صيرورة الواقع ؟
و نحن عندما نراجع النصوص الدينية و نحاول الوقوف
على تصور كل دين على حدة للواقع سنجد أن هذا التصور غير وارد لأن كل التصورات الدينية
تركز على الجانب العقائدي و على العبادات.. و مع تطور المجتمعات صارت تتعاطى مع المسلكيات
الفردية و الجماعية و قد تتعاطى مع العلاقات الاجتماعية، أي أن التصور الذي تقدمه الأديان
المختلفة عن الواقع لا تنفذ إلى العمق بقدر ما تلمس الأمور البسيطة التي كانت تبدو
عظيمة في وقتها و التي كانت تعتبر شيئا جديدا بالنسبة للبشرية المعنية بظهور الأديان
المختلفة، و لا يوجد في أي نص ديني تصور كامل و شامل لما يجب أن يكون عليه الواقع على
الأقل على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
و إذا كانت الأديان أثناء ظهورها تتناسب مع ما عليه الناس من تطور على المستوى الفكري
على الأقل حتى يستوعبوا الرسالة الموجهة إليهم و باللغة التي يفهمونها. و لذلك نجد
أن الرسالة الموجهة من السماء تختلف حسب الزمان الذي وردت فيه، و هذا الاختلاف تقتضيه
ضرورة اعتبار ما عليه مستوى الناس. و لذلك كان التصور الذي يقدمه كل دين على حدة، لا
يرقى إلى التصور الذي يأتي به الدين الذي يأتي بعده، و هكذا إلى أن جاء الدين الإسلامي
الذي كان آخر الديانات مراعاة للتطور الذي اصبح في إمكان البشر الانتقال إليه بأنفسهم
خاصة، و أنه قام على تشريح التحريف الذي لحق الديانات السابقة و انتقاد عبادة الأوثان،
و العمل على تشريح الواقع و تقديم البدائل التي يجب أن يكون عليها الواقع، و التي تتمحور
في :
1) التدقيق في العقيدة و سبل المحافظة عليها،
و من المسؤول عن تلك المحافظة، و ما هي الآليات التي يجب اعتمادها.
2) التدقيق في العبادات، و تحديد أنواعها، و كيفية
أدائها أو قضائها.
3) التدقيق في المسلكيات الفردية و الجماعية تجاه
الله، و تجاه الناس، و تجاه الطبيعة.
4) الاهتمام بأخبار الأقدمين، و ما عاشوه حتى
يكون ذلك الاهتمام عبرة للآخرين.
5) تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع في حدود
معينة حسب ما تقتضيه سلامة المجتمع من كل ما قد يؤدي إلى حدوث نزاعات معينة.
و جميع التصورات الدينية لم تأت بتصور شامل و
متكامل لما يجب أن يكون عليه النظام الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي،
بل إن الدين الإسلامي كآخر الديانات جعل ذلك من اختصاص البشر كما جاء في القرءان الكريم
" و أمرهم شورى بينهم" لأن ذلك النظام الشامل و المتكامل هو نظام قابل للتحول
بفعل الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي يعرفها
الناس في كل زمان و مكان. و لذلك فالناس وحدهم يقررون مصير بلادهم، و مصيرهم الدستوري
والاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي من اجل أن يكونوا أحرارا في ذلك،
و من اجل أن يبقى الدين بعيدا عن الدولة التي ينشئونها، و من اجل قطع الطريق أمام استغلال
الدين لأجل السيطرة على الدولة التي هي من صنع البشر و من اختيارهم.
غير أن ادلجة الدين تجعل المؤدلجين يقدمون تصورا
للواقع باسم الدين و يعملون على تجييش الناس من اجل تحقيق ذلك التصور، و تصورات مؤدلجي
الدين للواقع تختلف من دين إلى دين آخر، و من عصر إلى عصر آخر، و من تيار مؤدلج لدين
معين إلى تيار مؤدلج لنفس الدين. و هذا الاختلاف في التصورات الناتجة عن ادلجة الدين
مرده إلى تنوع الواقع الذي ينتمي إليه المؤدلجون الذين يتهيأون، و وفق شروط محددة لصياغة
التصور الذي يناسب الواقع الذي يعيشونه.
و معلوم أن تصورات كهذه هي مجرد تصورات قائمة
على التأويل الذي يستهدف النص الديني لخدمة مصلحة معينة لا يستفيد منها إلا مؤدلجو
الدين.
و لذلك نرى ضرورة عدم اعتبار تصورات مؤدلجي الدين
تصورات دينية حتى لا نحمل الدين اكثر مما يطيق، و حتى يبقى الدين بريئا مما يقوم به
البشر، حتى و إن كان ما يقومون به باسم الدين.
و بعد وقوفنا على علاقة الدين بالواقع، و هل يمكن
قيامه بصياغته ؟ و هل هو إفراز للواقع و كيف يرى الدين صيرورة الواقع. ننتقل إلى طرح
السؤال : ما هي العلاقة التي تقيمها المادة بالواقع ؟
و المراد بالمادة هنا كل فكر ينطلق من الواقع
العيني الملموس و الذي يستعمل عادة في مقابل الفكر الذي ينطلق من المثال كمنطلق لا
مرئي و لا ملموس و لا واقعي. فالمادة ممارسة فكرية، و المثال ممارسة فكرية، و بينهما
تناقض صارخ. و كما وجد المثال الذي يدفع إلى افتراض قوة غيبية خارقة تتحكم في الواقع
و تقف وراء إحداث ظواهره "الخارقة" وجدت المادة التي تفرض اعتبار أن ما يحدث
في الواقع هو نتيجة للصراع القائم بين المتناقضات المختلفة، الطبيعية و الاقتصادية
و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و تقرر أن لا شيء يتحكم في الظواهر
المختلفة و أن ما يحدث هو مجرد إفراز لواقع معين، واقع اقتصادي و اجتماعي و ثقافي و
سياسي. و هذا الإفراز يرتبط بإنضاج شروط معينة شروط تستهدف تطور و تطوير الواقع انطلاقا
من الواقع نفسه حتى لا يدعي أحد أن الطبيعة و المجتمع، الاقتصاد و الثقافة تتغير بفعل
القوانين المادية، التي تحكم الواقع في تمظهراته المختلفة و هي لذلك لا تحتاج إلا إلى
إنضاج الشروط المؤدية إلى تغيير الواقع انطلاقا من تفعيل آليات معينة.
و انطلاقا من هذا التصور، فالمادة منطلق فكري،
و منهج للتفكير انطلاقا من قوانين مادية معينة تختلف من عصر إلى عصر آخر من اجل تحقيق
أهداف معينة و العلاقة التي يمكن أن تقوم بين المادة و بين الواقع تتجدد في :
1) كون المادة منطلقا لأي تفكير مادي، فإذا كان
المنطلق طبيعيا كان التفكير طبيعيا، و إذا كان اقتصاديا كان التفكير اقتصاديا، و إذا
كان اجتماعيا كان التفكير اجتماعيا، و إذا كان سياسيا كان التفكير سياسيا، و إذا كان
علميا كان التفكير علميا و هكذا. و المهم أن المنطلق لا يكون غيبيا، حتى و إن كانت
الظاهرة موضوع التفكير ذات منطلق و بعد غيبيين كما هو الشأن بالنسبة للدين ما دام مكونا
من مكونات الواقع. و الغاية من اعتماد المنطلق المادي أن يتجنب التفكير الانزلاق في
اتجاه إنتاج الأفكار التي لا تساعد على الوصول إلى إنتاج أفكار تساعد على امتلاك فهم
واقعي و علمي للواقع طلبا لإدراك القوانين التي تتحكم فيه.
2) كون المنهج المعتمد في التفكير هو منهج مادي
صرف يعتمد القوانين المادية الصرفة التي تحتاج إلى الاستفادة من العلوم الدقيقة التي
توصل إليها الإنسان، و من قوانينها، و من عمليات التفكير القائمة فيها، و من النتائج
التي يتم التوصل إليها، وصولا إلى بناء قوانين منهجية عامة يمكن اعتمادها في التعامل
المادي مع الواقع المادي حتى يكون المنهج ماديا فعلا و حتى تكون العلاقة مع الواقع
علاقة منهجية مادية.
3) كون النتائج التي يتوصل إليها التعامل المنهجي
مع الواقع مادية، و قابلة لأن تتحول بدورها إلى منطلق للتعامل الممنهج مع الواقع الذي
تصير إليه، لأنه إذا لم تكن كذلك، لا تكون مادية، و لا تصلح لأن تكون كذلك. فالنتائج
المادية، هي نتائج منهجية في نفس الوقت، أي قابلة للتعامل المنهجي باعتبارها جزءا من
الواقع المادي الذي يتحول باستمرار حتى يساهم المنهج المادي في اكتشاف قوانين تطوره،
و في الاستمرار في تفعيل قوانين تطويره و تطوره إلى الأحسن.
4) الانطلاق في التعامل المادي مع الواقع على
انه متحول باستمرار و أن هذا التحول يعتبر من خاصيات الواقع المادي في تمظهراته المختلفة،
الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و الطبيعية و العلمية و المعرفية،
فلا شيء ثابت أبدا. لأن الثبات غير قائم إلا في المفاهيم المثالية التي لا يمكن تطبيقها
على ارض الواقع لمثاليتها، و لأنها لو قبلت التطبيق لصارت مادية و فقدت مثاليتها، و
لأن ما يظهر على انه ثبات في الواقع ما هو إلا تحكم في قوانين ذلك الواقع من اجل إعادة
إنتاج نفس الهياكل الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية لخدمة
مصالح طبقية معينة تسعى من خلالها الطبقة الحاكمة إلى تأبيد سيطرتها، و حتى التحكم
في قوانين الواقع لاعادة إنتاج نفس الهياكل القائمة ليس إلا ممارسة مادية مضادة، لأنه
لو كانت مثالية لرفض الواقع اجرأتها.
5) اعتبار المادة كلا، و الواقع جزءا، و الكل
لابد أن يوجه ممارسة الجزء، و يتحكم فيها، حتى تتحقق وحدة المادة، بصراع متناقضاتها.
لأن العلاقة بين الكلية و الجزئية هي علاقة مادية صرفة و لكنها في نفس الوقت هي علاقة
جدلية. فإذا كان الكل يوجه الجزء، و يتحكم فيه، إلا أن كليته لا تستطيع إلغاء التفاعلات
التي تجري بين المتناقضات الجزئية المكونة للواقع الجزء. و لذلك، فما يصير إليه الصراع
بين المتناقضات يؤثر في الكل، و يساهم في تطوره، و تطويره الأمر الذي ينعكس على طبيعة
العلاقة بين الكل و الجزء.
6) اعتبار المادة عاما، و الواقع خاصا، و العلاقة
بين العام و الخاص هي نفسها بين الكل و الجزء، فكل تحول في الخاص يؤثر في العام، و
كل تطور في العام ينعكس على مساره الخاص، و هكذا.
و بهذا التنوع في العلاقة بين المادة و الواقع
يكون المنهج المادي هو الوسيلة التي بواسطتها يمكن التعامل مع الواقع الذي لا يكون
إلا ماديا حتى في بعده المثالي من اجل العمل على تفعيل قوانين تطوره خدمة لمصالح الكادحين.
و بعد الوقوف على طبيعة العلاقة بين المادة و
الواقع في مستوياتها المختلفة، نأتي إلى طرح السؤال: فكيف تقوم المادة بصياغة الواقع
؟
إن الأصل في الواقع أن يصوغ نفسه بنفسه من خلال
صراع المتناقضات التي تشكله، و تعمل على إعادة تشكيله على جميع المستويات الاقتصادية
و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية بصيغة إعادة إنتاج نفس التشكيلة القائمة،
أو إنتاج تشكيلة جديدة.
فالتصور المادي الذي يقتضي إعادة إنتاج نفس التشكيلة
الاقتصادية – الاجتماعية، هو تصور تعمل على تحقيقه الجهة التي تسعى إلى تأبيد استغلالها
للمجتمع، و تجديد نفسها في نفس الوقت. و هذه الجهة يمكن تحديدها في :
1) الطبقة الإقطاعية التي تحرص باستمرار على بسط
سيطرتها على الأراضي الواسعة، و استغلال الناس العاملين فيها و الذين لا يعرفون عملا
غير الفلاحة، و لا مكانا غير الأرض التي يفلحونها، و لا حرفة يتعيشون منها، و لكنهم
في نفس الوقت لا يحصلون من عملهم على ما يكفيهم في حياتهم على جميع المستويات الاجتماعية
و الثقافية و السياسية أي ما يمكنهم من مدخول اقتصادي يتناسب مع متطلبات الحياة. و
يذهب المدخول الأعظم إلى الإقطاعيين الذين لا يبذلون أي مجهود و أي تطور يصيب التشكيلة
الإقطاعية لابد أن يؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالح الطبقة الإقطاعية. و لذلك فهي تتعصب
ضد كل تغيير يلحق الواقع فتعمل باستمرار على إعادة إنتاج نفس التشكيلة الإقطاعية، و
تجديد الطبقة الإقطاعية.
2) الطبقة البورجوازية التي جاءت بها التشكيلة
الاقتصادية الرأسمالية التي تحرص على إعادة إنتاج نفس التشكيلة الرأسمالية حتى تحافظ
على استمرارها في استغلال الطبقة العاملة الصناعية و التجارية و الزراعية، و حتى تضمن
تأبيد سيطرتها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية، بسيطرتها على أجهزة
الدولة عن طريق التحكم في إعادة إنتاج نفس الهياكل الاقتصادية و الاجتماعية الرأسمالية
لتحقيق هذه الغاية.
3) الطبقة البورجوازية الإقطاعية التي تدمج التشكيلتين
معا في نفس التشكيلة الرأسمالية-الإقطاعية التي يتداخل فيها نمطا الإنتاج الرأسمالي
الإقطاعي. و هذه الطبقة تسعى إلى إعادة إنتاج نفس الهياكل الرأسمالية الإقطاعية حتى
تضمن استفادتها لصالح البورجوازية الإقطاعية من جهة، و لصالح المؤسسات المالية الدولية
التي ترتبط بها، و تعمل بتعليماتها، و تنفذ سياستها في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية
و الثقافية و المدنية و السياسية. لأن هذه الطبقة البورجوازية – الإقطاعية هي التي
تسيطر على اقتصاديات البلدان التي كانت محتلة سابقا، و التي لازالت تقع تحت تأثير الرأسمالية
العالمية. فهذه الطبقة و بدعم من الرأسمالية العالمية، و بتوجيه من صندوق النقد الدولي،
و البنك الدولي و المؤسسات المالية الدولية و الشركات العابرة للقارات، تسعى إلى إعادة
إنتاج نفس نمط الإنتاج الرأسمالي الإقطاعي الذي يخدم مصالحها و مصالح الرأسمال العالمي
في نفس الوقت، و تعمل على تأبيد سيطرتها على أجهزة الدولة حتى تسخرها لأجل ذلك.
4) الطبقة البورجوازية الصغرى التي تصل إلى التحكم
في أجهزة السلطة، و تعمل على تسخيرها من خلال التشكيلة البورجوازية، أو التشكيلة البورجوازية
الإقطاعية لتحقيق تطلعاتها البورجوازية التي تجعلها تصير جزءا من الطبقة البورجوازية،
أو من الطبقة البورجوازية الإقطاعية، لتتخلص و بصفة نهائية من مرحلة انتمائها إلى الطبقة
البورجوازية الصغرى التي قد تضطرها إلى الاندحار نحو الطبقات السفلى من المجتمع و في
مقدمتها الطبقة العاملة. و لذلك فالطبقة البورجوازية الصغرى عندما تصل إلى السلطة تكون
اكثر إخلاصا إلى البورجوازية من البورجوازية نفسها، و إلى البورجوازية الإقطاعية من
البورجوازية الإقطاعية نفسها، و يتجسد هذا الإخلاص في الحرص على إعادة نفس التشكيلة
الاقتصادية الرأسمالية أو نفس التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية الإقطاعية حتى تستمر
في خدمة مصالحها الطبقية، و في حماية تلك المصالح.
5) الطبقة المستفيدة من ادلجة الدين، و التي تسعى
بعد وصولها إلى السلطة إلى المحافظة على التشكيلة الرأسمالية أو الرأسمالية الإقطاعية
التي تجسد مصالحها الطبقية، أو تعمل على تحقيق تطلعاتها البورجوازية. لأن مؤدلجي الدين
لا يسعون أبدا إلى تغيير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية بتشكيلة أرقى منها، و التشكيلة
الأرقى منها هي التشكيلة الاشتراكية، و مؤدلجوا الدين اكثر عداء للاشتراكية من غيرهم
كما تدل على ذلك أد بياتهم و ممارستهم. و لذلك فهم يحرصون على إعادة إنتاج نفس التشكيلة
الاقتصادية الاجتماعية القائمة مع إعطائها بعدا "دينيا" لكونها تخدم مصالحهم
الطبقية و تساعدهم على تحقيق تطلعاتهم الطبقية، و تخدم ادلجتهم للدين.
و قد يقول قائل إن هذه التصورات التي تسعى الطبقات
الإقطاعية و البورجوازية، و البورجوازية-الإقطاعية، و البورجوازية الصغرى و مؤدلجوا
الدين إلى تجسيدها على ارض الواقع هي تصورات مثالية، فنرد عليها بأنها لو كانت كذلك
ما تحققت على ارض الواقع أبدا، و إذا كانت إيديولوجيات الطبقات المذكورة مثالية، فإنها
بفعل تواجدها في الواقع تصير قوة مادية ، و بالتالي فإن التصورات الناتجة عنها تصورات
مادية.
ولذلك فالتصورات المادية الساعية إلى إنتاج نفس
العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية القائمة هي تصورات إقطاعية و بورجوازية و بورجوازية-إقطاعية،
و بورجوازية صغرى، و مؤدلجة للدين.
أما التصور الذي يهدف إلى إنتاج تشكيلة اقتصادية-اجتماعية
جديدة، فتتمثل في :
1) تصور الطبقة العاملة و حلفائها، و سائر الكادحين
الذين يعانون من الاستغلال الطبقي فيسعون إلى تغيير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية
الرأسمالية، أو الرأسمالية التبعية بالتشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية الاشتراكية، باعتبارها
تشكيلة تتحقق في إطارها الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و الثقافية و المدنية
و السياسية و في إطارها يتمكن الكادحون من تقرير مصيرهم بأنفسهم.
2) تصور المجتمع الاشتراكي المعني بالعمل من اجل
إنضاج الشروط المفرزة للتشكيلة الشيوعية التي يمكن اعتبارها هي نهاية التاريخ لأنها
هي التشكيلة الاجتماعية التي ينتفي من خلالها الصراع الطبقي، و تنتفي فيها كذلك الحاجة
إلى أجهزة الدولة، لأن المجتمع حينها سيقوم على أساس "لكل حسب حاجته، و على كل
حسب قدرته" و هذا التناسب بين الحاجة و القدرة وفق إطار ممارسة الديمقراطية الشعبية/الشيوعية
هو الذي أدى إلى قيام النفي الذاتي لسلطة الدولة لتبقى السلطة الشعبية وحدها هي القادرة
على حماية المجتمع من كل ما قد يستهدفه.
و هذا التصور العمالي و الشعبي نابع من صلب الواقع
و من مصلحة جميع أفراد المجتمع. و بالوصول إلى تحقيقه، تكون البشرية قد تطورت تطورا
هائلا، و تكون قد تخطت جميع العقبات التي تحول دون تحقيقها لأحلامها في الحرية و الديمقراطية
و العدالة الاجتماعية.
و باستعراضنا للتصورات المادية لصياغة الواقع
نجد أنفسنا كذلك أمام سؤال آخر : هل يمكن اعتبار القبول بتطور المادة، إقرار بالواقع
؟
إن جميع المثاليين متدينين و غير متدينين، و سواء
كانوا من حاملي الإيديولوجيات المثالية الإقطاعية و البورجوازية و البورجوازية الإقطاعية
و البورجوازية الصغرى، و المؤدلجة للدين لا يستطيعون إنكار تطور المادة، و لا يمكنهم
أن يقبلوا بغير تطور المادة، لأن عملهم اليومي، و انخراطهم في سوق الشغل، و في الصناعة
و التجارة و الزراعة و الخدمات إنما هو دليل على سعيهم إلى إحداث تغيير في الواقع،
و إحداث التغيير في الواقع ما هو إلا مساهمة في إنضاج شروط تطور و تطوير المادة كمنهج،
و كواقع في نفس الوقت. إلا أن مشكلة هؤلاء هي انهم ينكرون على المادة كونها تتطور بحكم
تفاعل تناقضاتها، و إفراز نوع جديد من المادة يفرز نقيضه و يدخل معه في صراع، و يتمسكون
بأن عمل الإنسان ليس هو الفاعل و المؤثر، و المنضج لشروط التطور. بل هناك قوة أخرى
غير معروفة، يعطي كل واحد لنفسه الحق في تفسيرها الذي يراه مناسبا له، هي التي تقوم
بذلك التغيير، و هي التي تسخر كل شيء له بما في ذلك الإنسان الذي يعتبر في مثل هذه
الحالة مسخرا، و ليس مخيرا، و ما يحصل من تغيير في المادية إنما هو بإرادة تلك القوة.
و مع ذلك و انطلاقا من التفكير العلمي الدقيق فإن الاعتقاد بوجود قوة غيبية هي التي
تتحكم في تحولات الواقع المختلفة يصير بدوره بمثابة الدين، مكونا من مكونات الواقع
المادي. لأن اعتقادا من هذا النوع لا ينفي تطور الصناعة و التجارة و الزراعة و الخدمات
التي تفرز انقسام المجتمعات إلى طبقات متصارعة، و أن الصراع الذي يجري بين تلك الطبقات
لابد أن يؤدي في يوم ما إلى إحداث تحول معين في التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية.
و أن هذا التحول هو تغير موضوعي اقتضته الشروط الموضوعية التي تم إنضاجها بفعل عمل
الإنسان على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية.
و مجرد الاعتراف بهذا التطور الذي تعرفه المادة،
هو إقرار بالواقع، و بهذا الإقرار الذي يجري على جميع المستويات من خلال العمل على
إحداث تغيير في المجتمع من خلال ما يجري في المدارس، و في الجامعات، و في المعاهد العليا،
و في المصانع، و المتاجر، و المزارع، يمكن أن نقول إن المادة و التفكير المادي الصرف،
أو حتى ذلك التفكير المادي الذي يرتدي لباسا مثاليا. و المنهج المادي هو الذي يتنتصر
في النهاية، و يحسم الصراع لصالحه، لأنه مهما ادعينا أن المنطلق يمكن أن يكون مثاليا،
إلا أن الواقع يكذب ذلك. فمنهجية العمل في المدارس و في الجامعات و في المعاهد العليا،
و في المصانع و المتاجر و المزارع تقتضي الانطلاق مما هو ملموس، و ما هو ملموس ليس
إلا مادة، و أي دراسة للمجتمع لابد أن تنطلق من الواقع الملموس لذلك المجتمع، و الواقع
الملموس للمجتمع لا يمكن أن يكون إلا ماديا، و جميع الدارسين و الباحثين و العلماء
يعرفون ذلك، و حتى المتدينون يستدلون على ما يذهبون إليه من معتقدات من الواقع. و الواقع
لا يتبدل، و لا يتغير في الزمان و المكان إلا بفعل كونه واقعا ماديا. و العلم يقول
، و بالقوانين الملموسة للمادة، إن الواقع يتغير باستمرار، أي انه ليس شيئا ثابتا،
و الفكر المثالي يفرض ثبات الواقع، و الثابت هو الذي لا يتحرك إلا بفعل قوة خارجية.
و هذه القوة الخارجية يعرفها كل مثالي بالتعريف الذي يراه مناسبا له. و لولا حركة المادة
ما تطورت، أو ما كانت قابلة للتطور، و لولا حركة المجتمع ما كان الانتقال من طبقة إلى
طبقة أخرى، و ما كان الانتقال من تشكيلة إلى تشكيلة اجتماعية أخرى، و ما كان هذا التعدد
الطبقي الذي تعرفه المجتمعات المختلفة، و ما كانت هذه الأحزاب و التيارات السياسية
التي تقود الصراع و التي لا يمكن إغفالها، لأنها تصير من مكونات الواقع. و عاملة على
إدارة الصراع القائم فيه على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و
المدنية و السياسية من اجل الوصول إلى إحداث تغيير فيه عن طريق الوصول إلى المؤسسات
التمثيلية، ثم إلى السلطة. وهذه الأحزاب مجتمعة بتياراتها، و بيمينها، و وسطها، و يسارها
لا تستطيع في تعاملها مع الواقع، سواء في صياغتها لبرامجها أو في إدارتها للصراع انطلاقا
من ذلك البرنامج، أو من خلال تواجد منتخبيها في المؤسسات التمثيلية أو في الحكومات
أن تنطلق إلا من الواقع، و هو ما يحشرها جميعا في خانة التفكير المادي. و هو اكبر دليل
على انتصار المادة على المثال و هو ما يؤكد في نهاية المطاف أن الكلمة النهائية لابد
أن تكون للمادة، و المنهج المادي الذي يستفيد من التطور الحاصل في الواقع المادي، وخاصة
في العلوم الدقيقة.
و انطلاقا من هذا السير العميق للمادة، و للإقرار
بواقعها من قبل المناهج الدينية، و المثالية التي تتحول بدورها إلى قوة مادية. فما
هي العلاقة القائمة بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية ؟
إننا إذا تمعنا في الرؤيا الدينية للواقع و في
الرؤيا المادية للواقع سنجد أن العلاقة بينهما تقوم على أساس الالتقاء و الاختلاف في
المنطلقات و في الأساليب، و في الأهداف.
فالدين، أي دين يعزي وجود هذا الكون إلى قوة غيبية
مثالية لا مادية معينة تختلف من دين إلى دين آخر، و من عصر إلى عصر آخر، إلى أن صار
الدين متطورا مع ظهور الديانات الكبرى. لتصير تلك القوة هي الله الذي تختلف طبيعته
من اليهودية " و قالت اليهود عزير ابن الله" إلى المسيحية " و قالت
النصارى المسيح ابن الله" إلى الإسلام "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد
و يولد" و يرجع هذا الاختلاف إلى مستوى التطور الذي تصل إليه البشرية مع مجيء
كل دين، و تبقى القوة التي تكون مصدرا لهذا الكون، و المتحكمة فيه، و التي تستطيع أن
تفعل به ما تشاء "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" هي جوهر
الأديان جميعا، بما في ذلك تلك الديانات الصغرى، و البسيطة جدا.
أما المادة فتعزى وجود هذا الكون إلى المادة نفسها
التي تملك القدرة على الحركة، و التفاعل و التبلور على جميع المستويات الطبيعية و الاقتصادية
و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية تعبيرا عن الانتقال من خلال مرحلة إلى
أخرى، و تجسيدا للتطور غير المتوقف الذي تعرفه المادة على جميع المستويات و في جميع
المجالات، لأنه حسب التصور المادي، لا وجود لشيء اسمه المادة بدون تحول و بدون تطور
للمادة، و بدون كيان لها.
و المادة القائمة بطبيعتها في هذا الكون، و بسبب
حركتها المستمرة فإننا نجد أنها تتشكل باستمرار، و أن هذا التشكل هو الذي يقضي بتنوع
المادة، وشكل تطورها، و هي العناصر المكونة لها، و هل هي فلزية أو لا فلزية ؟ و ما
هي درجة التطور القائمة في الكون ؟ و ما هي درجة التطور الممكنة ؟
و بهذا التحديد المختلف للرؤيا الدينية و الرؤيا
المادية يمكننا أن نتساءل : ما هي علاقة الالتقاء القائمة بينهما ؟ و ما هي علاقة الاختلاف
؟
إن علاقة الالتقاء في نظرنا، بين الرؤيا الدينية
و الرؤيا الماركسية تتجسد في :
1) الانطلاق من الواقع، و ما يحتمل فيه من تفاعلات
من اجل توجيهها للوصول إلى تحقيق نتائج معينة، و هذه النتائج تختلف باختلاف طبيعة التوجيه،
و باختلاف الوسيلة المعتمدة في اجرأة ذلك التوجيه.
2) توظيف عناصر الواقع من اجل الوصول إلى تحقيق
أهداف متعددة، نظرا لكون عناصر الواقع قابلة لذلك، فهي قابلة للاستدلال على صحة الرؤيا
الدينية، و قابلة للاستدلال أيضا على صحة الرؤيا المادية مهما كان التناقض القائم بينهما.
3) استهداف الإنسان بالرؤيا الدينية و الرؤيا
المادية على حد سواء مع الاختلاف الكبير في طبيعة الاستهداف، و ماذا تريد الرؤيا الدينية
من الإنسان و ماذا تريده الرؤيا المادية منه ؟
4) تقرير مصير الإنسان الذي تراه الرؤيا الدينية
في الاستمرار إلى ما بعد الموت، و ما بعد البعث و النشور. و تراه الرؤيا المادية في
التحول الذي تعرفه التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية،
من وضعية إلى وضعية أخرى.
5) تحقيق كرامة الإنسان التي تراه الرؤيا الدينية
في تمثل القيم النبيلة التي تعمل الديانات المختلفة على جعلها مشاعة بين الناس، و تراها
الرؤيا المادية في تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بتحقيق الاشتراكية
و القضاء النهائي على كل أشكال استغلال الإنسان للإنسان.
و هذه النقط التي اعتبرت نقط التقاء بين الرؤيا
الدينية و الرؤيا المادية، يمكن أن تعتبر هي نفسها بشكل أو بآخر نقط الاختلاف التي
نجدها تتجسد في :
1) اعتبار الواقع موجودا بإرادة و بأمر قوة غيبية
معينة من اجل أن يتشكل الواقع وفق رؤيا معينة تسمى رؤيا دينية تستدعى استعظام تلك القوة،
و إبراز معجزاتها من خلال ما يصير عليه الواقع من تحولات اقتصادية و اجتماعية و ثقافية
و مدنية و سياسية و طبيعية. لأن كل ذلك يتحول و يتشكل بفعل تلك القوة. و في نفس الوقت
نجد أن الرؤيا المادية ترى أن الواقع موجود بذاته. و أن التحولات و التغييرات و التشكيلات
التي يعرفها هي نتيجة للقوانين التي تحكم ذلك الواقع. و أن التحكم في توجيه تلك القوانين
لا يتم إلا بمعرفتها معرفة علمية دقيقة من قبل الإنسان الذي هو جزء من ذلك الواقع،
و أن أي توجيه لتلك التحولات لا يكون إلا لأجل خدمة مصالح طبقية معينة.
2) انتقاء عناصر معينة ذات الطبيعة المثالية لاعتمادها
في الوصول إلى إنتاج أهداف الرؤيا الدينية من الواقع لاقرار وجود تلك القوة الغيبية،
و تمثل القيم التي تراها مناسبة للإنسان، و جعل الناس يحرصون على اعتقادهم و يعملون
بمختلف الوسائل على حمايتها، بينما نجد أن الرؤيا المادية للإقرار باستقلالية الواقع،
و بحركيته، و بتحوله انطلاقا من قوانينه الذاتية، و بانتقاله من تشكيلة إلى أخرى اعتمادا
على تلك القوانين، و توجيهها و التحكم في طبيعة النتائج التي يمكن الوصول إليها.
3) اختلاف غاية استهداف الإنسان بالرؤيا الدينية
التي تقضي بإعداده للحياة الأخرى، مما يجعل كل عمله في الحياة الدنيا إنما هو من اجل
أن ينال رضى تلك القوة الغيبية في الحياة الأخرى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره،
و من يعمل مثقال ذرة شرا يره" ، عن غياب استهداف الإنسان بالرؤيا المادية التي
لا تراه إلا مالكا لوعيه الطبقي الذي يؤهله للانخراط في ممارسة الصراع الطبقي في مستوياته
الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الإيديولوجية و التنظيمية و السياسية، من اجل
الوصول إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كسمات مميزة للاشتراكية
كهدف أسمى يسعى الإنسان إلى تحقيقه على ارض الواقع.
4) اختلاف تصور تقرير المصير في الرؤيا الدينية
الذي يرى بان كل ما يصير إليه الإنسان من إرادة تلك القوة الغيبية سواء تعلق الأمر
بالحياة الدنيا، أو بالحياة الأخرى، عن تصور تقرير المصير في الرؤيا المادية الذي تقضي
بأن ما يصير إليه الإنسان هو من اختياره هو و ما يحققه هو في حياته المادية و الروحية.
لأن الإنسان هو الذي يدرس، و هو الذي يخطط و هو الذي ينفذ، سواء تعلق الأمر بالطبقة
المستغلة أو بالطبقة التي يمارس عليها الاستغلال و التي تسعى إلى القضاء على أشكال
الاستغلال الممارس عليها.
5) اختلاف تصور كرامة الإنسان في الرؤيا الدينية
التي تراها في تخلص الإنسان من كل ما يتنافى مع القيم الدينية التي يجب أن يتمثلها
المتدينون من اجل نيل رضى القوة الغيبية في الدنيا و الآخرة، عن تصور كرامة الإنسان
في الرؤيا المادية التي تراها في امتلاك الإنسان لوعيه الطبقي الذي يؤهله للعمل من
اجل تحقيق كرامته و كرامة المجتمع بوضع حد للاستغلال الممارس عليه.
و بذلك نكون قد لمسنا اوجه الالتقاء و الاختلاف
بين الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية، مما يجعلنا نصل إلى أن كلا الرؤيتين تتفاعلان
في الواقع، و لا تستطيع أي رؤية منها إقصاء الأخرى إلا في حالة نمذجة المجتمع في إطار
القوالب الجاهزة لرؤيا ادلجة الدين، أو في إطار القوالب الجاهزة للتطرف اليساري.
و بوقوفنا على علاقة الالتقاء و الاختلاف بين
الرؤيا الدينية و الرؤيا المادية. فهل يمكن القول بأن للرؤيا الدينية موقف من الرؤيا
المادية ؟
لقد سبق أن أشرنا إلى أن الرؤيا الدينية، و من
خلال ما ورد من وحي حتى نزول آخر الرسالات لم يرد فيها أي موقف من الرؤيا الماركسية
كرؤيا مادية. لأن الماركسية حينذاك لم تكن معروفة، و حتى الذين كانوا يحملون رؤيا مادية
عن الكون كانوا وثنيين، أي كانوا يعتقدون بوجود قوة خفية تتحكم في هذا الكون، و تتجسد
هذه القوة إما في حيوان أو نبات، أو تمثال أو غير ذلك مما يمكن أن تتجسد فيه تلك القوة
الخفية. و هؤلاء الذين يحملون هذه النظرة المادية عن الواقع هم الذين أشار إليهم القرءان
بقوله "إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما نحن بمبعوثين" و هي التي
ورد فيها على لسان بعض من عاشوا في ذلك الوقت حين قال "إن هي إلا أرحام تدفع،
و ارض تبلع، و ما يهلكنا إلا الدهر" و هؤلاء لا يمكن وصفهم لا بالماديين، و لا
بأي شيء آخر، لأنهم كانوا وثنيين، و الوثنية اعتقاد بوجود قوة غيبية قد لا يحصل معها
الإيمان باليوم الآخر، أو بالحياة الأخرى. و لذلك فهم لا يحملون أية نظرة مادية عن
الواقع. و لذلك فهم ليسو ماديين، و ما داموا كذلك فما جاء في القرءان ليس موقفا من
النظرة المادية للواقع. لأن النظرة المادية للوقع هي في عمقها نظرة فلسفية تكونت عبر
السنين، و ارتبطت بظهور النظريات الفلسفية، و ليس بالدين. و النظريات الفلسفية، إما
مادية أو مثالية. و النظرية المادية في بداياتها الأولى كانت تلقى معارضة حادة. لأن
البشرية كانت و لازالت في طفولتها. و هذه الطفولة البشرية لا يمكن أن يتأتى معها قبول
الفلسفة المادية هكذا و بهذه السهولة التي يمكن أن تتقبل بها النظرية المثالية التي
كانت مدعومة من قبل الطبقات الحاكمة في ذلك الوقت و من مختلف الأديان، ليبقى حاملو
تلك النظرية يغردون خارج الصرب، و يعانون من الانحسار و التقوقع إن لم يتم التخلص منهم
لمعارضتهم للحكام، أو لتعارض نظريتهم مع الدين.
و لكن المتدينين الذين عاشوا في مختلف العصور
و تعرفوا على الرؤيا المادية للواقع، و التي كانت تظهر في هذا البلد أو ذاك، في هذه
الفلسفة أو تلك كانوا يتخذون موقفا إيجابيا أو سلبيا، أو كانوا يسيرون في اتجاه الأخذ
ببعض ما تأتي به الرؤيا المادية أو تتخلى عنه. و قلما نجد أن متدينا اتخذ موقفا مما
أتت به فلسفة مادية معينة، لأن الفلسفة المادية لم تتبلور بعد في شكل رؤيا. لأن الرؤيا
قد تتخذ بعدا طبقيا، و الفلسفة المادية حينذاك لم ترق بعد إلى مستوى الرؤيا الطبقية.
لأن الطبقة التي تعبر تلك الرؤيا عن مصلحتها الطبقية لم تظهر بعد، لأن ظهورها كان رهينا
بتطور التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية إلى مستوى التشكيلة الرأسمالية، و ما يقتضيه
ذلك التطور من تطور في العلوم و الآداب، و الفنون، و التقنيات و سائر المعارف الإنسانية
التي تؤدي إلى انتقال الاقتصاد الحرفي إلى اقتصاد رأسمالي، صناعي و تجاري و خدماتي
حتى تظهر الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج و الطبقة العاملة باعتبارها مشغلة
لتلك الوسائل ثم قيام النظام الرأسمالي على أنقاض النظام الإقطاعي، و الرؤيا المادية
للواقع لم تتبلور و لم تكتمل إلا في ظل النظام الرأسمالي، و بما أن هذه الرؤيا كانت
و منذ البداية تسعى إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية فإن المتدينين
الذين كانت غالبيتهم من الكادحين التفوا حول الماركسية، و سعوا إلى اعتبار ما تدعو
إليه لا يتناقض مع الدين، أي دين، إلى أن قام النظام الرأسمالي بأدلجة المسيحية، و
توظيف الكنيسة لتضليل العمال و سائر الكادحين، و جعلهم يقبلون الاستغلال الممارس عليهم
باعتباره قدرا من عند الله، و انتباه الماركسية إلى هذا التأثير الذي تمارسه الكنيسة،
فتصدى ماركس لذلك، و اعتبر أن "الدين أفيون الشعوب" و هو إنما كان يقصد ما
نسميه نحن "ادلجة الدين" التي لجأت البورجوازية إلى ممارستها لتضليل الكادحين،
و نسيت أنها كانت تحارب ادلجة الإقطاع للدين بقيامه باعتبار الدولة الإقطاعية دولة
دينية. و بالنسبة للمسلمين الذين تعرفوا على الماركسية في نهاية القرن التاسع عشر،
و بداية القرن العشرين اعتبروا أن الرؤيا المادية للواقع و التي أتت بها الماركسية،
في صالح الإنسانية وأنها لا تتعارض مع الدين الإسلامي، إلا أن تأثيرها في قطاعات عريضة
من مجتمعات المسلمين جعل الطبقات الحاكمة في مختلف بلدان المسلمين تعمل على ادلجة الدين
الإسلامي و الشروع في توظيفه ضد الرؤيا المادية لما تشكله من خطورة على مصالح الطبقة
الحاكمة، و بعد أن تمت شرعنة ادلجة الدين من قبل الطبقات الحاكمة، ظهرت أحزاب معارضة
و مؤدلجة بدورها للدين تضع في استراتيجيتها محاربة الرؤيا المادية باعتبارها إلحادا
و كفرا، و تشكل خطورة على الدين و هي بذلك إنما تحرف الدين، و تقدم خدمات جلى للطبقات
التي تمارس الاستغلال على الكادحين بتدجينهم و جعلهم يحلمون بعدالة الآخرة، و تجييشهم
لتحقيق المصالح الطبقية لمؤدلجي الدين، و حماية تلك المصالح.
و بهذا البسط المسهب نصل إلى خلاصة :
1) أن النصوص الدينية لم تعرف شيئا اسمه الرؤيا
المادية.
2) أن المتدينين القدامى لم يعطوا أهمية للرؤيا
المادية التي كانت و لازالت في طريق التبلور.
3) أن المتدينين الذين صادفوا بلورة الرؤيا المادية
اعتبروا أنها في مصلحة تحقيق العدالة بين الناس.
4) أن الطبقات الحاكمة أدركت خطورة الرؤيا المادية
على مستقبلها فلجأت إلى ادلجة الدين لمحاربة الرؤيا المادية.
5) أن الأحزاب التي قامت على ادلجة الدين وضعت
في إستراتيجيتها محاربة الرؤيا المادية.
و بهذه الخلاصات نصل إلى انه لا تعارض بين الرؤيا
الدينية و الرؤيا المادية للواقع، و أن التعارض المفتعل إنما هو نتيجة لادلجة الدين.
و بوقوفنا على موقف الرؤيا الدينية من الرؤيا
المادية ننتقل إلى طرح السؤال : فما هو موقف الرؤيا المادية من الرؤيا الدينية ؟
إن الرؤيا المادية باعتبارها رؤية غير ناضجة ،
و غير ممنهجة ارتبطت بوجود الإنسان، و تقف عند حدود المدركات الحسية في البداية ثم
صارت بعد ذلك تتبلور عبر تصورات غير مكتملة و غير ممنهجة انطلاقا من الواقع المادي
الملموس. و لم تملك القدرة على اتخاذ مواقف معينة من الرؤيا المثالية بصفة عامة، و
من الرؤيا الدينية بصفة خاصة لكون الرؤيا المادية في حاجة إلى إحداث تراكم معين يقود
إلى جعل الرؤيا المادية ممنهجة و قادرة على مواجهة مختلف الرؤى النقيضة. و لذلك لا
يمكن الحديث عن الرؤيا المادية في المرحلة العبودية، و لا في مرحلة سيادة الإقطاع.
و لكن عندما نرتبط بالتطور الهائل في جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية
و المدنية و السياسية و العلمية و الفكرية و الفلسفية و الإيديولوجية في المرحلة الرأسمالية
سنجد أن الرؤيا المادية من مختلف الرؤى القائمة في الواقع صارت ممكنة لكون الرؤيا المادية
صارت ممارسة علمية، و ممارسة إيديولوجية في نفس الوقت.
فباعتبار الرؤيا المادية ممارسة علمية سنجد أنها
تعمل على نفي ما ليس علميا أنى كان مصدره، لأن العلمية تقتضي ذلك و هذا الاقتضاء هو
الذي يدفعنا إلى القول بأن موقف الرؤيا المادية يعتبر الرؤيا الدينية غير علمية، لأنها
لا تستند –كالعلم- على أسس مادية واقعية، و لو كانت كذلك لصارت علما، و لصارت في نفس
الوقت رؤيا مادية. و هذا النفي لا يستهدف الرؤيا الدينية في حد ذاتها، بقدر ما يستهدف
الأسس التي تقوم عليها للرؤيا الدينية، و النتائج التي تتوصل إليها، و سواء تعلق الأمر
بالأسس أو النتائج، فإن الموقف لا يستهدف إلا كونها غير علمية. أما الدين في حد ذاته
كمقوم من مقومات الشعوب. فالرؤيا المادية لا تنفيه لشيء واحد و بسيط جدا، و هو أن الدين
تحول بذلك إلى قوة مادية، و صار منطلقا ماديا لبناء الرؤيا المادية لواقع معين. و بما
أن من شروط قيام رؤيا مادية صحيحة. فإن الرؤيا المادية لا تدخل في صراع مع الدين، و
لا تنفيه بل و تحترمه كمقوم من مقومات الشعوب كما تحترم باقي المقومات. و لكن هذا لا
يمنع من تعامل الرؤيا المادية مع الرؤيا الدينية باعتبارها جزءا من الرؤى المثالية
التي تستهدف الواقع، و التي تستغل الرؤيا المادية تناقضاتها المختلفة من اجل بيان بطلانها،
لعدم علميتها، و لخطورتها على مستقبل الشعوب. و هذا التعامل العلمي الدقيق هو الذي
جعل الرؤى المثالية تمارس كافة أشكال الإقصاء ضد الرؤيا المادية للواقع، و لعجزها عن
المواجهة العلمية لأنها لا تملك أسس العلم، و لا تعمل على الاستفادة من مناهج العلم
الحديث الذي تلجأ المثالية إلى تفسير معطياته و نتائجه تفسيرا مثاليا/غيبيا، حتى لا
يصير سببا في جعل الناس يتبنون الرؤيا المادية للواقع باعتبارها رؤيا علمية.
و باعتبار الرؤيا المادية رؤيا إيديولوجية، فإننا
نجد أن هذه الرؤيا لم تتبلور إلا مع ظهور الطبقة العاملة كطبقة نقيضة للطبقة البورجوازية
في المجتمع الرأسمالي، و الرأسمالي التبعي. و نظرا لكون الرؤيا المادية كإيديولوجية
تعبر عن المصالح الطبقية للطبقة العاملة، فإننا نجد أنها تتخذ موقفا من جميع الإيديولوجيات
النقيضة لها. أي الإيديولوجيات التي لا تعبر عن المصالح الطبقية للطبقة العاملة. و
من تلك الإيديولوجيات ، إيديولوجية الطبقة الإقطاعية و إيديولوجية البورجوازية التابعة،
و إيديولوجية البورجوازية، وأيديولوجية البورجوازية الصغرى. أما الدين فغير وارد كنقيض
إلا في حالة ادلجته، فإذا تأدلج فإنه يصير نقيضا للرؤيا المادية.
و انطلاقا من هذا التوضيح الضروري، فإن موقف الرؤيا
المادية من الرؤيا الدينية يتخذ ثلاث مستويات :
1) مستوى كون الدين رؤيا للواقع، لا يستند إلى
أسس علمية و لا تتوصل إلى نتائج علمية. فإن هذه الرؤيا في نظر الرؤيا المادية هي رؤيا
غير علمية.
2) مستوى كون الدين مكونا من مكونات الواقع، و
في هذه الحالة، فإن الرؤيا المادية للواقع تعتبره قوة مادية قائمة في الواقع، لا يمكن
إغفالها في التحليل. لأن الدين عندما يصير مصدر للقيم النبيلة التي تستهدف تطور و تطوير
المسلكية الفردية و الجماعية لا يمكن أن يكون إلا جديرا باحترام الرؤيا المادية، و
لا يمكن أن يصير إلا مكونا من مكونات الواقع.
3) مستوى كون الدين إيديولوجية فإن الرؤيا المادية
لا يمكن أن تتعامل معه إلا كإيديولوجية معبرة عن المصالح الطبقية المختلفة.
فالدين كأيديولوجية للطبقة الإقطاعية المتخلفة
يصير مستهدفا بالنفي من قبل الرؤيا المادية، لأن الإقطاع صار في ذمة التاريخ. و لذلك
فترديد إيديولوجيته المستندة إلى الدين ليست إلا اجترارا للمرحلة الإقطاعية مما يكلف
البشرية المزيد من التخلف.
و الدين كأيديولوجية معبرة عن مصالح البورجوازية
التابعة، فإنه يصير موضوع الصراع الطبقي الذي يجري بين الرؤيا المادية كإيديولوجية
للكادحين و بين الرؤيا الدينية كإيديولوجية للبورجوازية التابعة و الذي سينتهي حتما
بانتصار الرؤيا المادية باعتبارها إيديولوجية الكادحين.
و الدين كإيديولوجية للبورجوازية فإنه يصير أيضا
موضوع الصراع الإيديولوجي الدائر في المجتمع الرأسمالي. و نفس الشيء بالنسبة لصيرورته
مساهما في إيديولوجية البورجوازية الصغرى.
و عندما يتعلق الأمر بصيرورته إيديولوجية مؤدلجي
الدين الذين يعتبرون أنفسهم ينوبون عن الله في الأرض، فإن مهمة الرؤيا المادية في مثل
هذه الحالة تصير عظيمة لكونها تجد نفسها مضطرة للكشف عن الأساليب الدنيئة و المنحطة
التي يقوم بها مؤدلجو الدين من اجل تحريف الدين بتأويلاتهم الإيديولوجية المغرضة التي
تستهدف تحويل قوة الدين إلى قوة إيديولوجية، أي أن الرؤيا المادية يجب أن تتحول إلى
مدافع عن الدين بالعمل على جعله بعيدا عن الادلجة، و ذلك بالعمل على إشاعة التمييز
بين الدين و بين ادلجة الدين. فالدين مقوم من مقومات المجتمع. أما ادلجة الدين على
يد التيارات و الأحزاب المؤدلجة للدين، فتصير تعبيرا عن مصالح طبقات المؤدلجين من جهة
وقوة كاسحة للمجتمع، لأن ادلجة الدين تحل محل الدين. و هنا وجه الخطورة في المسألة.
و هذه الخطورة التي تجعل مهمة الرؤيا المادية للدين المؤدلج تزداد عظمة، لأن ما يفصلها
في صراعها ضد ادلجة الدين، و في موقفها من الدين دقيق جدا . و عدم الخلط بين ادلجة
الدين و بين الدين يصير من الصعوبة بمكان. و لذلك فعلى الرؤيا المادية أن تتحرى الدقة
في التعامل مع هذه المسألة حتى لا تخسر الرهان أمام ادلجة الدين باعتبارها تعبيرا عن
مصالح طبقية معينة، لا باعتبارها دينا، أو رؤيا دينية.
و ببسطنا لموقف الرؤيا المادية من الرؤيا الدينية
ننتقل إلى مستوى آخر من السؤال : فكيف ترى الرؤيا الدينية لنتائج الرؤيا المادية ؟
إن الرؤيا، أي رؤيا لا تكون علمية إلا بمنطلقاتها،
و أسلوب عملها أثناء توظيف تلك المنطلقات، و ما تتوخاه من نتائج تؤكد أو تبطل الفرضيات
الموضوعة، قبل البدء في عملية البحث التي تستهدف الوصول إلى تحقيق نتائج معينة.
ففي مجال العلوم الدقيقة لا يختلف اثنان على أن
المنطلقات لابد أن تكون مادية، و أن البحث في تلك المنطلقات المادية لابد أن يكون وفق
مناهج مدققة تختلف من علم إلى علم آخر. و أن النتائج التي يتم التوصل إليها لا تكون
إلا علمية بتأكيد الفرضيات الموضوعة أو نفيها.
أما في مجال العلوم الاجتماعية فإن الأمر يختلف،
لأن المنطلقات قد تكون مادية، و قد تكون مثالية، و أن الأساليب "العلمية"
المتبعة قد تكون دقيقة، و قد لا تكون كذلك. و أن النتائج التي يتم التوصل إليها قد
تكون "علمية " و قد لا تكون كذلك، و أن الفرضيات الموضوعة رهين ب"علمية"
النتائج أو عدم علميتها.
و في مجال الاقتصاد نجد أن هناك نوعين من الاقتصاد
: الاقتصاد الذي يهدف إلى ضبط الرأسمال الثابت و الرأسمال المتغير و المداخيل، و المصاريف،
و الأرباح، و نسبتها إلى الأجور، و إلى الرأسمال، و نسبة الادخار، و نسبة النمو في
التجهيزات، و في الرأسمال، و في اليد العاملة، و ما هو الأفق المتوقع في الإنتاج، و
من المستفيد من الإنتاج .و اقتصاد من هذا النوع هو اقتصاد صرف يمكن العلم به و التأكد
من علميته، و السير عليه في جميع التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية. و بالتالي، فإن
علم الاقتصاد في مثل هذه الحالة لا يختلف عن العلوم الدقيقة في المنطلقات و في الأساليب
و في النتائج المتوخى الوصول إليها، و تأكيد الفرضيات أو نفيها. و الاقتصاد السياسي
الذي يمكن اعتباره اقتصادا مقارنا، لأنه يركز على إبراز الفروقات القائمة بين الاقتصاد
الإقطاعي و الاقتصاد الرأسمالي التبعي، و الاقتصاد الرأسمالي، و الاقتصاد الاشتراكي،
و اقتصاديات الأنظمة البورجوازية الصغرى و الأنظمة المؤدلجة للدين. و هذا النوع من
الاقتصاد هو الذي يمكن وصفه بطبيعة التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية القائمة، هل هي
تشكيلة إقطاعية، أو تشكيلة رأسمالية تابعة، أو تشكيلة رأسمالية، أو تشكيلة اشتراكية.
و من خلال دراستنا للاقتصاد السياسي يمكننا أن نكتشف قوانين تطور تشكيلة اقتصادية معينة
في اتجاه التحول إلى تشكيلة أعلى، مما يؤدي إلى تحول التاريخ من مرحلة إلى أخرى، و
هو ما يبطل مقولة نهاية التاريخ التي عمل النظام الرأسمالي المعولم على الترويج لها
للإقرار بتأبيده إلى ما لا نهاية.
و ما قلناه عن العلوم الدقيقة و الاقتصاد نقوله
عن الثقافة باعتبارها قيما ثقافية، و باعتبارها أدوات منتجة للقيم الثقافية. فالرؤيا
المادية للثقافة هي مجموعة من القيم التي تختلف من تشكيلة اجتماعية إلى تشكيلة اجتماعية
أخرى، و من طبقة اجتماعية إلى طبقة اجتماعية أخرى، و من زمن إلى زمن آخر، و من مكان
إلى مكان آخر ، و تتدخل مجموعة من الشروط الموضوعية و الذاتية المادية و الروحية للجماعات
و الأفراد لانتاج قيم معينة عامة و خاصة بكل مجتمع ثم خاصة بكل طبقة، و بكل فرد في
تلك الطبقة و في إطار التشكيلة الاجتماعية السائدة، و حسب ما يقتضيه الزمن و المكان.
و يعتبر الدين كمكون من مكونات الواقع مصدرا أساسيا
للقيم الثقافية الموجهة للمسلكية الفردية و الجماعية، و العاملة على جعل الإنسان يغذي
روحه من تلك القيم استعدادا لليوم الآخر.
و إلى جانب الثقافة نجد أن السياسة باعتبارها
تعبيرا إيديولوجيا فإننا نجد أنها تتشكل بحسب الطبقات المسيطرة على المجتمع و التي
تفرض توجهاتها السياسية العامة، و بالقوة على جميع أفراد المجتمع، أو بحسب الطبقات
التي تصارع من اجل الوصول إلى السلطة. فلكل طبقة اجتماعية توجهها السياسي، و بالتالي
فعدد التوجهات السياسية القائمة في المجتمع بعدد الطبقات الاجتماعية، و الطبقات الاجتماعية
لا يمكن التعبير عنها إلا بواسطة المواقف السياسية. فتبرز مواقفها على أساس تحديد تصور
للدستور، و لأسلوب الحكم، و للممارسة الديمقراطية في المجتمع على المستوى العام، و
على المستوى الخاص ...الخ.