جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

الدين/الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من اجل مجتمع بلا إرهاب/الجزء السادس



    محمد الحنفي

    الدين/الماركسية، أو النظرة، و النظرة المضادة :
    لقد وضحنا من خلال هذه المعالجة بما فيه الكفاية مفهوم المنهج الديني، و مفهوم المنهج الماركسي، و منطلقات كل من
المنهجين و الغاية التي يهدف إلى تحقيقها. و من خلال ذلك استطعنا أن نصل إلى أن الاختلاف في المنهج لا يبيح للمنهج الديني أن ينفي المنهج الماركسي كما لا يبيح للمنهج الماركسي نفي المنهج الديني ما لم يتحول إلى منهج إيديولوجي . فإذا صار كذلك دخل مباشرة في صراع معه، و الصراع بطبيعة الحال يهدف إلى نفي أحد الطرفين، و الطرف المستهدف بالنفي هو الطرف غير
العلمي لعدم علمية المنهج المؤدلج للدين، و لو كان كذلك، ما اعتمد المنهج التحرضي لجماهير المتدينين ضد الماركسية، لأن التحريض هو سلاح العاجز ، والذي يهمنا في هذه الفقرة هو رصد العلاقة بين الدين والماكسية ، بعيدا عن ادلجة الدين وعن تحويل الماركسية إلى عقيدة ، لأن أدلجة الدين قائمة على تحريض الناس ضد الماركسية، و استعدائهم على الماركسيين و إصدار الفتاوى في هذا الشأن، و لأن تحويل الماركسية إلى عقيدة ينفي وجود شيء اسمه الدين.
    و العلاقة بين الدين و الماركسية تفترض وجود شيء اسمه، الاحترام المتبادل بين الدين من جهة و بين الماركسية من جهة أخرى، فكيف تتم اجرأة هذا الاحترام ؟
    إننا نعرف جميعا أن جميع الأديان ظهرت في مراحل متقدمة في التاريخ البشري و آخرها الدين الإسلامي الذي ظهر قبل أربعة عشر قرنا وزيادة من السنين. و هذه الأديان جميعا لم تعرف في نصوصها المنزلة شيئا اسمه الماركسية و أنها كانت و لازالت تهدف إلى إشاعة الإيمان بما جاءت به ، و أنها لا تتجاوز ذلك لما سواه من أمور الناس، و انه إذا ورد شيء له علاقة بتنظيم الحياة العامة للناس، فإنه يكون محدودا بتنظيم العلاقة بين المتدينين من اجل ضمان وحدتهم و العمل على المحافظة على دينهم، و هو ما لا يجوز الانطلاق منه للقول بتحويل الدين إلى وسيلة لتنظيم المجتمع لا باعتباره دينا بل باعتباره دولة وحتى الدين الاسلامي باعتباره آخر الأديان ما لم يأت في نصوص الوحي بما يفيد ذلك بقدر ما أتى بما يفيد العكس. فقد جاء في القرءان " و أمرهم شورى بينهم". و لذلك فدخول هذه الأديان في محاربة الماركسية هو إقحام لها في أمور لا علاقة لها بتلك الأديان، لأن مناهجها ستكون قد تخلت عن وظيفتها الحقيقية، و أن تلك الوظيفة ليست إلا بحثا عن المواطن التي تشيع فيها الإيمان بذلك الدين الذي لا يمكن ان يتحول معتنقوه إلى قوة ضد الماركسية و ضد الماركسيين. أما إذا تحولت تلك الوظيفة إلى عمل لاستعداء الناس ضد الماركسية و الماركسيين فإنها تتحول إلى وظيفة إيديولوجية، و هو ما يعطي الحق للماركسية و الماركسيين من اجل الدخول في مواجهة ادلجة الدين. لأن تلك الادلجة في حد ذاتها ليست إلا ممارسة دينية، لأن الدين باعتباره دينا للناس جميعا بمن فيهم الماركسيون، لا يمكن أن يتحول إلى إيديولوجية، و المستفيدون من الدين وحدهم يعملون على تحويله إلى إيديولوجية من اجل حمايتهم لمصالحهم الطبقية، لكونهم يعجزون عن إنتاج إيديولوجية خاصة بهم، لكونهم غير مؤهلين اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا لذلك بسبب انتمائهم إلى شرائح البورجوازية الصغرى التي لا إيديولوجية لها، فيلجأون و بدون حياء، و بدون احترام للمعتقدات الدينية ، و لحاملي تلك المعتقدات إلى ادلجة دين معين، أو ادلجة المعتقدات الدينية جملة و تفصيلا، فيصيرون لذلك أوصياء على تلك المعتقدات التي يوجهونها حسب هواهم، لا حسب ما تقتضيه نصوص تلك المعتقدات الضاربة في القدم، و التي لحقها –كنصوص- الكثير من التحريف لجعلها تخدم المصالح الطبقية لمؤدلجي الدين.
    كما نعرف جميعا أن الماركسية لم تأت إلا في القرن التاسع عشر، و بعد أن حصل تطور كبير في مختلف المجالات المعرفية الإنسانية، و خاصة في العلوم الدقيقة، و بعد أن تطورت مناهج البحث العلمي، و بعد أن تكاثرت المخترعات التي لا حدود لها. و بعد أن تحولت التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية من تشكيلة عبودية إلى تشكيلة إقطاعية ثم إلى تشكيلة رأسمالية. و بعد أن وجدت الطبقة العاملة التي كانت في القرن التاسع عشر، و لازالت تعاني من ويلات الاستغلال المادي و المعنوي. فمجيء الماركسية إذن اقتضته مرحلة تاريخية معينة، و يقتضيه استمرار استغلال البورجوازية للطبقة العاملة سواء تعلق الأمر بالنظام الرأسمالي العالمي، أو بالنظام الرأسمالي التابع. و في الحالتين يكون استغلال العمال و سائر الكادحين و يكون امتصاص دماء البشرية بدون حدود في ظل عولمة اقتصاد السوق، و يكون هدف الماركسية ليس هو محاربة الدين كما يذهب إلى ذلك مؤدلجو الدين لحماية مصالحهم الطبقية، و لتحريض المتدينين ضد الماركسية، و الماركسيين، و المنهج الماركسي، بل من اجل تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية بتحقيق الاشتراكية. و هذه النقط كلها يمكن أن تكون أهدافا دينية أيضا كما هو الشأن بالنسبة لجوهر الدين الإسلامي. و إذا كان هناك من يقول بأن الماركسية تعادي الدين انطلاقا من العبارة الماركسية "الدين أفيون الشعوب" فلأن ماركس حين ذاك وجد أن الكنيسة تستغل استغلالا سياسيا –رغم تحقق فصل الدين عن الدولة- لجعل الكادحين يقبلون و عن طواعية، ما يمارس عليهم من استغلال اقتصادي و اجتماعي و ثقافي و مدني و سياسي، و ماركس حينذاك لم يفصل بين الدين كدين يهدف إلى نشر القيم كما يراها الدين. و بين ادلجة التي لا تخدم حينذاك إلا المصالح الطبقية الهمجية للبورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، مهما كانت تلك الوسائل بالغة البساطة، أو التعقيد، ولو فصل ماركس حينذاك بين الدين و ادلجة الدين، لعمل على توجيه الماركسيين إلى العمل على الفصل العلمي و الضروري لجعل الماركسية تتجنب الكثير من المزالق التي تسقط فيها، و هي المالكة للمنهج العلمي الدقيق و المتطور الذي يستطيع أن يدرك الضرورة العلمية للفصل العلمي بين الدين كمقوم من مقومات الشعوب، و بين ادلجة الدين التي تستهدف تحويل الدين إلى إيديولوجية معبرة عن مصالح طبقة معينة. و مادام المنهج الماركسي لم يقم في حينه بذلك . فإن هذه المقولة "الدين أفيون الشعوب" التي تصدق فعلا على ادلجة الدين و التي جاءت في حينها عابرة، و غير محددة بدقة للمقصود منها، كلفت البشرية الكثير، و كلفت و لازالت الماركسية، و الحركة الماركسية، و الفكر الماركسي الكثير من الكوارث التي تجاوزت حدود الإنسانية بإهدار دم الماركسيين أينما حلوا، و أينما ارتحلوا، لأنهم في نظر مؤدلجي الدين، أي دين، مجرد ملحدين يجب إهدار دمهم، و تحريض الشباب و اليافعين و سائر الكادحين ضدهم، و جعلهم يتخلصون منهم عن طريق اغتيالهم مباشرة أو بواسطة العمليات الانتحارية، وصولا إلى نيل الاستحقاق بدخول المغفلين لمفتاح الجنة. و لذلك نجد أن الاغتيالات التي تعرض لها الماركسيون إنما كانت على يد أولئك الفاشلين المحبطين الذين اسلموا أنفسهم لمؤدلجي الدين طلبا للغفران، و سعيا إلى الدخول إلى الجنة و التخلص من "رجس الملحدين" الذين يعتبر قتلهم مناسبة لرضى الله الذي يدخلهم إلى الجنة التي حرموا منها في الدنيا، و هم في الواقع إنما يعملون على القضاء على من تهدد ممارسته الإيديولوجية و السياسية مصالح مؤدلجي الدين، حتى يطمئن مؤدلجو الدين على مصالحهم، و حتى يستمر الدين في خدمة تلك المصالح، و حمايتها.
    و الواقع أن الدين يجب أن يبقى بعيدا عن اعتبار الماركسية عدوة للدين، كما الماركسية يجب أن تميز بين الدين كمقوم من مقومات الشعوب التي يجب احترامها حتى تستمر في إنتاج القيم النبيلة التي تتسلح بها تلك الشعوب ضد هجوم القيم المخربة لكيان الإنسان الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و بين ادلجة الدين التي يوظف ممارسوها الدين، أي دين، لخدمة مصالحهم الطبقية، و لحماية تلك المصالح حتى يتبين لها منهجيا، ماذا تواجه ؟ و من تواجه ؟ و لماذا تواجه ؟
    و بعد هذا المدخل لفقرة "الدين / الماركسية، أو النظرة و النظرة المضادة" نجد أنفسنا أمام طرح السؤال : هل يمكن الحديث عن النظرة الدينية إلى الماركسية ؟
    لقد سبق أن أشرنا في مدخل هذه الفقرة إلى أن الأديان ظهرت في مراحل متقدمة، و أن ظهورها لم يعرف حينذاك إلا شيئا اسمه الماركسية. و أننا إذا رجعنا إلى معظم النصوص الدينية المتداولة في صفوف المنتمين إلى مختلف الديانات سوف لا نجد أي ذكر للماركسية، و أن معظم النصوص تترك أمر التدين للناس، كما جاء في آخر الرسلات "فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر" و " لا إكراه في الدين" و هذه الأقوال وغيرها التي وردت في نفس السياق. تثبت إثباتا قاطعا بأنه لا وجود لشيء اسمه العداء للملحدين ماداموا يحترمون المومنين بدين معين، و ما دام الدين يعمل على إقناع الناس بالتي هي احسن. و آخر الرسالات كذلك لا تدخل في صراع مع المومنين بالديانات الأخرى، و لا تعمل على نفيها أو القضاء على أولئك المومنين بها كما تمت الإشارة إلى ذلك في القرءان من خلال الآية " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله" و من خلال الآية " و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن" و القرءان الكريم عندما يأتي بهذه الاشارات التي يجب أن تكون موجهة لمسلكيات المؤمنين بالدين الاسلامي فإن الله يعلم علم اليقين أن الديانات السابقة على الاسلام هي ديانات تم تحريفها ، وأن المؤمنين بها لم يعودوا موحدين في عبادتهم كما جاء في القرآن "إن الله ثالث ثلاثة" و "قالت اليهود عزير ابن الله، و قالت النصارى المسيح ابن الله" و مع ذلك لم يكفر الله تعالى المومنين بالديانات . و لم يدع إلى قتل الذين لا دين لهم، لأنه لو كان كذلك ما انتشر هذا الانتشار. و بهذا الشكل الجارف في جميع القارات لاعتماد المومنين على ما جاء في القرءان "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة" و إذا كان هذا هو منهج الدعوة الدينية من قبل الإسلام و من بعده، فكيف نتصور عداء الدين للماركسية التي ليست دينا بقدر ما هي منهج للتحليل، و للتفكير الذي يستهدف التعامل مع الواقع، و بقدر ما هي إيديولوجية الطبقة العاملة التي تعاني من القهر و الاستغلال سعيا إلى رفع الحيف عنها، و العمل على تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية. و إذا كان الأمر كذلك فمن أين هذه النظرة الدينية للماركسية. إنها في الأصل غير واردة في الكتب المنزلة، و غير واردة بالخصوص في القرءان. كما أنها ليست واردة في كتب الحديث، و لا يمكن أن نجد لها أثرا يذكر في الكتب الدينية المتقدمة، و لا حتى في كتب مؤدلجي الدين المتقدمين، و حتى المتعاملون مع الفكر الماركسي في بداية القرن العشرين من المسلمين، اعتبروه فكرا رائدا و فتحا عظيما، و لم يفهموا منه ما يسيء إلى الدين الإسلامي.
    و لذلك يمكن أن نقول انه لا يوجد شيء اسمه النظرة الدينية للماركسية، لا بالنسبة لليهودية، و لا بالنسبة للمسيحية، و لا بالنسبة للإسلام حسب النصوص التي وصلتنا. و النظرة القائمة في الواقع ليست نظرة دينية، إنها نظرة المومنين بمختلف الديانات الذين يمكن تصنيفهم إلى صنفين :
    1) صنف تعامل مع الماركسية كفكر أضاف جديدا إلى الفكر الإنساني و رأى أنها تستحق الاحترام و التقدير. و بالتالي فإن الاهتمام بالماركسية كالاهتمام بأي منهج فكري إنساني رغم اختلافه في المنطلقات و في الأهداف عن المناهج الأخرى بما فيها المنهج الديني.
    2) و صنف تعامل مع الماركسية على أنها تعادي الدين و تعمل من اجل القضاء عليه. و هذا الصنف هو الذي يحول الدين، أي دين، إلى إيديولوجية لخدمة مصالحه، و لحماية تلك المصالح، و يتكون هذا الصنف من الفئات الآتية :
    أ- فئة حاكمة تحتكر الحكم باسم الدين و تخضع الناس إلى خدمة مصالحها على أساس ذلك. و كل من يعمل على نقض ممارستها فهو عدو لها، و بما أن المنهج الماركسي و بحكم ارتباطه بالواقع فإنه يكشف عن أحابيل الحكام، و عن توظيفهم للدين و ادلجتهم له خدمة لمصالحهم و حماية لتلك المصالح. فإن هؤلاء يكونون نظرة سلبية عن الماركسية، و يعتبرونها عدوة للدين. و بالتالي، فإن المراد بالدين هنا هو الإيديولوجية التي توظف الدين، و ليس المراد حقيقة الدين كما هو مقوم من مقومات الشعوب التي تعتبر الماركسية نفسها ملزمة باحترامه، و من مصلحة الحكام قيام تناقض بين الدين و الماركسية حتى تستعدي جميع المتدينين ضد الماركسية حماية لمصالحهم من الاستهداف الماركسي، و ليس من مصلحة الماركسية قيام ذلك التناقض ، بل لابد من التمييز بين الدين كمقوم من مقومات الشعوب، و بين ادلجة الدين التي يلجأ إليها الحكام لحماية مصالحهم.
    ب- و فئة مؤدلجة للدين من اجل التعبير عن مصالحها الطبقية، و السعي إلى حشد المتدينين وراءها، و العاملين على خدمة مصالحها بمواجهة الماركسية و الفكر الماركسي و بمنهج غير علمي يؤدي إلى العجز المنهجي مما يحوله إلى ممارسة تحريضية ضد الماركسيين، و ضد كل المتنورين مما يؤدي إلى استعداد بعض المدينين للتخلص من الماركسيين فيتم التخلص من رموزهم، و من قادتهم، و مفكريهم حتى تبقى الساحة خالصة لترويج الفكر المؤدلج للدين الإسلامي، و لمؤدلجيه الذين يعملون بما توفر لديهم من إمكانيات ضخمة لا يدري أحد من أين لهم بها لتجييش المجتمع ككل لقطع الطريق أمام إمكانية قيام حركة ماركسية، حتى يصير المجتمع كله في خدمة تحقيق تطلعات مؤدلجي الدين بما في ذلك خدمة وقوفهم إلى جانب الحكام الذين يحققون تطلعاتهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية أو خدمة تطلعاتهم في الوصول إلى السلطة، و السيطرة على أدوات الدولة الإيديولوجية، و السياسية و القمعية، و اتخاذها وسيلة للاستبداد بالمجتمع و ممارسة كهذه لا يمكن أن تكون إلا حاملة لنظرة العداء إلى الماركسية، و المنهج الماركسي و استعداء الناس جميعا عليهم، و تحريضهم على مقاطعتهم، لكون الماركسية بمنهجها، و بحركتها تكشف عن أحابيل الماركسيين، و عن أهدافهم المسيئة إلى الشعب و إلى معتقداته التي توظف لتكريس الاستبداد به.
    و الذين يتبنون هذه النظرة السلبية ضد الماركسية و ضد الماركسيين سواء كانت إيجابية أو سلبية يدفعون إلى طرح السؤال : هل يمكن الحديث عن النظرة الماركسية إلى الدين ؟
    إن التحليل العلمي، و كما أشرنا إلى ذلك في غير ما مكان من هذه المعالجة لابد أن يأخذ بعين الاعتبار خصائص و مكونات الواقع، و درجة التطور التاريخي التي يعرفها الواقع المستهدف بالتحليل الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي، من اجل الوصول إلى خلاصات يمكن الأخذ بها في أي برنامج للعمل، و من أية جهة تسعى إلى وضع برنامج للتعامل مع ذلك الواقع القائم، سواء تعلق الأمر بتكريسه، أو تعلق بإصلاحه، أو تعلق بتغييره حتى تكون تلك الخلاصات مفيدة.
    و المنهج العلمي الماركسي في تعامله مع أي واقع لا يختلف عما أشرنا إليه، و لأن هذا المنهج ظهر في شروط متطورة، فإنه ينطلق من أن مختلف الأديان واقع قائم، و أن هذا الواقع لا يمكن تجاوزه، و لا يمكن القفز عليه، و لا يمكن إبقاء الماركسية بدون امتلاك رؤية علمية صحيحة للدين الذي تعتبره الماركسية من مقومات الشعوب في تحليلها المادي للواقع. و هي لذلك لا تعمل على نفيه بقدر ما تعمل على احترامه باعتباره من معتقدات الشعوب المختلفة على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و طبيعة التشكيلات الاقتصادية و الاجتماعية الإقطاعية أو الرأسمالية، أو الرأسمالية التابعة. فالدين معتقد، و المعتقد لا يزول إلا بزوال المعتقد. أما الماركسية فمنهج للتحليل له منطلقاته، و قوانينه، و مقولاته، و أهدافه، و الدين للناس جميعا مهما كانت الطبقة التي ينتمون إليها، إقطاعية، أو قنية، أو بورجوازية، أو بورجوازية صغرى، أو طبقة عاملة، أو فلاحين صغار و معدمين. أما الماركسية فإيديولوجية تعبر عن مصالح الطبقة العاملة في أي مكان من العالم و التي قد يكون أفرادها مسيحيون، أو يهودا و مسلمون أو بوذيون أو لا دين لهم، و لا يهم الماركسية إن كانوا يومنون بهذا الدين أو ذاك، بقدر ما يهمها أن يملكوا وعيهم الطبقي من خلال إدراك قيمة ما تحققه البورجوازية من أرباح مهولة.
    و لكن مع ذلك، فالماركسية تميز بين الدين كمعتقد من معتقدات الشعوب التي تحترمها الماركسية و تعتبرها من مقوماتها المادية التي تحقق وحدتها و مسلكيتها العامة، و مقوماتها الروحية. و غير ذلك مما تستفيده الشعوب يوميا من ممارستها لشعائر معتقداتها المختلفة، و بين ادلجة الدين التي وجدت منذ وجود الدين، أي دين. كما هو الشأن بالنسبة لأدلجة اليهودية من قبل الليكود مثلا، و ادلجة المسيحية من قبل الأحزاب المسيحية الديمقراطية، و ادلجة الدين الإسلامي من قبل مختلف التيارات و الأحزاب التي تسمي نفسها إسلامية. و الفرق واضح بين الدين و ادلجة الدين، و الماركسية عندما تميز بين الدين و ادلجة الدين يتبين لها الموقف الصحيح الذي يجب أن تتخذه، سواء تعلق الأمر بالدين، أو بأدلجة الدين.
    فموقفها من الدين يجب أن يكون واضحا، و موقفها من ادلجة الدين يجب أن يكون واضحا أيضا. فالدين معتقد شعبي أبا عن جد، ما على الماركسية ألا أن تحترمه. و هذا الاحترام يجب أن يستهدف إبقاء الدين مصدرا للقيم النبيلة من جهة، و بعيدا عن الاستغلال الإيديولوجي و السياسي. و ادلجة الدين تبقى ادلجة باعتباره تعبيرا عن مصالح طبقية معينة للطبقات التي توظف الدين لخدمة مصالحها، و تسخر لأجل ذلك جيشا من المتأدينين المؤدلجين للدين الساعين إلى الحصول على أموال طائلة مقابل ما يقومون به من ادلجة للدين من الطبقات المستفيدة من تلك الادلجة و من الجهات الخارجية التي لا تكون معروفة غالبا.
    و في هذه الحالة، فالماركسية كإيديولوجية و كمنهج إيديولوجي تمارس حقها في ممارسة الصراع الإيديولوجي ضد ممارسي ادلجة الدين، و ضد المستفيدين من تلك الادلجة، و ضد الأحزاب السياسية المؤدلجة للدين التي يمكن تصنيفها إلى :
    1) الأحزاب الممثلة للطبقة الحاكمة التي تعمل على ادلجة الدين الإسلامي بما يخدم مصلحة تلك الطبقة و مصلحة الأحزاب نفسها التي تسعى إلى استغلال الدين من اجل الوصول إلى استقطاب المومنين بذلك الدين من منطلق أنها هي التي تحمي الدين من الكفار و الملحدين و المشركين و الزنادقة و غير ذلك من الأوصاف التي تحول دون ارتباط الناس بالماركسيين المستهدفين بتلك الأوصاف، مما يضطر الماركسيين إلى الدخول في مواجهتها باعتبارها أحزابا مؤد لجة للدين من جهة، و أحزابا للطبقة الحاكمة من جهة أخرى.
    2) أحزاب البورجوازية الصغرى المؤدلجة للدين الإسلامي و التي تسعى بذلك إلى خدمة الطبقة الحاكمة مقابل التمتع بامتيازات معينة تستهدف تحقيق التطلعات البورجوازية الصغرى، كالوصول إلى المؤسسات التمثيلية المحلية و الجهوية و الوطنية باعتبارها مجالات لتحقيق التطلعات البورجوازية الصغرى. و الماركسيون، و الحركة الماركسية تجد نفسها مضطرة لفضح و تعرية الممارسة الانتهازية لهذه الأحزاب التي تتجسد في مظهرين :
    أ- مظهر استغلال الدين للوصول إلى أوسع قاعدة جماهيرية تمكن هذه الأحزاب من الوصول إلى المؤسسات التمثيلية.
    ب- مظهر ادعاء تمثيلية الله في الأرض، و العمل على التحكم في مصير الناس العقائدي، و العمل على تشديد المراقبة على الممارسة الدينية و العقائدية لدعم استبداد الطبقة الحاكمة بالمجتمع.
    و بهذا الفضح الذي يمارسه الماركسيون، و الحركة الماركسية في المجتمع ويهدف إلى جعل الناس، و الكادحين بالخصوص،يمتلكون الوعي بالممارسة التحريفية للمعتقدات الشعبية التي تقوم بها هذه الأحزاب لخدمة الطبقة الحاكمة و لتحقيق تطلعات البورجوازية الصغرى حتى تهب الجماهير المعنية بمقاومة هذه الأحزاب و محاصرة عملها في الساحة الجماهيرية، حتى تبقى المعتقدات الشعبية بعيدة عن الاستغلال الإيديولوجي و السياسي.
    3) الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي، و العاملة على استغلال تلك الادلجة من اجل الوصول إلى الحكم عن طريق تجييش عامة الناس من الكادحين و غيرهم، و اعتماد ذلك التجييش في السيطرة على أجهزة الدولة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية. و فرض الاستبداد البديل للاستبداد القائم و الذي يكون اشد هولا و بطشا، لأنه يتحول إلي استبداد باسم الله ،و فرض شيء اسمه تطبيق "الشريعة" التي ترجع المجتمع إلى الوراء قرونا طويلة، و تجعل الناس يعيشون الرعب و الخوف من واقع الاستبداد المغرق في الظلامية. و لذلك نجد أن الماركسيين و الحركة الماركسية يجب أن يبذلوا جهدا منقطع النظير لفضح ممارسة هذا التوجه المغرق في ادلجة الدين، و في التماس الجوانب الظلامية من تاريخ البشرية و تشريح فظائع ما يترتب عن ادلجته للدين على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية والسياسية حتى يتبين الناس خطورته و ينتبهوا إلى ضرورة مقاومته، و العمل على إفشال مخططه قبل الوصول إلى فرض استبداده الذي قد يقود المجتمع إلى المزيد من الكوارث.
    و خير وسيلة لمقاومة هذا التوجه الذي يقتضي أن نسميه بالتوجه الظلامي. هو النضال الديمقراطي الذي يجب أن تتصدى له الحركة الماركسية. و أن تقوده من خلال جبهة للنضال من اجل الديمقراطية بمساهمة الأحزاب التقدمية و الوطنية، و الديمقراطية حتى يتم جعل الجماهير الشعبية الكادحة و المتحالفة معها تفرض الممارسة الديمقراطية بمضامينها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية والسياسية، و العمل على إزاحة الاستبداد القائم و الحيلولة دون قيام استبداد بديل. و الحرص على أن يبقى الدين بعيدا عن كل ممارسة استغلالية إيديولوجيا و سياسيا من اجل المحافظة على وحدة الشعب العقائدية، و على بقاء العقيدة منتجة للقيم النبيلة التي تغذي وحدة الشعب، وتقف وراء تعاون كادحيه، و تضامنهم.
    و قيام الماركسية بإنتاج تصور علمي عن الدين و العمل على التفريق بينه و بين ادلجة الدين في الموقف، و في التعامل، يطرح علينا السؤال :
    ما علاقة الدين بالماركسية ؟
    إننا إذا بحثنا عن علاقة للدين بالماركسية في الكتب المنزلة سنجد أن أي إشارة إلى هذه العلاقة غير واردة نظرا لاختلاف الشروط الموضوعية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية والسياسية التي ظهر فيها كل دين على حدة، عن الشروط الموضوعية المتطورة على جميع المستويات التي ظهرت فيها الماركسية.
    فاختلاف الشروط يعتبر مسألة أساسية في تحديد تلك العلاقة، و هل يمكن قيامها؟ أم أن وجود تلك العلاقة يصير من باب المستحيلات؟ و إذا كان لابد من ممارسة في هذا الإطار، فإن علينا أن نميز بين مستويين :
    1) مستوى النص الديني كمصدر للدين من جهة و كمصدر لامكانية وحدة العلاقة مع الماركسية من جهة أخرى. و بما أن النصوص الدينية أتت في وقت لم تكن فيه الماركسية معروفة، فإن قيام العلاقة معها من خلال النص الديني غير وارد.
    2) مستوى المعتنقين لدين معين، و الذين عاشوا خلال القرن التاسع عشر و خلال القرن العشرين و حتى الآن يمكن أن نصنفهم بدورهم إلى مستويين :
    أ- مستوى المتدينين الذين وقفوا عند حدود اعتبار الدين مصدرا للقيم النبيلة المحققة لوحدة الشعب، و تضامن أفراده و تعاونهم. و هؤلاء لابد أن يروا أن العلاقة بالماركسية ستكون على أساس طبيعة القيم التي تنتجها الماركسية كفكر، و هل هي قيم تتناسب مع القيم الدينية أو تتناقض معها. و بما ان قيم الماركسية لا تسعى إلا إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و هي قيم تحقق الوحدة و التعاون و التضامن. و لذلك فعلاقة هؤلاء لابد أن تقوم على أساس التوافق و التناسب لا على أساس عداوة الماركسية و محاربتها.
    ب- مستوى مؤدلجي الدين الإسلامي الذين صنفناهم إلى ثلاث مستويات :
    مستوى الطبقة الحاكمة المؤدلجة للدين الإسلامي و التي تعتبر الدولة التي تمسك بها و تسخرها لاستغلال المجتمع تعتبر طبقة معادية للماركسية التي تسعى إلى توعية الكادحين بخطورة ذلك الاستغلال على مستقبلها. و لذلك فعلاقة الطبقة الحاكمة المؤدلجة للدين هي علاقة تناقض.
    مستوى الأحزاب المؤدلجة للدين و العاملة على استغلال المتدينين من اجل الوصول إلى المؤسسات المنتخبة لتحقيق التطلعات الطبقية للبورجوازية الصغرى، و هؤلاء أيضا ينسجون علاقة العداء للماركسية لكونها تفضح ممارستهم لاستغلال الدين في الأمور الإيديولوجية و السياسية. و هذه العلاقة لا يمكن أن تكون إلا علاقة تناقض أيضا.
    مستوى الأحزاب المؤدلجة للدين و العاملة على استغلال تلك الادلجة في تجييش الناس و توظيف ذلك التجييش من اجل الوصول إلى الحكم. و هؤلاء يكنون عداء عظيما للماركسية و الماركسيين لكونها تستطيع تشريح ممارسة هؤلاء، و أن تكشف خلفية ادلجتهم للدين الإسلامي. و لذلك فهم غالبا ما يلجأون إلى التصفية الجسدية، و يعملون على محاربة الفكر الماركسي بكل الأساليب الهمجية.و لذلك فالعلاقة التي تجمعهم بالماركسية هي علاقة تناقض كذلك.
    و بهذا التفصيل نصل إلى أن الأصل في النص الديني انه لا يذكر شيئا عن الماركسية بقدر ما ينظرون إلى القيم التي تسعى الماركسية إلى تحقيقها. أما مؤدلجوا الدين و مستغلوه في الأمور الإيديولوجية و السياسية على اختلاف مستوياتهم فما يجمعهم بالماركسية هو التناقض المطلق.
    و هذا الاستنتاج/الخلاصة هو الذي يجرنا إلى طرح السؤال :
    ما علاقة الماركسية بالدين ؟
    و على العكس من النص الديني، فإن النص الماركسي جاء في مرحلة ظهرت فيها جميع الاديان التي صارت من معتقدات الشعوب. و صارت فيها البشرية مالكة لمختلف التجارب الدينية. و لذلك فقد صار في إمكان الماركسية أن تربط علاقة معينة مع الدين أي دين من منطلق علاقتها مع شعب من الشعوب أثناء تعاطيها مع واقع معين.
    فالدين بالنسبة للماركسية مكون من مكونات الواقع المستهدف بالتحليل. و هذا المكون قد يصير محايدا في الصراع الدائر في ذلك الواقع. و قد تتم ادلجته فيصير منحازا.
    فإذا صار الدين محايدا كان مجرد معتقد من معتقدات شعب معين. و من طبيعة الماركسية أنها تحترم معتقدات الشعوب و تقدرها. و لا تسعى أبدا إلى جعلها موضوعا للصراع لكونها تحرص على أن تنال تقدير الشعوب لها، و تتجنب أن توصف بأمور لا علاقة لها بالتحليل العلمي الماركسي. مما يجعلها غير صالحة للتعامل مع الواقع المختلف الذي يقتضي استحضار خصائصه و مكوناته. كما أشرنا الى ذلك غير ما مرة في سياق معالجتنا هذه. و انطلاقا من هذا الفهم للعلاقة بين الماركسية و الدين المحايد المعتبر جزءا من معتقدات الشعوب. فإن علاقة الماركسية به هي نفسها علاقتها بمختلف المكونات التي تجسد خصائص الشعوب التي لا يمكن القفز عليها. و يجب احترامها باعتبارها منتجة للقيم السائدة في تلك الشعوب، و العاملة على جعلها جزءا من تلك المعتقدات المرتبطة بوجود الشعوب نفسها كقوة مادية قائمة في الواقع المادي.
    أما إذا صار الدين منحازا فإن الأمر يختلف اختلافا كليا أو جزئيا، لأن الدين المنحاز يفقد قيمته كمقوم من مقومات الشعوب، و يصير مجرد إيديولوجية. و معلوم أن الإيديولوجية هي مجرد تعبير عن المصالح الطبقية التي تسعى طبقة من الطبقات الاجتماعية إلى جعل الدين في خدمتها و العمل على حمايتها، و بصيرورة الدين إيديولوجية يتجدد ما يجب اعتباره في العلاقة بين الماركسية والدين.
    فاعتباره إيديولوجية للطبقة الحاكمة التي تستغله في تضليل الكادحين و جعلهم يعتقدون أن الدين يدعوهم إلى الخضوع لها. و اعتبارها حاكمة بإرادة الله، و طاعتها التي هي جزء من الدين واجبة عليهم، و إلا فإنهم إذا شقوا عصا الطاعة، فإنهم يتعرضون لغضب الله، و معاقبة الحكام لهم. و هذا الاعتبار يقود إلى جعل علاقة الماركسية بأدلجة الطبقة الحاكمة للدين هي علاقة صراعية، لأن الدين المؤدلج لا يبقى بعيدا عن حق ممارسة الماركسية للصراع الإيديولوجي إلى الصراع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي من اجل تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية.
    و قد يصير الدين إيديولوجية لحزب سياسي معين يستغله من اجل الوصول إلى تحقيق مكاسب معتبرة في التمثيلية في المؤسسات المنتخبة محليا، و وطنيا، و ممارسة كهذه لا تختلف عن ممارسة الطبقة الحاكمة، لأنها تقحم الدين في أمور كان يجب أن يبقى بعيدا عنها. و لذلك فعلاقة الماركسية بأدلجة حزب معين للدين هي علاقة صراعية تقتضي المواجهة الإيديولوجية لممارسة الحزب الموظف للدين توظيفا إيديولوجيا و سياسيا. و هذا التوظيف يجب الوقوف على خلفياته، و على جعله معروفا جماهيريا حتى تهب الجماهير لحماية معتقداتها من الاستغلال الإيديولوجي و السياسي، حتى لا يتم السطو على تلك المعتقدات من قبل الطبقات العاجزة عن إنتاج الإيديولوجية الخاصة بها، كما هو الشأن بالنسبة للطبقة البورجوازية الصغرى.
    و قد تتطور ادلجة الدين لتصير وسيلة للوصول إلى الحكم و الاستبداد بالمجتمع، فالاستبداد بالمجتمع يعتبر ممارسة لا ديمقراطية و لا شعبية تقوم بها الطبقة الحاكمة و السعي إلى فرض استبداد بديل بالمجتمع يعتبر ممارسة سياسية لا ديمقراطية و لا شعبية. و استغلال الدين إيديولوجيا و سياسيا لتحقيق ذلك الاستبداد البديل من قبل توجه سياسي معين يعتبر سطوا مكشوفا على معتقدات الشعوب من اجل التحكم في الشعوب نفسها. و بالتالي، فالماركسية تجد نفسها مضطرة لممارسة الصراع الإيديولوجي مع هذا التوجه المغرق في ادلجة الدين و المجيش لجميع أفراد المجتمع. و عليها أن تكشف الخلفيات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية والسياسية لتكريس هذه الادلجة حتى تتم تعبئة الناس لجعل هذه الادلجة غير مقبولة لدى الشعوب التي تحرم من حياد معتقداتها.
    و انطلاقا مما رأيناه يمكن أن نصل إلى خلاصة أن علاقة الماركسية بالدين تتحدد من خلال كون الدين مجرد معتقد من معتقدات الشعوب التي تحترمها الماركسية، أو أن هذا الدين صار مؤدلجا، فتصير الماركسية بسبب ذلك مضطرة إلى خوض الصراع الإيديولوجي ضد ادلجة الدين في مستوياتها المختلفة في أفق إبقاء الدين أي دين، محايدا، بعيدا عن الصراع الطبقي القائم في واقع معين.
    و إذا تم توضيح العلاقة بين الدين و الماركسية من جهة، و بين الماركسية و الدين من جهة أخرى فهل يمكن اعتبار الدين كلا، و الماركسية جزءا ؟
    إن الدين باعتباره منهجا مثاليا يهدف إلى تغذية الأرواح و المسلكيات و الأفكار بالقيم النبيلة التي ترفع مكانة الإنسان و تحفظ كرامته، و ما يهتم به الدين في هذا الإطار يصير من اهتمام الماركسية كذلك، و منهج تحقيقه عن طريق الماركسية يختلف عن منهج تحقيقه عن طريق الدين، فالمنهجان مختلفان، و الهدف واحد.
    و انطلاقا من المنهج المختلف يمكن أن نقول إن الماركسية ليست من الدين رغم انهما يلتقيان في تحقيق إنسانية الإنسان. و لكن عندما يتعلق الأمر بالمستهدفين بالدين و بالماركسية معا، يمكن القول بأن الماركسيين جزء منهم. و من خلالهم تصير الماركسية جزءا من الدين، فذلك غير ممكن لأن الدين لا يمكن أن يكون فكرا ماديا حتى تكون الماركسية جزءا من ذلك الفكر. فالدين معتقد، و المعتقد لا يكون إلا مثاليا، و المثالي لا يمكن أن يصير ماديا إلا في حالة صيرورته مقوما من مجموعة من مقومات الشعوب، و هو هنا يتحول إلى قوة مادية من خلال معتنقيه من أفراد الشعب.
    و قد يصير الدين مؤدلجا، فلا يسعى إلى بث القيم بين الناس، و لا يسعى إلى تعاونهم، و تضامنهم و تحقيق وحدتهم كشعب بل يصير إيديولوجية معبرة عن مصالح طبقة معينة أو مجموعة من الأيديولوجيات المعبرة عن مصالح مجموعة من الطبقات الاجتماعية، و هو في حال صيرورته إيديولوجية، فإن الماركسية باعتبارها إيديولوجية الطبقة العاملة تصير جزءا من تلك الأيديولوجيات رغم التناقض القائم بين الماركسية و تلك الأيديولوجيات.
    فالدين كدين محايد لا علاقة له بخدمة المصالح الطبقية يبقى مجرد معتقد، لا يمكن أن يصير كلا. و أن تصير الماركسية جزءا منه لاختلاف منهجيهما إلا إذا كان المقتنعون بالماركسية متدينين، فإنهم حينئذ يصيرون جزءا من المتدينين.
    أما الدين كأيديولوجية فإنه يصنف إلى جانب الإيديولوجيات المعبرة كل منها عن مصالح طبقية معينة، و الماركسية جزء من تلك الإيديولوجيات.
    و إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للدين، فهل يمكن القول بأن الماركسية كل، و الدين جزء ؟
    إننا عندما نرتبط بالماركسية نرتبط في نفس الوقت بالمنهج العلمي الماركسي، و عندما نرتبط بالدين نرتبط بمنهج آخر لا يمكن أبدا وصفه بالعلمي، لعدم وجود قوانين كما هو الشأن بالنسبة للمنهج الماركسي. و لذلك فهو منهج للوعظ و الإرشاد و الإيمان و الإقناع من اجل جعل الناس يومنون بدين معين، و يعملون على المحافظة على الإيمان، و القيام بشعائره أو طقوسه التي هي مصدر قيم دينية معينة. و لذلك، فالماركسية لا تعتبر منهجيا متوافقة، و متناسبة مع الدين، حتى تصير كلا، و حتى يصير الدين جزءا من الماركسية نظرا للتناقض المنهجي لا على مستوى المنطلق، و لا على مستوى الأساليب و لا على مستوى الأهداف، و لا على مستوى النتائج.
    و الدين عندما يصير مقوما من مقومات الشعوب و يتحول إلى قوة مادية يصير خاصية من خاصيات الشعوب التي يجب اعتبارها في المنهج الماركسي من اجل الوصول إلى معرفة القوانين المتحكمة في تحولات الواقع، و العمل على تفعيلها من اجل التسريع بتلك التحولات القاضية بانتقال المجتمع من تشكيلة اقتصادية اجتماعية إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية أعلى. و بصيرورة خاصية الدين كمقوم من مقومات الشعوب معتبرة في المنهج الماركسي. فإن الدين يصير جزءا من الماركسية. فالماركسية حسب هذا التصور كل و الدين جزء.
    و عندما يصير الدين إيديولوجية على يد مؤدلجيه و يتحول إلى التعبير عن مصالح معينة لطبقة معينة أو لمجموعة من الطبقات، فإنه كالماركسية عندما تصير إيديولوجية، و كالإيديولوجية الإقطاعية أو البورجوازية الصغرى، يصير الدين جزء من تلك الإيديولوجيات التي من بينها الإيديولوجية الماركسية. و ما يجمع بين هذه الإيديولوجيات هو التناقض لأن كل إيديولوجية تسعى إلى نقض الإيديولوجية الأخرى نظرا لتناقض المناهج و المصالح في نفس الوقت.
    و لذلك يمكن القول بأن الدين عندما يصير مقوما من مقومات الشعوب يصير جزءا من المنهج الماركسي لينبني على ذلك كون الماركسية كل و الدين جزء. و عندما يصير الدين إيديولوجية، فإنه يصنف إلى جانب باقي الإيديولوجيات التي من بينها الإيديولوجية الماركسية.
    و انطلاقا من هذا التقابل و التغاير و التناقض بين الدين و الماركسية يمكن الرجوع إلى علاقة كل منهما بالواقع ؟
    إن الدين أي دين في مرحلة ظهوره يكون قد جاء استجابة لواقع معين، فكأنه إفراز لذلك الواقع، إلا أنه و بعد اكتمال تحديد معالمه و تبلوره بصفة نهائية يشرع مباشرة في صياغة وجدان الإنسان، و فكره و ممارسته انطلاقا من قيم محددة تعتبر من سمات ذلك الدين و في صياغة الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي انطلاقا من القيم الدينية نفسها كما تم تحديدها، و إشاعتها بين الناس.
    و علاقة الدين بالواقع ليست علاقة جدلية كما هو مفترض، بل لابد أن يقبل الناس العمل على إخضاع أنفسهم و واقعهم و مخططاتهم في مختلف المجالات و برامج عملهم للتصور الديني إلا أن هذا لا يعني أن الدين يبقى بعيدا عن التأثر بالواقع، فالناس الذين ظهر الدين بينهم، ليسوا كما هم، فقد تطوروا على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي و المعرفي و العلمي. و لذلك نجد أن نظرتهم إلى الدين لابد أن تتغير، و لابد أن يكون فهمهم مختلفا، و لابد أن يصير الدين متلائما مع الواقع الجديد و مستفيدا منه، و متعاملا معه، و موجها لمسلكيات الناس انطلاقا من التأويلات الجديدة التي لم تعد كذلك إلا لأن الشروط الجديدة اقتضتها، فصارت كذلك حتى صار الناس يتمثلون في سلوكهم التأويلات الجديدة التي اكتسبت قوة الدين، اكثر مما يتمثلون النصوص الجديدة. و نحن عندما نتعاطى مع الدين نجد أنفسنا مضطرين لتمثل التصور السائد للدين في بلد من البلدان، و الذي لا يمكن أن يكون إلا تأويلا خاصا، استطاع أن يؤثر في الناس و أن يعمل على جعله هو الدين نفسه. لذلك نجد أن الدين الإسلامي في المغرب ليس هو الدين الإسلامي في الجزائر، و ليس هو الدين الإسلامي في تونس أو في ليبيا، أو في مصر أو في فلسطين، أو في الصين، أو ماليزيا، أو في إندونيسيا، أو في نيجيريا ... الخ. و نظرا لأن التأويلات التي استهدفت النصوص الدينية تختلف من عصر إلى عصر فإن تأويل مسلمي القرن السابع الميلادي يختلف عنه تأويل مسلمي القرن الرابع عشر أو الخامس عشر أو السابع عشر، أو العشرين، لاختلاف الشروط الموضوعية التي تحكم المؤولين للنص الديني الإسلامي.
    و إذا أضفنا إلى ذلك التأويل الإيديولوجي و السياسي المستهدف للنص الديني، و الذي صاحب ظهور مختلف الأديان مباشرة، بما في ذلك الدين الإسلامي الذي ظهرت منذ البداية مذاهب سياسية مختلفة و متناقضة منذ مقتل عثمان، و بقيت تلك المذاهب و الأحزاب الدينية متوارثة و متناسلة إلى الآن، نظرا لأن بعض الطبقات عاجزة عن إنتاج إيديولوجية خاصة بها، فإنها تقوم بتحويل الدين إلى إيديولوجية تساعدها على التغلغل في صفوف الناس، و على تضليلهم حتى لا يروا واقعهم الذي يقتضي شيئا آخر. و حتى يستمر المؤدلجون في الاستفادة من ادلجة الدين، و جعل تلك الادلجة وسيلة لتأبيد الاستبداد القائم، أو دعمه، أو السعي إلى إقامة استبداد بديل.
    و نظرا للكوارث التي تحدثها ادلجة الدين، فإن إعادة النظر في التأويلات التي صارت سائدة و الناتجة عن ادلجة الدين صارت واردة بإعادة الاعتبار للنص الديني رغبة في جعل الدين محايدا في الصراع الإيديولوجي، و السياسي و الطبقي السائد في المجتمع.
    و انطلاقا من هذا التحليل يمكننا أن نقول :
    1) إن الدين في الأصل هو إفراز لواقع معين بسبب تظافر شروط معينة.
    2) إن الدين الذي يصير مجموعة من القواعد التي يطبقها المتدينون لا يسلم من التأويلات التي يقتضيها تغير الشروط من بلد إلى بلد، و من زمن إلى زمن آخر.
    3) إن التأويلات قد تستهدف تحويل الدين إلى إيديولوجية أو إلى مجموعة من الإيديولوجيات المعبرة عن مصالح طبقية معينة تسعى إلى حمايتها أحزاب دينية معينة تختلف حسب العصور و حسب البلدان.
    4) إن إعادة النظر في اللجوء إلى ادلجة الدين صارت واردة و إن الرغبة فيها صارت تتنامى حسب الزمان و المكان، و حسب تغير الشروط الموضوعية التي صارت تستعصي على القبول بأدلجة الدين.
    5) إن العمل على جعل الدين محايدا في العلاقة مع الواقع صار ضرورة تاريخية لتجنيب البشرية الكوارث الناجمة عن الاستغلال الإيديولوجي و السياسي للدين.
    و إذا كانت هذه علاقة الدين بالواقع في مختلف تجلياته، و نظرته له، فما هي علاقة الماركسية بالواقع، و ما نظرتها إليه ؟
    إن الماركسية باعتبارها منهجا علميا له أسسه و قوانينه و مقولاته العلمية عندما يرتبط بالواقع، لا يرتبط به من منطلق أنه واقع قابل للإدخال في قوالب جاهزة، بل لابد أن يتعرف عليه و أن يقف على مكوناته المختلفة، و أن يتعرف على خصائصه المميزة له، و أن يتعرف على تاريخه، و على التحولات التي عرفها و هل جاءت تلك التحولات بفعل تفجير التناقضات الداخلية لواقع معين، أم أنها وقعت نتيجة تدخل جهات خارجية، و ما درجة تطور تلك الجهات ؟ و هل ذلك التطور مناسب لإحداث تغيير إيجابي في الواقع في اتجاه تغيير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية إلى الأحسن ؟ أم أنها مجرد تغيير سلبي لا يؤدي إلا إلى إغراق الواقع في المزيد من التخلف ؟ و استحضار كل ذلك في تحليل الواقع، و العمل على إنضاج شروط التحول الإيجابي المفترضة لتحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كمقدمات ضرورية لتحقيق الاشتراكية كهدف سام يعتبر بدوره وسيلة للانتقال إلى مرحلة أعلى من الاشتراكية.
    و الماركسية بتوظيفها للمنهج العلمي، و لخصائص الواقع المميزة له تكون قد فاقت كل المناهج البورجوازية و الإقطاعية و البورجوازية الصغرى و غيرها بما فيها المناهج المؤدلجة للدين الإسلامي التي أجمعت كلها على ممارسة التضليل بأبشع صوره ضد الكادحين حتى لا ينتبهوا إلى نجاعة الماركسية، و المنهج الماركسي في جعلهم يمتلكون الوعي الطبقي الحقيقي،و يلتفون حول الحركة الماركسية.
    و الماركسية بذلك البحث استطاعت أن تقوم بقراءة علمية للتاريخ، و أن تقف على الأقل على المراحل التي عرفتها التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية في مختلف المراحل ابتداء بمرحلة المشاعة، و مرورا بالمرحلة العبودية ثم المرحلة الإقطاعية، فالمرحلة البورجوازية التي لا تستطيع الاستمرار لكونها تحمل عوامل نقضها و تحولها إلى المرحلة الاشتراكية، فالمرحلة الشيوعية.
    و الماركسية عندما تتعامل مع الواقع تحاول دائما أن تعمل على جعله يتطور باستمرار إلى الأحسن، حتى تستفيد هي من ذلك التطور لصالح القوانين التي تعرف استفادة من مناهج البحث العلمي، و من العلوم و التقنيات الدقيقة. مما يجعل المنهج الماركسي بدوره يتطور، و هو ما يعني أن الماركسية تنسج علاقة جدلية مع الواقع. فهي تعمل على تطويره، و لكنها في نفس الوقت تستفيد من ذلك التطور. و لذلك نجد أن الواقع في نظر الماركسية هو واقع متحول باستمرار، و هذا الواقع المتحول تتفاعل مكوناته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية والسياسية من منطلق أن التفاعل يجب أن يكون منتجا، أي يضمن سلامة التطور الإيجابي الذي يقتضي تحريك الآليات التي ترى الماركسية ضرورتها للحيلولة دون قيام الطبقة الحاكمة بالعمل على توجيه حركة الواقع من اجل إعادة إنتاج نفس الهياكل الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية والسياسية لتأبيد سيطرة الطبقة الحاكمة.
    و من الآليات التي تعمل الماركسية على تفعيلها في الواقع نجد :
    1) المنظمات الجماهيرية المختلفة النقابية و الحقوقية و الثقافية، و التربوية التي تقود النضالات الجماهيرية انطلاقا من برامج محددة و موجهة لحماية المصالح الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و العمل على حماية تلك المصالح حتى تضمن الجماهير الاستفادة من الواقع حسب ما تقتضيه وضعيتها المادية و المعنوية.
    2) الحزب السياسي الماركسي باعتباره حزبا للطبقة العاملة و لسائر الكادحين الذي يقتنع المنتمون إليه بالاشتراكية العلمية كمنهج و كهدف، و الذي تنبني تنظيماته الحزبية على هذا الاساس حتى تعمل وفق برنامج محدد، يهدف إلى جعل جماهير الكادحين يلتفون حوله، و يعملون على تحقيق بنوده باعتبارها تخدم مصالحهم على جميع المستويات، و تعرقل عملية إنتاج نفس الهياكل الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و تسعى إلى إحداث تغيير عميق في الواقع لصالح الكادحين و طليعتهم الطبقة العاملة في أفق تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية. مما يجعل الكادحين يستطيعون القدرة على تحقيق مصيرهم بأنفسهم، و على جميع المستويات، و في جميع المجالات.
    3) العمل على بناء جبهة وطنية للنضال من اجل الديمقراطية بمساهمة المنظمات الجماهيرية و الحزبية الوطنية و الديمقراطية وفق برنامج حد أدنى تعمل الجبهة الوطنية للنضال من اجل الديمقراطية على تحقيقه في الأمد المتوسط من اجل ضمان عرقلة قيام الطبقة الحاكمة بالعمل على إنتاج نفس الهياكل القائمة. و لجعل الجماهير تلتف حول الجبهة و تعمل على قيامها بالعمل على تحقيق برنامج الحد الأدنى الذي يقضي بتحقق الديمقراطية من الشعب و إلى الشعب، و بمضمون اقتصادي و اجتماعي و ثقافي و مدني و سياسي حتى تمتلك الجماهير المعنية وعيها الديمقراطي الذي يمكن اعتباره جزءا لا يتجزأ من الوعي الطبقي الحقيقي الذي يعتبر شرطا لضمان أية حركة جماهيرية في الاتجاه الصحيح لعرقلة إعادة إنتاج نفس الهياكل الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و لإحداث تغيير عميق في نفس الوقت لصالح الكادحين.
    و الماركسية عندما تعتمد هذه الآليات ، فلأنها تسعى إلى :
    1) ضمان التعبئة المستمرة للكادحين المعنيين بالعمل الماركسي.
    2) بناء الأدوات التي تعتمدها الجماهير الشعبية الكادحة في تحقيق مكاسب لصالحها، و في حماية تلك المصالح، و في العمل على تغيير الواقع إلى الأحسن.
    3) تغيير الواقع بالعمل على إحداث تحول عميق في التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
    4) جعل المراحل اللاحقة نتيجة طبيعية للمراحل السابقة على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
    و بذلك نصل إلى خلاصة :
    1) أن الواقع في نظر الماركسية لا يكون إلا متحولا باستمرار.
    2) أن علاقة الماركسية بالواقع لا تكون إلا سعيا لجعل تلك التحولات تغييرا لصالح الجماهير الشعبية الكادحة و طليعتها الطبقة العاملة.
    و بهذه النظرة، و هذه العلاقة تبتعد الماركسية عن أن تكون مجرد قوالب جاهزة كما يراد لها، و كما يسعى إلى ذلك المتمركسون الذين يحولون الماركسية إلى مجرد عقيدة لخدمة تطلعاتهم الطبقية البورجوازية الصغرى. كما كشفت عن ذلك مختلف الوقائع القائمة على جميع المستويات، وكما كشفت عن لجوء العديد من المتمركسين الى الحرص عن التعويض عن سنوات ممارسة التمركس في العديد من البلدان، و منها المغرب كمثال، سواء تعلق الأمر بلجنة التحكيم التي تم إنشاؤها في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، أو تعلق الأمر بإنشاء هيأة الإنصاف و المصالحة في بداية القرن الواحد و العشرين. هاتان الهيئتان اللتان عملتا على تقويم "نضال" المتمركسين و تقدير ما يستحق كل متمركس، لتصير الماركسية على يد هؤلاء وسيلة لتحقيق التطلعات الطبقية للبورجوازية الصغرى. و هو ما قد يعتبر نكسة آنية و مرحلية ستعرفها الماركسية على مستوى المغرب على الأقل. و لكن وجود من يرفض التعويض عن سنوات النضال الماركسي، و صمودهم يعتبر دعما للماركسية، و استمرارا في النضال الماركسي الذي يعتبر الوسيلة الممكنة لتطوير الواقع، و لتتطور الحركة الماركسية في نفس الوقت.
    فما هو واقع الدين ؟ و ما هو واقع الماركسية ؟ و هل يمكن أن تقوم علاقة الوحدة – التناقض- بين الدين و الماركسية ؟
    إننا بسعينا إلى الوقوف على حقيقة الدين سنجد أنفسنا مضطرين إلى التمييز بين مستويين :
    المستوى الأول : الدين كإفراز لواقع معين يقتضي العمل على إيجاد تفسير غيبي لما يجري في الواقع على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، نظرا للعجز العلمي الذي كان سائدا في العصور المتقدمة في القدم. و خاصة في عملية تحول التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية في المراحل الأولى من الانقسام الطبقي للمجتمع البشري.
    و حاجة الواقع إلى الدين جاءت نتيجة للحاجة إلى الإجابة على مستويين من الأسئلة.
    مستوى يتعلق بالقوة التي تجعل الطبقات المستغلة كذلك، و تجعل الطبقات التي يمارس عليها الاستغلال كذلك.
    مستوى إيجاد ما يجعل الجميع يطمئن و يقبل الواقع كما هو دون تبديل او تغيير.
    و هذان المستويان يكملان بعضهما البعض، و يحققان الانسجام بين المستغل و المستغل باعتبار العملية كلها لا يد للبشرية فيها.
    و المستوى الثاني : الدين كوسيلة لصياغة الواقع النفسي و الفكري، و الاقتصادي، و الاجتماعي، و الثقافي الأمر الذي يحول الدين إلى مجرد مجموعة من القوالب الجاهزة التي يعمل المتدينون على إدخال الواقع فيها، سواء تعلق الأمر بالمسلكية العامة، أو بالمسلكية الخاصة، و هو ما يصرف الناس عن الواقع، و يجعلهم في علاقاتهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية يحرصون على جعل مسلكياتهم الفردية و الجماعية وفق تلك القوالب.
    و الدين عندما يأتي كاستجابة لواقع معين، فإنه يتحول إلى عامل قوة تدفع في اتجاه جعل الناس المتدينين يستجيبون لحاجة التغيير التي يقتضيها ذلك الواقع اقتصاديا، و اجتماعيا، و ثقافيا و سياسيا. استرشادا بما جاء به ذلك الدين. و بالتالي، فإن الناس الملتفين حول الدين يبنون حضارتهم، و يعملون على تمثل القيم الدينية في حياتهم الفردية و الجماعية التي لا تلغي حاجة الأفراد و الجماعات عن المساهمة، و من خارج الدين في إغناء تلك القيم المادية و المعنوية. لأن الدين عندما يكون عامل قوة لا يصير قالبا جاهزا، بل يتخذ صفة المرونة لحاجته إلى الاستمرار من جهة، و لحاجته إلى العمل على الشيوع و الانتشار من جهة أخرى.
    أما عندما يصير وسيلة لصياغة الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي فإنه يفقد صفة المرونة، لأن المشرفين عليه لم يعودوا في حاجة إليها، و يتحول إلى مجموعة من القوالب الجاهزة التي تدخل الناس في عملية التفكير في الحياة اليومية، و ما مدى تعمد الناس في جعل تلك الحياة قادرة على جعل الناس يقيدون مسلكياتهم الفردية و الجماعية وفق ما تقتضيه تلك القوالب الدينية الجاهزة كما حددها و صنفها المشرفون على الأمور الدينية الذين يسميهم البعض برجال الدين و يسميهم البعض الآخر بالكهنة، و بالرهبانيين، و نسميهم نحن بالمتنبئين الجدد الذين يصير الدين على يدهم جامدا لا يتطور و لا يتحرك، و لا يستفيد من الواقع و لا يسمح بتطور، أي فاقدا للمرونة اللازمة لتفاعل الدين مع الواقع، مما يحوله إلى عامل من عوامل التخلف الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. فتتكلف البشرية بسبب ذلك الجمود الكثير من الكوارث التي تجعلها في عاجزة عن فهم ما يجري فيما حولها، و منشغلة بعملية نمذجة الأفراد و الجماعات و قولبة مسلكياتهم التي لا يمكن تصنيفها إلا في إطار الاستنساخ المشوه لماضي دين معين.
    و نظرا لتعود الناس على نمذجة مسلكياتهم الفردية و الجماعية و سعيا لتوظيف ذلك التحول، و استغلاله في أمور أخرى بعيدة عن الدين فقد لجأت فئات معينة من المجتمع و منذ مقتل عثمان بن عفان إلى تحويل الدين إلى ممارسة إيديولوجية و سياسية معتمدة في التعبير عن المصالح الطبقية للجهة الموظفة من جهة، و وسيلة لتكريس السلطة القائمة أو دعمها. أو العمل على الوصول إلى السلطة و في جميع الحالات. فالدولة التي تستند إلى ادلجة الدين أو الدولة المؤدلجة للدين لا تكون إلا استبدادية، و تاريخ العرب و المسلمين هو تاريخ الدول المستندة إلى ادلجة الدين، أو الدول المؤدلجة للدين، و التي استبدت و لقرون طويلة بالعرب و المسلمين هي دول مستبدة، و حتى تغطي على استبدادها كانت تسمي نفسها دولا إسلامية. و هذه الدول الإسلامية تدعي أن حكمها باسم الله، و ما تقوم به من نهب لثروات المسلمين و العرب يكون باسم الله. و هذا المذهب المؤدلج للدين في الحكم هو الذي يسمونه ب"الدولة الإسلامية" التي تصير في حكمها على مذهب بني أمية الذين قال أحد قادتهم، زياد بن ابيه " إننا نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، و نذوذ عنكم بفيئه الذي خولنا" و هو أمر يحتاج منا إلى نقاش فلسفي و فكري عميق و شجاع، من اجل الكشف عن أحابيل مؤدلجي الدين الذين يلوثون الدين بالادلجة و يجعلونه غير قادر على صيرورته مصدرا للقيم النبيلة التي تغذي مسلكيات الأفراد و الجماعات، بصيرورته مجرد أشكال من الطقوس و المظاهر و المسلكيات المتناسبة مع ادلجة معينة، أو مع مجموعة من الإيديولوجيات المعبرة عن مصالح طبقية معينة.
    و هذا الواقع الذي صار إليه الدين يقتضي منا الانكباب على إعادة النظر في الممارسة الدينية، و في الممارسة الإيديولوجية في نفس الوقت حتى يصير الدين مجرد مغذ للقيم النبيلة في المسلكيات الفردية و الجماعية و حتى يتخلص و بصفة نهائية من كل الممارسات الإيديولوجية التي يجب أن تجرم. لأن الدين عام و عموميته تقتضي صيرورته ملكا لجميع الناس الذين يختارون الإيمان به. أما الإيديولوجية القائمة على استغلال الدين فخاصة بصيرورتها تعبيرا عن المصالح الطبقية لممارسيها.
    و بإعادة النظر تلك يكون الدين وجها مشرقا للمومنين به، لأنه يرفع من قيمتهم و يجعلهم بعيدين عن كل الممارسات المسيئة للدين مما يجعله من جديد عامل وحدة و تعاون و تضامن و قوة للمومنين به، مهما كان جنسهم أو لغتهم أو لونهم أو طبقتهم الاجتماعية التي ينتمون إليها.
    أما واقع الماركسية فيرجع إلى ضرورة استحضار الشروط الموضوعية التي ظهرت فيها، و التي ارتبطت بمستوى معين من التطور الذي عرفته التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية مما أدى إلى ظهور الطبقة العاملة التي اقتضت إيديولوجية خاصة بها. فتصدى ماركس و انجلز إلى دراسة الواقع في أبعاده التاريخية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية من منطلق قوانين علمية محددة تم استخلاصها من القوانين العلمية الطبيعية باعتماد المنهج الدياليكتيكي. فكانت القراءة الماركسية للتاريخ البشري و لمختلف التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي عرفها و لواقع المجتمع الرأسمالي، وصولا إلى كشف التناقضات التي يقوم عليها، و ماذا يجب عمله للوصول إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي تعتبر مرحلة ما قبل تحقيق الاشتراكية كمرحلة أسمى من المرحلة الرأسمالية.
    و الماركسية لم تسلم من التحريف الذي تعرضت له على يد الكثير من المحرفين، بعد ظهور الماركسية مباشرة و في كل مناطق العالم من اجل جعل الماركسية و المنهج الماركسي وسيلة لتحقيق التطلعات الطبقية للبورجوازية الصغرى، و قد تصدى لينين في أيامه للكثير من التحريفات التي استهدفت الماركسية و المنهج الماركسي بالخصوص.
    و قد ساهمت الماركسية في شروط معينة بتمكن الطبقة العاملة و حلفائها الطبقيين الى القيام بالكثير من الثورات الهائلة التي حققت الكثير من المكاسب للشعوب المقهورة و غيرت موازين القوى لصالح الكادحين و طليعتها الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم.
    و نظرا لكون الماركسية كذلك، فقد تمت مواجهتها من قبل التحالف البورجوازي الإقطاعي على المستوى العالمي و في كل القارات، الأمر الذي يعني أن علاقة الماركسية مع ادلجة الدين، هي علاقة تناقض منهجي، و إيديولوجي، و سياسي، و تنظيمي. و هذه العلاقة لا يمكن تجاوزها إلا بقيام الماركسية بالعمل على نفي ادلجة الدين، و إثبات الدين كمقوم من مقومات الشعوب حتى تتفرغ لاعداد الجماهير الشعبية الكادحة و طليعتها الطبقة العاملة لخوض الصراع المادي و المعنوي و الإيديولوجي و التنظيمي و السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي من اجل فرض إرادة الكادحين في تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية في أفق تحقيق الاشتراكية.
    و مع التحولات التي صار يعرفها العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، و بعد هذا التراجع المهول الذي عرفته الأحزاب الماركسية، و هذا العجز الذي صار يلاحظ على المنهج العلمي الماركسي. يصير من الضروري قيام الحركة الماركسية بإعادة النظر في المنهج الماركسي، و في المقولات الماركسية، لا من اجل نقض المنهج الماركسي ، و لا من اجل الإعلان عن إفلاسه كما يسعى إلى ذلك مؤدلجوا الدين الذين ينشغلون كثيرا بقوة المنهج الماركسي و بقدرته على تفكيك مختلف الظواهر و يسعون باستمرار إلى محاصرته و الوصول به إلى الإفلاس، بل من اجل تطويره و جعله قادرا على الاستفادة من مختلف التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و المعرفية، و العلمية، و المنهجية، و الفكرية، و التقنية. و حتى تمتلك القدرة على التحليل الملموس للواقع الملموس الذي يحتاج إلى عمق في التحليل و في التفكير من اجل الوصول إلى معرفة القوانين الجديدة التي تحكم تحولاته المختلفة, لتصير الماركسية بذلك معولمة، و تصير الحركة الماركسية قادرة على قيادة عولمة المقاومة، ثم المواجهة، ثم الهجوم على الرأسمالية في صغتها المعولمة التي لم تعد تقتضي المواجهة المحدودة في الزمان و المكان كما حدث خلال القرن العشرين. بل لابد أن تعمل الحركة الماركسية على تنظيم نفسها على المستوى العالمي، و ان يكون النضال الماركسي المحلي موجها، و مرتبطا بالنضال العالمي حتى تستطيع الحركة الماركسية زحزحة النظام الرأسمالي العالمي و بآليات جديدة تتناسب مع عولمة اقتصاد السوق، و مع حاجة الكادحين الى مقاومة هذه العولمة لما تشكله من خطورة على مستقبلهم.
    و بذلك تبقى الماركسية هي المشروع الإنساني الذي لابد من اعتماده لتحقيق إنسانية الإنسان القاضية بحقه في تقرير مصيره الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بنفسه، كما تقضي بذلك المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. و كما تقضي بذلك قوانين الصراع الطبقي في نفس الوقت، سواء تعلق الأمر بالمستوى المحلي، أو تعلق بالمستوى العالمي.
    و العلاقة بين الدين و الماركسية، و انطلاقا من المنظور الجديد الذي ندعو اليه من خلال هذه المعالجة، و من قبل في معالجات أخرى سابقة. و خاصة في كتيب صدر تحت عنوان : "الإسلام/الماركسية: علاقة الالتقاء و الاختلاف". يجب أن تقوم على أساس الالتقاء و الاختلاف، التقاء الدين بالماركسية في مد الإنسان بالقيم النبيلة التي تحقق إنسانيته، و تجعله يحقق كرامته و يسعى إلى تقرير مصيره بنفسه على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
    فإنسانية الإنسان في الدين تتحقق بحفظ كرامته انطلاقا من القيم التي يبثها الدين بين الناس، مما يجعلهم يقدرون بعضهم البعض إرضاء لله، و إيمانا بشريعته، و سعيا إلى جعل تلك الشريعة قائمة على ارض الواقع في كل تجلياته. أما إنسانيته في الماركسية فتتحقق من خلال جعله يمتلك وعيه الطبقي الذي يجعله يسعى من خلال انخراطه في المنظمات الجماهيرية و في الحركة الماركسية إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي هي قوام تحقيق كرامة الإنسان. خاصة و أن النضال من اجل ذلك، و انتزاعه، و جعل المجتمع يتمتع به هو القيمة الأساسية و الوحيدة التي تنهجها الماركسية وبكثافة.
    و الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق كرامته هو إنسان مثالي متطور، قد يتحقق على ارض الواقع، و قد لا يتحقق أبدا. فتحقق كرامة الإنسان المثالي إذا لم تتحقق في الحياة، فإنها ستتحقق بعد الممات إذا قام الإنسان في حياته الدنيا بما يؤدي إلى ذلك في الحياة الأخرى. بينما نجد أن الماركسية لا تنشد الإنسان المثالي، بقدر ما تسعى إلى الارتباط بالإنسان الواقعي الذي تعمل على جعله يمتلك وعيه، و يسعى إلى تغيير الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تنتفي فيها كرامة الإنسان بشروط أخرى تتحقق فيها تلك الكرمة.
    فكرامة الإنسان إذن هدف ديني، و ماركسي في نفس الوقت، رغم اختلاف طبيعة الإنسان الديني الذي لا يكون إلا مثاليا عن الإنسان الماركسي الذي لا يكون إلا واقعيا. ففي الإنسان إذن تتحقق الوحدة الدينية الماركسية، و من تصور الإنسان يبدأ التناقض الذي يمتد إلى :
    1) التناقض بين المنهج المثالي الديني و المنهج المادي الماركسي.
    فالمنهج المثالي الديني ينطلق من النصوص الدينية التي توحي بطريقة العمل من اجل تحقيق الإشعاع الديني المساعد على انتشار القيم الدينية المحققة لكرامة الإنسان كما يتصورها الدين الذي يومن به شعب معين.
    أما المنهج الماركسي فينطلق من الواقع العيني موظفا قوانين التحليل العلمي المعروفة، و مقولاته لتحقيق أهداف محددة مع ضرورة استحضار خصوصيات الواقع المستهدف بالتحليل أو بالتغيير بالنسبة للحركة الماركسية التي تسعى إلى تغيير واقع معين.
    و هذا التناقض يرجع بالأساس إلى طبيعة المنهج الديني و المنهج الماركسي، و أسلوب كل منهما و الأهداف التي يسعى كل منهج إلى تحقيقها.
    2) الرؤيا الدينية للواقع و الرؤيا الماركسية له، فالرؤيا الدينية تتحدد في اعتبار أن ما يجري في الواقع صغر شأنه أو كبر هو قضاء و قدر، و القضاء و القدر من إرادة الله، و إرادة الله هي التي تتحكم في كل شيء، بما في ذلك الإيمان بالدين أو عدمه. و قد يتطور هذا التصور ليصير كل ما هو حسن من عند الله، و ما هو سيء من عند البشر كما جاء في القرءان " ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك" و لكن مع ذلك فقد ورد في القرءان أيضا " قل كل من عند الله". أي أن صياغة واقع الكون و واقع البشرية هي صياغة إلهية، أي قضاء و قدرا. و بالتالي فالتفاوت الطبقي القائم على استغلال الإنسان للإنسان هو من عند الله حيث جاء في القرءان " و الله فضل بعضكم على بعض في الرزق". أما الرؤيا الماركسية فتقوم على أساس أن الكون كله قائم على صراع المتناقضات القائمة في الواقع، و أن إفراز أية ظاهرة، لابد أن ينفرز معها نقضيها، و أن الصراع بين المتناقضات في الطبيعة هو الذي يؤدي إلى تطور الطبيعة نفسها، و انتقالها من وضعية إلى وضعية أخرى، و أن وجود المجتمع قائم على الصراع الطبقي بين الطبقات الاجتماعية المتناقضة. و أن هذا الصراع إن تم اكتشاف قوانينه،فإن التحكم في تلك القوانين يتم من اجل توجيه الصراع في اتجاه إفراز واقع جديد يتجسد في الانتقال إلى التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية الأعلى التي ليست إلا التشكيلة الاشتراكية.
    3) اختلاف الأهداف الدينية عن الأهداف الماركسية. فالأهداف الدينية تتحدد في شيوع الدين بين الناس و في انتشار القيم الدينية. و تمكن الإيمان من القلوب و ارتباط الناس بالدين، و بالمؤسسة الدينية و إقامة الشعائر التي تخص ذلك الدين سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو إسلاميا، ما لم يتأدلج. لأن الادلجة لا يمكن أن تكون دينا لسبب واحد هو أنها إيديولوجية تعتمد الدين مصدرا للتعبير عن مصالح طبقة معينة للطبقة المؤدلجة للدين، سواء كانت حاكمة، أو داعمة للطبقة الحاكمة أو ساعية إلى الوصول إلى السلطة لفرض استبداد بديل بالمجتمع. أما الأهداف الماركسية فتتحدد بالخصوص في جعل الطبقة العاملة و سائر الكادحين يمتلكون وعيهم الطبقي الذي يجعلهم ينخرطون في النضال الجماهيري، و النضال السياسي من اجل القضاء على أسباب الاستغلال المادي و المعنوي، و تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية في أفق الوصول إلى تحقيق الاشتراكية التي تعتبر كذلك هدفا استراتيجيا بالنسبة للماركسية. و العمل على إقامة الدولة الديمقراطية التي تصير بيد الطبقة العاملة، و تعمل على خدمة مصالح الجماهير الشعبية الكادحة، و العمل على حماية تلك المصالح.
    و أهداف الماركسية لا تسعى إلى عرقلة تحقيق الأهداف الدينية، و لا تعمل على نفيها ما لم تتحول تلك الأهداف إلى أهداف إيديولوجية. فإذا صارت كذلك عملت الماركسية على عرقلة تحقيقها، ثم نفيها، و عملية العرقلة و النفي مهمتان ماركسيتان بامتياز، حتى لا تصير ادلجة الدين وسيلة لتضليل الكادحين، و العمل على عدم امتلاكهم لوعيهم الطبقي حتى يعتبروا ممارسة الاستغلال عليهم من قبل مؤدلجي الدين قضاء و قدرا.
    و بعد وقوفنا على مظاهر الوحدة و التناقض بين الدين و الماركسية، نجد أنفسنا مضطرين لطرح السؤال : هل يمكن للرؤية الماركسية للواقع أن تنفي الرؤية الدينية ؟
    و كما رأينا من خلال الفقرات السابقة فإن الدين يبقى مقوما من مقومات الشعوب باعثا للقيم الموحدة لها على المستوى الروحي التي لا تزول إلا بانغراس قيم بديلة.يقوم بنفس الدور الذي تقوم به القيم البديلة. و ما دامت هذه القيم البديلة لا تكون إلا قيما ماركسية، و ما دامت الماركسية مستهدفة بالتحريف، و ما دامت القيم التي تنتجها الماركسية محرفة. و تستهدف نفي القيم الدينية نفيا غير علمي، وما دامت تدخل في إطار الهجوم من أجل مصادرة القيم الدينية ، فإن القيم الدينية تبقى مستعصية على الاختراق لأنها تدخل في إطار البناء النفسي و الاجتماعي و الفكري و الوجداني و المسلكي لشعب من الشعوب، لأن الماركسية باعتبارها منهجا علميا، لا يمكن أن تتجنب استحضار خاصية الدين كمقوم من مقومات الشعوب لأن عدم الاستحضار ذلك يجعل المنهج الماركسي العلمي غير علمي. و بالتالي، فإن اختراق الدين و القيم الدينية يصير من باب المستحيلات، ولا يمكن استعادة الماركسية و المنهج الماركسي لقدرته على التعامل مع الدين تعاملا علميا دقيقا حتى يصير قادرا على جعل الشعوب تتقبل التعامل مع الماركسية، وتزول الحساسية التي تراكمت لدى المتدينين عبر السنين ضد الماركسية. و المنهج الماركسي، و الحركة الماركسية، لأن زوال الحساسية تلك، تقتضي إعادة النظر في الممارسة الماركسية التحريفية تجاه الدين من اجل إعادة الاعتبار للماركسية تجاه الدين باعتباره جزءا من الواقع المستهدف بالتحليل الماركسي و مكونا من مكوناته.
    إلا أن المنهج الماركسي الذي عليه أن يستحضر كون الدين من خاصيات الواقع المستهدف بالتحليل الماركسي، عليه أن يدخل في اعتباره ضرورة التمييز بين الدين، و بين ادلجة الدين، لأن جعل الدين و ادلجة الدين شيئا واحدا يعتبر خلطا فادحا و ممارسة غير علمية، و لا يمكن أبدا أن ننسبها إلى الماركسية، و إلى المنهج الماركسي، لأن الماركسية الحقيقية ، و المنهج الماركسي العلمي يجد نفسه مضطرا إلى ضرورة التمييز بين الدين كمقوم من مقومات الشعوب و بين ادلجة الدين كتعبير عن مصالح طبقية معينة. فالتعبير عن المصالح الطبقية ليس هو الدين، و الدين لا يمكن أن يتحول إلى التعبير عن المصالح الطبقية، الدين للناس كافة، و ادلجة الدين للطبقة الممارسة للادلجة الدينية. و هذا الفرق الذي يرتفع إلى درجة التناقض يجب استحضاره، حتى لا تتحول الماركسية إلى مجرد عدوة للشعوب.و حتى لا تتحول ادلجة الدين إلى دين فعلي . و بهذا التمييز العملي، و العلمي، و بالمصطلح الذي اقترحناه في غير ما مكان من كتاباتنا "ادلجة الدين" تستطيع الماركسية و المنهج الماركسي و الحركة الماركسية أن تتعامل مع الدين تعاملا مختلفا. فتحترم الدين باعتباره مقوما من مقومات الشعوب، و تدخل في صراع مع ادلجة الدين باعتبارها تعبيرا عن المصالح الطبقية القائمة على استغلال الدين، كامتداد للصراع الطبقي الذي تسعى الماركسية إلى جعل الطبقة العاملة و حلفائها يقدمون على خوضه بامتلاكهم للوعي الطبقي الحقيقي لكون الصراع الطبقي يتخذ أبعادا إيديولوجية و سياسية و تنظيمية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و فكرية و نفسية، من اجل الوصول إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية في أفق تحقيق الاشتراكية بتحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية.
    و لذلك فالصراع ضد أدلجة الدين هو صراع تاريخي و واقعي قائم على الأرض، و بناء على ذلك، فهو صراع مشروع، صراع طبقة تعاني من الاستغلال المادي و المعنوي ضد مستغليها المؤدلجين للدين، و ضد من يسعى إلى استغلالها مستقبلا عن طريق ممارسة ادلجة للدين. أما الصراع ضد الدين فهو صراع غير وارد، لأن الطبقة العاملة و حلفاءها، لا يمكن أن يصارعوا أنفسهم باعتبارهم حاملين لذلك الدين، و باعتبارهم غالبية الشعب الذي يعتبر الدين من مقومات وجوده.
    و انطلاقا مما رأينا، فإن المنهج الماركسي لا ينفي الدين بقدر ما يعتمده كمقوم من مقومات الشعوب التي تصير قوة مادية من الضروري استثمارها لجعل مجموع أفراد الشعب يتقبلون المنهج الماركسي و لكنه يعمل في نفس الوقت على نفي ادلجة الدين التي تعمل على تضليل الكادحين، و جعلهم يقومون الماركسية و المنهج الماركسي، و الحركة الماركسية، و يقيمون بواسطة تلك الادلجة الدينية سدا منيعا ضد امتلاك الشعب الكادح للوعي الطبقي الحقيقي الذي يؤهلهم للانخراط في الصراع الطبقي الحقيقي. فنفي الدين إذا غير وارد في المنهج الماركسي، و عند الماركسيين و في الحركة الماركسية. إلا إذا انحرفت الماركسية عن علميتها، و مارست الخلط بين الدين و ادلجة الدين، و جعلت الماركسية عدوة الشعوب، و للكادحين المعتنقين للدين، بدل أن يتجسد فيها العداء للمستغلين للشعوب.
    و إذا كانت الماركسية لا تنفي الدين، و تعمل على التمييز بينه و بين ادلجة الدين، فهل يمكن للدين أن ينفي الماركسية ؟
    و كما أشرنا إلى ذلك في الفقرات السابقة من هذه المعالجة الفكرية و النظرية لعلاقة الدين بالماركسية، فإن جميع النصوص الدينية ظهرت في مرحلة تاريخية متقدمة كثيرا على ظهور الماركسية، و أن أي نص من هذه النصوص لم يتطرق إلى إمكانية ظهور الماركسية، و أن هذه الإمكانية غير واردة لسبب واحد، هو أن الماركسية بنت الواقع، و أنها ليست وحيا من السماء. و ما دام الأمر كذلك فإن معرفة الدين بالماركسية غير واردة، و أن عمل الدين على نفي الماركسية غير وارد. و أن تاريخ المتدينين لم يسبق أن تم فيه الحديث عن الماركسية، و لا عن أي مذهب اقتصادي و اجتماعي و ثقافي و سياسي، ظهر بعد توقف ظهور الديانات القائمة على نزول الوحي من السماء، أي بعد ظهور الإسلام، و انتهاء الوحي بالقرءان بنزول آخر آية "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا" لأن ما ظهر بعد الإسلام هو من إفراز الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. أي واقع الصراع الطبقي الذي هو صراع على الأرض، لأن الصراع القائم في الواقع هو صراع قائم على الأرض، و ليس صراعا بين السماء و الأرض، و الدين ليس من مصلحته أن يقوم صراع بين السماء و الأرض، و الصراع القائم بين السماء و الأرض ليس صراعا بين البشر. و ما ورد من صراع في النصوص الدينية يهدف إلى نفي الدين القائم على التعدد، و إثبات الدين القائم على التوحد لتجنيب الدين أن يكون سببا في الصراع بين بني البشر، و ما عرفه ظهور الإسلام من صراع بين المسلمين وغيرهم. إنما كان من اجل توحيد العقيدة، لاثبات أن الدين يجب أن يبقى بعيدا عن الصراع الذي يتخذ أبعادا أخرى، اقتصادية و اجتماعية ، و ثقافية و سياسية. و ما يمكن اعتباره صراعا دينيا-دينيا بين المسلمين بعد موت الرسول، إنما هو ناتج عن البوادر الأولى لادلجة الدين الإسلامي، لأن من تعود على استغلال المعتقدات الوثنية لخدمة المصالح الطبقية لا يمكن أن يتجرد ، وهكذا ، وبطريقة تلقائية ، من استغلال الدين الاسلامي لخدمة المصالح الطبقية التي تقتضي الوصول إلى امتلاك السلطة من اجل خدمة تلك المصالح.
    و لذلك كانت ادلجة الدين هي التي حكمت صراع المتدينين فيما بينهم كالصراع القائم بين الخوارج و شيعة علي ثم بين شيعة علي و شيعة بني أمية، ثم بين بني أمية و بني الزبير. إنما هو صراع طبقي في عمقه، تسعى من خلاله كل طبقة إلى اعتبار نفسها أنها الأحق بالسلطة لخدمة مصالحها بدعوى خدمة الدين و خدمة المتدينين و حمايتهم. و صراع من هذا النوع هو إفراز للواقع، و إفراز للتطور الذي يعرفه الواقع المترتب عن وحدة الدين الذي صار الجميع يعمل على ادلجته بحسب ما تقتضيه المصلحة الطبقية لكل طبقة. و من ذلك الوقت و نحن نجد أن كل من يصل إلى السلطة، صار يحكم و يمارس استغلال المحكومين إنما يكون قد مارس ادلجة الدين لأجل ذلك. لأن الطبقات الاجتماعية التي كانت سائدة في مختلف العصور لا تملك القدرة على إنتاج إيديولوجيتها, لذلك كانت تمارس ادلجة الدين كوسيلة لخدمة مصالحها، و لحماية تلك المصالح و هو أمر لا نستطيع نكران قيام الطبقات الاجتماعية به من اجل الوصول إلى السلطة لتحقيق أهدافها الطبقية.
    و هؤلاء المتدينون الذين تعودوا على ادلجة الدين لا يمكن أن يتخلوا هكذا عن هذه الادلجة و يكرسوا إحياء الدين. و لذلك نجد أنهم يقحمون الدين في أي صراع اقتصادي، و اجتماعي و ثقافي و مدني و سياسي، و يوظفونه لاقصاء كل ما لا يخدم مصالحهم الطبقية.
    و بما أن الماركسية كمنهج علمي و كأيديولوجية للطبقة العاملة لا تخدم المصالح الطبقية للمتدينين المؤدلجين للدين، فإننا نجد أنهم يوظفون الدين لإقصائها بكل الوسائل الإيديولوجية و السياسية و التنظيمية، و يعملون، و هم لذلك لا يواجهون الماركسية بصفتهم يحمون الدين من الهجوم الماركسي، و من الإلحاد و الملحدين، ليحولوا الصراع بذلك من صراع بين الإيمان و الإلحاد، بين الإيمان و الكفر، الذي يتمظهر في الصراع بين الدين و الماركسية، أي صراعا بين الدين الذي جاء من السماء و آمن به البشر، و اقتنعوا به، و بين الماركسية التي افرزها الصراع الطبقي في القرن التاسع عشر بعد أن سارت الطبقة العاملة تعاني من بشاعة الاستغلال المادي و المعنوي مما لفت انتباه ماركس و انجلز، و انكبا على دراسة الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي في بعديه التاريخي و الواقعي. بالإضافة إلى البعد الإنساني، مما أدى إلى قيام النظرية الماركسية للواقع، التي ليست إلا نظرية علمية عامة للواقع العام التي يمكن أن تصلح لدراسة و تحليل أي واقع خاص، من اجل الوصول إلى امتلاك نظرية عنه يمكن اعتمادها في النضال العمالي للطبقة العاملة و حلفائها الطبقيين. و مؤدلجو الدين عندما يعتبرون صراعهم ضد الماركسية هو صراع بين الدين و الماركسية، إنما هو ممارسة تضليلية تهدف إلى جعل الدين نقيضا للماركسية، و جعل الماركسية نقيضا للدين. و الواقع أن ادلجة الدين هي النقيضة للماركسية، و هي التي نسعى إلى نفيها حتى لا نحمل الدين ما لا يتحمل و حتى لا يقحم الدين في الصراع بين الطبقات، بين الطبقة المؤدلجة للدين، أنى كان هذا الدين، و بين الطبقة العاملة المستهدفة بأدلجة الدين، من اجل تضليلها، و تأبيد استغلالها تحت طائلة ذلك التضليل، و تجييش جميع أفراد المجتمع باسم الدين حتى يقفوا جميعا ضد إيديولوجية الطبقة العاملة.
    و لذلك نجد أن الدين لا يسعى إلى نفي الماركسية بقدر ما يسعى مؤدلجو الدين إلى ذلك لأدراك خطورة الماركسية على ادلجتهم للدين، أي على مستقبل مصالحهم الطبقية.
    فما العمل من اجل علاقة متوازنة بين الدين و الماركسية ؟
    و انطلاقا من أن الماركسية لا يمكنها نفي الدين، و أن الدين لا يمكنه نفي الماركسية، فإن الدين و الماركسية في حاجة إلى منظور جديد للعلاقة من اجل تجاوز العداء المفتعل بين الدين و الماركسية. و لذلك نرى ضرورة إقامة علاقة متوازنة بين الدين و الماركسية على أساس الوضوح، و الاحترام المتبادل، خاصة و أننا في مرحلة يتحول فيها الدين و الماركسية معا إلى مصدرين للإرهاب في نظر الرأسمالية العالمية القائدة لعولمة اقتصاد السوق. و هذه العلاقة تقوم على :
    1) تكريس الاحترام المتبادل بين الدين و الماركسية عن طريق تجنب توظيف الدين لمحاربة الماركسية و المنهج الماركسي، و الحركة الماركسية عن طريق تجنب الاستغلال الإيديولوجي و السياسي للدين. و في نفس الوقت تمسك الماركسية عن العمل على نفي الدين، و الدخول في صراع معه باعتباره مقوما من مقومات الشعوب، و باعتباره مصدرا للقيم النبيلة الموجهة لمسلكيات الأفراد و الجماعات و التمييز بينه و بين ادلجة الدين أثناء التعامل مع واقع معين. لأن الدين شيء، و ادلجة الدين شيء آخر. فالدين يجب أن يحترم، أما ادلجة الدين فموضوع المواجهة الإيديولوجية.
    2) التعامل مع الدين كمصدر لانتاج القيم النبيلة التي يحتاج إليها الناس لجعل مسلكياتهم بعيدة عن إنتاج الممارسات المسيئة إلى كرامة الإنسان، لأن اعتبار الدين مصدرا للقيم النبيلة يجنبه الوقوع في الأمور التي تتنافى مع تلك الكرامة ، حتى لا يصير دينا مؤلجا، و حتى لا تصير تلك الادلجة وسيلة لإهانة كرامة الناس، و الاستبداد بهم على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
    3) اعتبار الماركسية منهجا علميا لتحليل الواقع، كباقي المناهج الأخرى التي يتم توظيفها لتحليل نفس الواقع و التعامل معه، و اعتبار أن من حق الطبقة العاملة أن تختار الماركسية إيديولوجية لها كما تختار أية طبقة أخرى إيديولوجيتها. و هذا الاختيار يرتبط بكون التحليل الماركسي للواقع يوضح الطريق الذي يجب أن تسلكه الطبقة العاملة لإزالة الحيف الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، الذي يلاحقها بسبب الاستغلال الهمجي الذي تعرضت له، و تتعرض له باستمرار من قبل البورجوازية.
    4) الحرص على بناء المجتمع الحر و الديمقراطي و العادل لأن مجتمعا كهذا تتكافأ فيه الفرص، بين الأفراد، و بين الإيديولوجيات، و بين المعتقدات لقطع الطريق أمام إمكانية الاستبداد بالمجتمع و لجعل الصراع القائم بين الطبقات بعيدا عن تحريف المعتقدات الدينية التي يومن بها الناس في المجتمع. و لجعل الناس يتجنبون في صراعهم كل أشكال العنف التي قد تسيء إلى كرامة الإنسان. و يعملون على تحقيق إرادتهم بالطرق الديمقراطية المتعارف عليها على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
    و أي مجتمع لا يكون حرا إلا بالقضاء على الاستبداد بكل الناس، و يجعلهم غير قادرين على الاختيار الحر و النزيه و ملزمين بما يريده المستبد، و محرومين من حقوقهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و خاضعين لشظف العيش الذي يفرض عليهم.
    و أي مجتمع لا يكون ديمقراطيا إذا لم يقرر مصيره بنفسه، و يختار الدستور الذي يريده و يعمل بناء عليه على إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية تعكس إرادة ناخبيه، و أن تقوم تلك المؤسسات بخدمة مصالحه، و أن تعمل على إيجاد تشريعات متلائمة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
    و أي مجتمع لا يكون عادلا إذا لم يتم فيه تكافؤ الفرص بين أفراده، و بين جميع مكوناته و في جميع المجالات و جميع مناحي الحياة، حتى يكون العدل المتحقق وسيلة للمنافسة الشريفة التي تؤدي إلى تحقيق التطور المطلوب، و إلى تغيير التشكيلة الاقتصادية و الاجتماعية بطرق أخرى تفرض على الطبقات الاجتماعية قبول ما تؤول إليه بفعل الصراع الديمقراطي النبيل، و بجعل التطور الذي تتم عرقلته ليعرف التحقق الطبيعي.
    و بذلك يمكن إنضاج شروط قيام علاقة متوازنة بين الدين الذي يبقى بعيدا عن الصراع الدائر في المجتمع و بين الماركسية التي تبقى وسيلة لتحليل ذلك الواقع تحليلا علميا يساعد على فهم ما يجب عمله للتعامل مع الواقع تعاملا علميا يرسم الخطوات التي يجب السير عليها لإحداث التطور اللازم الذي تقتضيه حياة الكادحين و طليعتهم الطبقة العاملة.
    و إذا كانت العلاقة المتوازنة هي السبيل إلى تحقيق التطور اللازم لمصلحة البشرية. فمن المسؤول عن اختلال التوازن لصالح الدين على حساب الماركسية، أو لصالح الماركسية على حساب الدين ؟
    إن بحثنا في الواقع عن أسباب اختلال التوازن لصالح الدين أو لصالح الماركسية سنجد أن ذلك الاختلال ناجم عن التحريف الذي يلحق الدين أو يلحق الماركسية. فالتحريف الذي يلحق الدين، و الذي يختلف من دين إلى دين آخر، و من عصر إلى عصر آخر، و من بلد إلى بلد آخر، و من مؤدلج لمؤدلج آخر. لأن ادلجة الدين ناتجة عن التأويل الذي تقف وراءه مصلحة معينة حتى يصير الدين في خدمة الطبقة المؤدلجة للدين. أما التحريف الذي يلحق الماركسية فسببه تحويل الماركسية إلى عقيدة من اجل جعلها في خدمة مصالح الطبقية المحولة للماركسية إلى عقيدة. فإخراج الدين من العقيدة، و إقحامه في مجال الإيديولوجية، و إخراج الماركسية في مجال العلم و الإيديولوجية، و إقحامها في مجال العقيدة لابد أن يحول كل منهما إلى نقيض للآخر. لأن الدين المؤدلج تعبير عن التطرف اليميني، و لأن صيرورة الماركسية عقيدة تعبيرية عن التطرف اليساري. فالتطرف اليميني يسعى باستمرار إلى التخلص من التطرف اليساري و العكس صحيح، و كل من اليمين المتطرف، و اليسار المتطرف لا يقتنع لا بالحرية، و لا بالديمقراطية، و لا بالعدالة الاجتماعية. و لذلك نجد أن المسؤول عن اختلال التوازن هو التطرف اليميني المؤدلج للدين أو التطرف اليساري المحول الماركسية إلى عقيدة، و سواء تعلق الأمر بالتطرف اليميني أو اليساري، فإن العنف، و العنف المضاد هو الوارد. لذلك لا يمكن الحديث عن شيء اسمه الحرية أو الديمقراطية، أو العدالة الاجتماعية. و الحاضر في الممارسة اليومية هو المصلحة الطبقية للمتطرفين اليمينين أو اليساريين. فإذا انساق الناس وراء التطرف اليميني كان اختلال ميزان القوى لصالح الدين المؤدلج و المحرف. و تم تجييش الناس وراء المتطرفين ضد الماركسية و المنهج الماركسي، و ضد الماركسيين من اجل أن يعمل اليمين المتطرف على الاستبداد بالمجتمع الذي يصير في خدمة المصالح الطبقية للمتطرفين و في خدمة تلك المصالح. أما إذا انساق الناس وراء المتطرفين اليساريين فإن اختلال الميزان يكون لصالح الماركسية المحرفة، و التي صارت عقيدة، و تم تبعا لذلك تجييش الاتباع و قيادتهم للتخلص من مؤدلجي الدين. فيجري الصراع غير المشروع الذي لا يكون صراعا طبقيا، و لا يؤدي أبدا إلى تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية، بقدر ما يؤدي إلى الاستبداد بالمجتمع و جعله يخدم المصالح الطبقية للمتطرفين اليساريين، و العمل على حماية تلك المصالح.
    و لذلك نجد أن الدين في حد ذاته ليس مسؤولا عن اختلال التوازن لصالح الدين، كما نجد ان الماركسية ليست مسؤولة عن اختلال التوازن لصالح الماركسية.
    و لاعادة التوازن بين الدين و الماركسية أو الحفاظ عليه نرى من الضروري تجنب قيام شروط قيام و انتشار و شيوع التطرف الديني، عن طريق المحافظة على الممارسة الديمقراطية و الحقوقية، و العمل على تحقيق الحرية و العدالة الاجتماعية حتى لا يجد الناس مبررا للوقوف إلى جانب المتطرفين اليمينيين العاملين على ادلجة الدين. كما نرى من الضروري تجنب التطرف اليساري بالمحافظة على الفهم الصحيح للماركسية، و المحافظة في نفس الوقت على التمتع بالحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية باعتبارها ضرورية لانتاج التعامل مع الواقع على أساس موضوعي يتيح إمكانية تفعيل المنهج العلمي الماركسي إلى جانب تفعيل المناهج الأخرى. و بذلك يصير التوازن قائما بين الدين و الماركسية و يصير التطور الطبيعي للواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي ساريا في الواقع بفعل العمل الدؤوب للحركة الماركسية و لغيرها من الحركات التي تحرص على بناء ممارسة ديمقراطية و تقدمية في اتجاه تطوير الواقع إلى الأحسن.
    و بتحديدنا لمسؤولية اختلال التوازن لصالح الدين او لصالح الماركسية. نجد أنفسنا أمام طرح السؤال : من المسؤول عن إعادة الاعتبار للعلاقة المتوازنة بين الدين و الماركسية ؟
    إن مسؤولية إعادة التوازن للعلاقة بين الدين و الماركسية هي مهمة الحريصين على سلامة الدين من الادلجة. و هؤلاء ليسوا هم الطبقة الحاكمة في البلدان ذات الأنظمة التابعة. لأن هذه الطبقة في كل بلد تحرص على ادلجة الدين لدور تلك الادلجة في تضليل الناس على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. لأن الطبقة الحاكمة تنسب كل ما تقوم به إلى الدين، و هي بذلك تصر على ادلجة الدين و تعطي الحق للأحزاب و للتيارات المختلفة، و للأشخاص من اجل العمل على ادلجة الدين بما يخدم مصالحها، و ليس مصالح الأحزاب و التيارات المؤدلجة للدين. لأن هذه الأحزاب و التيارات ليست لها مصلحة في تلك الادلجة. و لذلك، فإن مهمة المحافظة على سلامة الدين من الادلجة هي مهمة كل المومنين بدين معين، الحريصين على عدم إقحامه في الصراع الطبقي الدائر في المجتمع العاملين على قيام مجتمع خال من ادلجة الدين، الرافضين لكل أشكال التوظيف الإيديولوجي و السياسي التي يتعرض لها الدين من قبل جميع الطبقات و الفئات، و الأشخاص المؤدلجين للدين. و هي مهمة الأحزاب، و التيارات و الطبقات التي تحرص على إبعاد الدين من الصراع الدائر في المجتمع، و التي لها إيديولوجيات واضحة، تحكم ممارستها التنظيمية و السياسية، و توجه علاقتها و مسلكياتها، و تحدد ما يجب عمله للحفاظ على توجيه تحقيق الأهداف التي تسعى إليها. و هي مهمة الماركسيين المخلصين الذي يحرصون أن يكون النضال الطبقي سليما، و عاملا على تحقيق الأهداف النضالية الجماهيرية و السياسية بعيدا عن استغلال الدين و عن ادلجته حتى يبقى الوضوح هو السائد في المجتمع بين الناس من جهة، وبين الأحزاب و التيارات السياسية المختلفة من جهة أخرى . و لذلك فمهمة ابعاد الدين من الاستغلال الإيديولوجي و السياسي هي المجتمع ككل الذي يجب أن يحرص على أن تبقى مقوماته بعيدة عن الاستغلال الإيديولوجي و السياسي، و كيفما كانت هذه المقومات. لأن سلامتها من الادلجة هي التي تضمن وحدة الشعب، و هي التي تساهم في إعداده لمواجهة كل عوامل التمزق التي تقوم جهات خارجية أو داخلية بالعمل على إشاعتها بين أفراد المجتمع من اجل إيجاد المبررات التي تؤدي إلى استغلال مقوماته الدينية و اللغوية و العرقية و التاريخية و الطبيعية و الجنسية إيديولوجيا و سياسيا.
    و مهمة إعادة التوازن بين الدين و الماركسية هي أيضا مهمة الحريصين على سلامة الماركسية من التحول إلى عقيدة، لأنها حينذاك تصير مجرد قوالب جاهزة منتجة للتطرف اليساري الذي وقف و يقف وراء الكثير من المآسي التي عرفتها البشرية أثناء و بعد قيام الثورة الروسية. تلك المآسي الناتجة عن اعتبار الدين نقيضا للماركسية، و اعتبار الماركسية نقيضا للدين، و هو ما يتنافى مع حقيقة الدين الذي يجب أن يبقى محايدا تجاه الأفكار و التصورات الإيديولوجية و السياسية، حتى لا يقحم نفسه في أمور لا علاقة لها بالدين، و هو ما يتنافى مع حقيقة الماركسية التي يجب أن تكتفي باعتبار الدين مكونا من مكونات الواقع المستهدف بالتحليل. فالدين مهما كان و كيفما كان هو مجرد إيمان بعقيدة معينة، و هو بذلك يصير مجرد مكون من مكونات الواقع و الماركسية يجب أن تصير منهجا علميا للتحليل لا يلغي من حسابه خصوصية الواقع التي تتغير من مكان إلى مكان من جهة، و من زمن إلى زمن آخر من جهة أخرى. و إذا كان الدين يهدف إلى إنتاج القيم النبيلة الموجهة لمسلكيات الناس الفردية و الجماعية، فإن الماركسية تهدف إلى تغيير الواقع بما فيه مصلحة الكادحين الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و إذا كانت الأهداف تختلف و لا تتناقض، فإن التوازن الذي يجب أن يقوم بين الدين و الماركسية هو الإجابة الصريحة على هذا الخضم من الكلام المدخل بالتوازن بين الدين و الماركسية لصالح الماركسية التي ليست إلا تحويلا للماركسية إلى عقيدة. و هذه الإجابة يجب أن تستثمر لصالح البشرية التي ستعرف بذلك التوازن توقفا لادلجة الدين، و لتحويل الماركسية إلى عقيدة، حتى يأخذ الصراع الديمقراطي الطبقي طريقه الصحيح، و أن يختفي العنف بصفة نهائية، و أن يصير كل تغيير في الواقع رهينا بإرادة البشر أنفسهم، و حسب القناعة التي تترسخ عندهم.
    و بهذا التصور و الاستنتاج الذي قمنا ببنائه نكون قد وقفنا على أن النظرة الدينية للماركسية غير واردة، و أن ما هو وارد هو نظرة مؤدلجي الدين للماركسية التي تتناقض مع مصالحهم الطبقية. كما وقفنا على إمكانية قيام النظرة الماركسية إلى الدين باعتباره من مكونات الواقع التي يجب استحضارها في التحليل ، و النظرة الماركسية إلى مؤلجي الدين باعتبارهم موضوعا للصراع الإيديولوجي. و رأينا أن علاقة الدين بالماركسية غير واردة لكون النص الديني الأصلي لم يعرف شيئا اسمه الماركسية في حينه لحداثة الماركسية، و أن ادلجة الدين هي التي تنسج علاقة الصراع مع الماركسية. و رأينا أن الماركسية تقيم علاقتها بالدين على أساس اعتباره مكونا من مكونات الواقع المستهدف بالتحليل العلمي الماركسي. كما تقيم علاقة مع ادلجة الدين على أساس الصراع الإيديولوجي . و رأينا أن الدين بحكم تصوره للواقع يصير كلا، و أن الماركسية جزء من ذلك الكل و العكس صحيح بالنسبة للماركسية التي تعتبر أن النظرة الدينية للواقع تتلاءم مع كون الواقع ناتج عن إرادة الله. و أن النظرة الماركسية، تعتبر الواقع مجموعة من المكونات المتفاعلة فيما بينها، و المتغيرة باستمرار بفعل الصراع القائم بين متناقضاتها. و بينا بوضوح الفرق الواضح بين واقع الدين و واقع الماركسية، و واقع ادلجة الدين، و واقع تحويل الماركسية إلى عقيدة. و أثبتنا أن الماركسية لا تنفي الدين بقدر ما تنفي ادلجة الدين، و أن الرؤية الدينية لا تنفي الماركسية، و رأينا ما يجب عمله لاقامة علاقة متوازنة بين الدين و الماركسية و بينا من يتحمل المسؤولية في الإخلال بالتوازن بين الدين و الماركسية لصالح الدين، أو لصالح الماركسية. و من المسؤول عن إعادة الاعتبار للعلاقة المتوازنة بين الدين و الماركسية، وصولا إلى فك التناقض القائم بينهما، من اجل دين بلا ادلجة، و ماركسية بلا عقيدة.
الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *