جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة(4)



ميثم الجنابي


كل ما جرى ويجري في العالم الإسلامي على امتداد القرنين الأخيرين هي أشكال ومستويات مختلفة ومتباينة لظاهرة تاريخية
طبيعية لما ادعوه بالمركزية الإسلامية الجديدة. وان هذه المركزية هي تعبير تاريخي عابر وضروري، أي حلقة في سلسلة أو تاريخ المركزية الثقافية الإسلامية. أنها تعكس في تناقضها وديناميكيتها زمن القرن التاسع عشر – العشرين الميلادي، وتاريخ القرن الرابع عشر – الخامس عشر الهجري. ذلك يعني أن حقيقتها الباطنية تعبر عن تاريخ وعي الذات القومي والثقافي، أما صورتها الظاهرية فتعبر عن زمن القرن التاسع عشر – العشرين. وبما أن المقياس الزمني الظاهري هو مجرد قشور لا قيمة لها بالنسبة لتاريخ المركزية الثقافية، من هنا قيمة تتبع المسار التلقائي الذاتي القائم في تنشيط الظاهرة الإسلامية المعاصرة. وليس مصادفة، لهذا السبب، أن نقف أمام حالات عادية جدا من حيث طبيعتها وماهيتها ووظيفتها، لكنها حالما تمس "الإسلام" أو تنسب إليه، فأنها سرعان ما تتحول إلى "ظاهرة عالمية" مثيرة للجدل والمعارك على مستوى الإعلام والسياسة مثل قضية الموقف من "آيات شيطانية"، و"كاريكاتير محمد" وأمثالها، وعلى مستوى الفكر السياسي والتاريخي والفلسفي والثقافي مثل فكرة صراع الحضارات وأمثالها. كما يكتب عن الإسلام مقالات وأبحاث وكتب يصعب حصر عددها، وتعقد مؤتمرات في كل مكان وتحت كل عنوان. ووراء كل هذا الكم الهائل من التنوع والتباين والاختلاف في الموقف من الظاهرة الإسلامية المعاصرة، تكمن ما ادعوه بظاهرة المركزية الإسلامية. وهي ظاهرة ديناميكية متصاعدة ومتوسعة يمكن رؤية بعض ملامحها في الصورة المقارنة للاماكن "المقدسة". إذ تبدو مدينة لخاسا – جزيرة الروح المنعزلة. بينما تبدو مدينة القدس ارض المعارك غير المقدسة. وفي الفاتيكان نعثر على روح الدعاية والإعلام والكارنافال. بينما تبدو مكة – رمزا للكينونة الروحية الثقافية الإسلامية (العالمية).
بعبارة أخرى، إن ما يجري بهذا الصدد ن ديناميكية متنوعة ومختلفة، هو مجردا احد مظاهر المركزية الإسلامية الجديدة. وفيما لو جرى وضع هذه الديناميكية بمعايير السوسيولوجيا السياسية، فإننا نقف أمام "ثورة إسلامية" جديدة تعادل من حيث قيمتها الكامنة بالنسبة للمستقبل قيمة الثورة الفرنسية. فقد صنعت الأخيرة المركزية الأوربية الكولونيالية الليبرالية، وسوف تصنع هذه "الثورة الإسلامية" الكامنة في الظاهرة الإسلامية المعاصرة مركزيتها الثقافية والسياسية الخاصة. أنها غير مرئية لأنها موجود في كل مكان واعيان الوجود الإسلامي. وخلافها عن المركزيات الثقافية الأخرى واختلافها معهن يكمن في تباين مستويات المسار التاريخي وتباين التجارب الثقافية في تأسيس الأصول والغايات، أي بسبب تباين تلقائية التطور الثقافي وعدم بلوغ أيا منها مستوى التكامل الذاتي. الأمر الذي يجعل من العداء والخلاف والشكوك المتبادلة بين المركزيات الثقافية الكبرى (الهندوسية والبوذية والنصرانية والإسلامية) أمرا "طبيعيا". وذلك لأنها جميعا لم تتجاوز مرحلة الطبيعي إلى مرحلة ما وراء الطبيعي. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن الانتقال من مرحلة التاريخ الطبيعي إلى ما وراء الطبيعي هي العملية التي ترافق صيرورة المركزيات الثقافية على مستوى الأمم والأممية بوصفها تجارب تاريخية ثقافية أصيلة. وبالتالي تحتوي بقدر واحد على تجسيد وتمثيل خاص لقوانين التاريخ ومنطق الثقافة.

إن تنشيط الظاهرة الإسلامية وتوسع مداها النظري والعملي (السياسي) يعكس أولا وقبل كل شيء تنشيط وتوسع مدى وعي الذات التاريخي والسياسي. وبالتالي، فأنها تحتوي بقدر واحد على صيرورة العالم الإسلامي الحديثة واستمرار لتقاليده. وبالتالي، فإن فهم هذه الظاهرة كما هي ومن ثم إدراك طبيعة وحقيقة أساليبها وغاياتها، ومستويات وعيها النظري وبرامجها العملية، يفترض النظر إليها عبر وضعها ضمن المرحلة الدينية السياسية (التاريخية)، وحالة الانتقال في وعيها الذاتي من الرؤية الدينية اللاهوتية إلى اللاهوتية السياسية وعبرها إلى الرؤية السياسية الثقافية، بوصفها مستويات تناسب هذه العملية الشاقة والمتناقضة في تذليل العقبات الواقعية أمام مهمة الانتقال التاريخي من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. وبالتالي ليست "المركزية الإسلامية" كيانا قائما بذاته، بقدر ما هي أسلوب وحالة مميزة لمرحلة الانتقال المشار إليها أعلاه.
إن بروز كينونة التحدي، باعتبارها القوة الفاعلة والمحك الخشن فيما بين تاريخين وثقافتين و"أمتين" دينيتين، وتصيرها في واقع يفتقد من حيث مقدماته الأساسية إلى تكافؤ "معقول" قد أدى بالضرورة إلى ترك بصماته القوية على كيفية بلورة معالم وعي الذات الجديد. فالسيطرة الأوربية ومساعي فرض نموذجها الحضاري لم تكن معزولة عن تفوقها الاقتصادي والعلمي والصناعي الحديث وتكاملها الثقافي في مجرى حروب طاحنة واحتراق للبنية التقليدية وتقاليدها الفكرية والثقافية وصيرورة المركزية الأوربية الحديثة. أما المواجهة الجديدة بين الشرق والغرب، بين العالم الأوربي الكولونيالي الهائج بنفسية السيطرة والهيمنة والاستحواذ وبين العوالم الشرقية آنذاك، ومنها العالم الإسلامي، قد أعطى للصراع مذاقه التاريخي الثقافي الديني القديم. من الممكن رؤية ذلك في الكثير من العينات النموذجية بهذا الصدد. وقد تكون كلمات احد الجنرالات الفرنسيين حالما احتل سوريا واقترب من قبر صلاح الدين الأيوبي مثال لذلك. إذ نسمعه يخاطب قبر صلاح الدين قائلا: "اسمع يا صلاح الدين! إننا هنا من جديد!". بمعنى أنها تعكس بقدر واحد اثر وثقل الحرب الصليبية والذهنية القروسطية (الدينية) ومعالمها الجديدة في الاحتلال الكولونيالي. كما يمكن رؤيتها على مثال نوعية وحجم الجرائم التي اقترفتها القوات الفرنسية في مراكش، والبريطانية في القاهرة.
فقد كان التفوق العلمي والعسكري والصناعي الأوربي قد سحب نفسه إلى ميدان التفوق العام في الثقافة والدين أيضا. مما أثار بدوره مشاعر خاصة ومضادة له بمعايير الثقافة والدين أولا. وذلك لأنها الميادين التي يمكن شهر أسلحتها وخوض المعارك بها، بسبب صلابتها وصلادتها ولحد ما إمكانيتها الذاتية بوصفها رحيق المآثر المنسية والواقعية والعقائد المتعالية، أي كل ما لا يمكنه الخضوع بسهولة لأي طرف "خارجي" و"مغاير".
إن الصراع الحضاري يعكس تكامل البنية المغلقة، أي انه مرتبط بالتكامل البنيوي والعقائدي للحضارة. وذلك لان التكامل الذاتي للحضارة يجعل منها بالضرورة كيانا جزئيا ومغلقا لحد ما بغض النظر عن عمقها ورونقها وانفتاحها. وذلك لان حدود الانفتاح هي مجرد حدودها المترتبة على كيفية وكمية المرجعيات الثابتة والمتغيرة في مركزيتها الخاصة. لكنه في الوقت نفسه مفتاح الانفتاح الأمثل والوحيد لإمكانية التكامل الثقافي الإنساني بوصفها مشاركة حرة ومغامرة حية. وضمن هذا السياق كان الصراع الحضاري وما يزال وسوف يبقى لفترة طويلة (وقد تكون دائمة ما لم يجر تذليل العلاقة الوجودية والعقلية بين الخواص والعوام)، ملازما بالضرورة لما يمكن دعوته بالتجزئة الحضارية ووحدة الثقافة الإنسانية. من هنا صعوبة حصر الصراع الحضاري بصيغة ما معينة أو واحدة أو ثابتة. ومن المكن رؤية ذلك بوضوح في حال تأمل تأريخ العلاقة بين حضارات العالم القديم، وبين حضارات البحر المتوسط، وبين أوربا النصرانية والعالم الإسلامي، والشيء نفسه يمكن قوله عن هذه الظاهرة في حال تأمل تأريخ العلاقة بالحضارات الهندية والصينية، سواء جرى تأمل ذلك على مثال العلاقة السياسية أو الفكرية النظرية المجردة أو كمية ونوعية الأحكام النمطية والحكايات والأساطير والخرافات المبثوثة في كتب التاريخ والأدب بمختلف أصنافه وأشكاله. إن لهذا الصراع مقدماته التاريخية الفعلية (السياسية) والفكرية (العقائدية) بوصفه جزء من صيرورة الأمم والحضارات. فقد اتخذ انتصار الإسلام وانتشاره خارج الجزيرة العربية صيغة أو مظهر الصراع ضد النصرانية والأديان الأخرى. وهذا بدوره جزء من تاريخ متبدل ومتغير مرتبط بصعود الإمبراطوريات والأديان. ففي حقيقته هو صراع ملازم لنمو الإمبراطورية الثقافية الجديدة. فقد كانت فتوحات العرب آنذاك مرتبطة بالإسلام بوصفه قوة أيديولوجية وفكرية وثقافية جديدة. كما كانت فتوحات الكسندر المقدوني مرتبطة بصعود مقدونيا. والفرق بينهما يقوم في الفرق بين قوة روحية ومنظومة عقائدية كبرى وبين قوة عسكرية وثقافية ولكنها فردية وجزئية. من هنا تحللها إلى قوى سياسية وعسكرية متنافرة لا تجمعها هموما ثقافية أو روحية موحدة. على عكس ما ميز الإسلام الأول. فقد كان صعوده وانتصاره متلازما مع صعود وانتصار وانتشار وتغلغل منظومة شاملة ومتكاملة بذاتها. الأمر الذي حدد بدوره نوعي الصراع الجديد بوصه صراعا بين "عالم نصراني" و"عالم إسلامي"، تغذى بغض النظر عن الأصول والجذور المتوحدة في الغاية إلى مواجهة اختلطت فيها خرافات وأساطير ومصالح جعلت منها أكثر تعقيدا وأكثر انغلاقا بسبب هيمنة الدين والإيمان وليس الفلسفة والعقل (كما كان الحال بالنسبة لحضارات البحر المتوسط القديمة). وسوف يطبع هذا الصراع (الإسلامي – النصراني) تاريخ العلاقة بينهما حتى اليوم. فقد تحول الدين إلى غلاف أو غطاء لشن حروب السيطرة والاستحواذ والهيمنة، بوصفها دليلا على قوة "الإيمان" والعقيدة. وكلاهما تعبير في الوقع عن مظاهر القوة (المادية). فقد أنتجت الحروب الصليبية وعمقت ورسخت ووسعت إلى أقصى حد مختلف نماذج الكليشات والصور النمطية المليئة بالحقد والكراهية والضغينة وسوء النية، باختصار كل ما يتعارض مع شعارات الأديان نفسها عن "السلام والمحبة" وما شابه ذلك. كما جرت حروب اسبانيا تحت شعار نشر دين المسيح، وقادت البرتغال حروبها باسم المسيح. واعتبر الهولنديون غزوهم "مباراة" مع البرتغاليين في نشر كلمة الله، بينما اعتبرتها فرنسا دفاعا عن الكاثوليكية. أما بريطانيا، أنها صورت كل غزواتها على أنها مباراة في نشر المدنية والمسيحية (فقد كتب احدهم، على سبيل المثال يقول انه حان الوقت لكي تلعب انكلترا دورهما الخاص بالنسبة لصياغة مستقبل العالم الإسلامي انطلاقا مما تتميز به من خواص كونها لم تتأثر بالحروب الصليبية، ولم تشارك في الحروب بين الدولة العثمانية والدولة البيزنطية واللاتينية، إضافة إلى انعزال بريطانيا بسبب الانقسام الديني، وأخيرا سعيها لإقامة علاقات جديدة انطلاقا من رؤيتها الليبرالية التي تحترم أراء واديان الآخرين. وقبل ذلك خاضت الإمبراطورية العثمانية حروبا متواصلة ضد أوربا تحت نفس الشعار. لكن الصراع والمواجهة بين عالم الإسلام والنصرانية اتخذ منحى آخر في مرحلة الصعود الكولونيالي الأوربي. إذ أصبح الصراع ضد الإسلام كدين وعقيدة وثقافة جزء من مساع جديدة للهيمنة على الأرض ومحتوياتها والبشر والثقافات بوصفها توابع ومصادرا للسرقة. الأمر الذي طبع العلاقة بالإسلام بسمات مركبة من عوالم قديمة ومتطلبات وقواعد حديثة، من خلال رفعها إلى مصاف الصراع الثقافي ولاحقا الحضاري. فقد حارب أوربا الليبرالية الديانة النصرانية أو نمط من أنماطها لكنها ظلت تحتفظ بها كشعار للهيمنة الخارجية. وفي هذا يكمن تعارضها الخفي. وينطبق ذلك على موقفها من الصراع مع الإسلام، بمعنى اتخاذه إياه بقدر واحد على أبعاد ثقافية ودينية وتاريخية متداخلة، ومن ثم أكثر تعقيدا من السابق. لقد كان هذا الصراع وما يزال جزء من لعبة التاريخ الماكرة! فالصراع والعداء والمواجهة والمصالحة والسيطرة والخضوع بينهما على امتداد تاريخ العلاقة النصرانية - الإسلامية كان جزء من صيرورة الإمبراطوريات ومراحل صعودها وسقوطها. وبروز أشخاصها المؤثرة جلي في مظاهر الصراع والمواجهة نفسها. إذ يمكن رؤيته على مثال الموقف من العرب والأتراك والإيرانيين (إن هذه الأشكال النمطية متغيرة. الحصة الأكبر فيها من الناحية التاريخية كانت للعرب والأتراك. والسبب هو في قوة ومستوى وحجم المواجهة بين العالمين الإسلامي والنصراني آنذاك. ففي البداية الهجوم على العرب المسلمين والنبي العربي (سراتسين). لاحقا، وبأثر القوة العثمانية على الأتراك. والآن المواجهة الأكبر تجاه إيران بعد الثورة الإسلامية. وقبلها لا شيء. بينما استمرت مع العرب، بسبب نوعية المواجهة المباشرة، على خلاف حالة الأتراك بعد الحرب العالية الثانية واندماج تركيا النسبي في المصالح الجيوسياسية والعسكرية للأطلسي. وبالمقابل كان الفرنسيون والانجليز الأكثر حظا في الذاكرة السيئة للمسلمين، بسبب صعودهم الإمبراطوري الحديث. وضمن هذا السياق يمكن فهم بواعث المواقف المتباينة بين الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة تجاه "الغرب" وتوحدها في نظرتها إلى باعتباره عدوا أو خصما أو متحديا. وان الصراع معه قضية لن تنتهي. والسبب يكمن في كونهما يمثلان طريقين للتطور الحضاري، أو على الأقل أن للإسلام طريقه الخاص الذي لا يمكنه القبول بغيره. الأمر الذي يجعل العداء بينهما أبديا ما لم تتغير هذه المعادلة.
فإذا كان إخضاع العالم الإسلامي عسكريا آنذاك يتسم بقدر كبير من الصعوبة والتعقيد، فانه اشد تعقيدا وصعوبة في مجال الثقافة والدين. ولم تكن هذه الحقيقة جلية للعيان بالنسبة للوعي الأوربي العام والكولونيالي بشكل خاص. فقد كان الوعي الأوربي بهذا الصدد اقرب إلى الأوهام الأيديولوجية، التي تطابق بين التفوق العسكري والتكنولوجي وبين التفوق الثقافي والروحي. بمعنى انه لم يدرك الحقيقة القائلة، بان الثقافة عالم له كينونته الخاصة، وبالأخص حالما يكون ذلك وثيق الارتباط بصيرورة تاريخية عريقة، أقدم واعرق من الثقافة الأوربية نفسها، ولا تقل عنها أثرا في التاريخ العالمي، بل وتتفوق عليها من حيث أصولها بوصفها واضعة الأسس الكبرى والأولية للثقافة الإنسانية ككل. غير اللحظات التاريخية الخاطفة عادة ما تخطف الوعي وتلهيه عن رؤية حقائق وجوده الذاتي. وقد اسكر هذا الواقع الوعي الأوربي عن رؤية حقائق وجوده الذاتي أيضا. بمعنى انه نسى أو تناسى الطابع التاريخي لذاته الثقافية المنحلة في مجرى تطوره السابق. لكن إذا كانت هذه الحالة تبدو بالنسبة للوعي الأوربي المواجه لعالم الإسلام عند تخوم القرن التاسع عشر – العشرين جزء من لعبة المشاكسة التاريخية التي فرضها منطق الإجبار الحضاري، فأنها كانت تبدو في الوعي الإسلامي الثقافي جزء من حبكة القدر التاريخي. مما أدى في كلتا الحالتين إلى تصورات متعارضة ومتضادة، لكنها كانت تجري مع ذلك ضمن دروب وعي الذات أو دروب الإدراك المتعمق للانتماء الثقافي الذاتي في العالم الإسلامي (والعربي). وبما أن هذا الانتماء ما كان بإمكانه أن يختزل كل مآثر وآثار الوجود التاريخي القديم والمعاصر في منظومة وعي جديدة وحديثة واضحة السبل والغايات، من هنا اضطراره إلى ترميم فسيفساء الكلّ الإسلامي، بوصفه الأسلوب الواقعي في عالم اتسم بتصدع اغلب مكوناته ومقوماته. ولم تخل هذه العملية من تعقيد وتناقض هائلين، لكنها كانت في نهاية المطاف تعبيرا عن حالة وطبيعة الكينونة الثقافية والدينية المترامية الأطراف، والتي حالما جرى تطويعها لمتطلبات النزعة العملية السياسية، فأنها أخذت بصنع نفسية الإرادة. مع ما رافقها بالضرورة من محاولات انتزاع مثلها المتسامية من تاريخها الخاص بوصفها نماذج عليا. ولم يكن هذا الانتزاع في اغلب جوانبه معزولا عن الأنماط الراديكالية السياسية الآخذة في الصعود والهيمنة في العالم الإسلامي منذ بدايات القرن العشرين حتى منتصفه الأول.
فقد أدت هذه العملية إلى ظهور العالم الإسلامي (العربي) الجديد بوصفه عالما وكيانا سياسيا فتيا ولكن بدون ثقافة كبرى. وكمنت هذه الحالة في مسار الأحوال التاريخية التي يمكن تتبع مفاصلها الكبرى في كل من الحروب الصليبية، والغزو المغولي، والانكفاء العربي في اسبانيا، والاحتلال التركي العثماني، الذي استكمل ما قبله من تدمير للمراكز السياسية الثقافية الإسلامية المنهكة. بحيث أدى إلى تهشيمها وتهمّشها التام! وذلك لأن العثمانية لم تكن خلافة إسلامية بالمعنى الثقافي للكلمة. لقد كانت مجرد إمبراطورية قوة. من هنا صعودها الكبير واندثارها المثير لغبار الزمن. بحيث بقي العالم الإسلامي بأثر ذلك جسدا كبيرا ولكنه عار أمام حرارة الهجوم الأوربي الكولونيالي، وبرودة هزيمته المادية والمعنوية. والاستثناء النسبي لإيران التي أبقت، بأثر انعزالها النسبي وصيرورتها القومية –الشيعية – الصفوية، على بريق اللهب المتضائل تحت ركام التفلسف الشيعي والغنوص الصوفي. لهذا حالما اخذ العالم الإسلامي بالظهور من جديد، فانه ظهر على شكل مقاطعات متفرقة ومنعزلة ومتصارعة، مراكزها الفعلية خارجها. أما مراكزه الثقافية السياسية الأصلية والملهمة، فأنها كانت مجرد ذكرى في ذاكرة لم تستنهض قواها المتخيلة والعقلية بعد. بمعنى انه ولد من جديد ولكن بدون ثقافة كبرى، أي كبير الحجم، صغير العقل، قليل التجربة!
وقد أرغمت هذه العملية القوى التقليدية على الاختباء النسبي، لكنها استثارت في ظل فشل المشاريع القومية الدنيوية ("العلمانية") في وقت لاحق بدائل "الإسلام السياسي" (القومي) سواء عبر صيغة الرجوع إلى المصادر الأولى أو عبر تطويع مختلف مكونات وعناصر التاريخ الثقافي الإسلامي. ومنذ ذلك الحين بدأت تتبلور ملامح الحركة الاجتماعية السياسية والثقافية الجديدة الممثلة في القوى الإسلامية، باعتبارها مكونا فكريا وعمليا جديدا لمرحلة الانتقال صوب حالة الوعي الديني السياسي.

الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *