أبحاث
الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة(5)
ميثم
الجنابي
إن
إحدى المفارقات الظاهرية الكبرى لصعود الحركة الإسلامية السياسية المعاصرة تقوم في
بروزها وصعودها وهيمنتها
النسبية في وقت كان المزاج العام والصاعد هو "انتصار الرؤية الثورية" والدنيوية والعلم والتقدم، أي كل الحصيلة المتراكمة في مجرى قرون الحداثة. الأمر الذي أعطى لصعود نجم الحركة الإسلامية طابعا سحريا اقرب ما يكون إلى المزاج الوثني والديني الأسطوري القائل، بأنه ليس من السهل رد الإلهة عن مقاصدها!
النسبية في وقت كان المزاج العام والصاعد هو "انتصار الرؤية الثورية" والدنيوية والعلم والتقدم، أي كل الحصيلة المتراكمة في مجرى قرون الحداثة. الأمر الذي أعطى لصعود نجم الحركة الإسلامية طابعا سحريا اقرب ما يكون إلى المزاج الوثني والديني الأسطوري القائل، بأنه ليس من السهل رد الإلهة عن مقاصدها!
فقد
كان الإسلام وقواه الاجتماعية التقليدية تبدو للامس القريب كما لو أنهما من عوالم بائدة،
اندثرت منذ زمن طويل في غبار الوجود وأصبحت أثرا من كينونة ذائبة في زمن الكون البارد!
بينما نراه يأخذ بالازدياد والتوسع والعنف بحيث يتطابق في الوعي العادي مع هيئة مارد
ومخرب وعصابي ومدمر وأصولي وإرهابي من طراز غريب، كما لو انه الوجه الأكثر قبحا لسماحة
الحضارة الليبرالية وعولمتها المدنية! حيث يبدو في كل ما يقول ويفعل، كما لو انه القوة
المعبرة عن حالة رجوع وتراجع لعوالم سحيقة تستثير في كل قول وفعل كمون الذكرى والذاكرة
وأمور أخرى عصية على منطق التقدم والحداثة، أي كل ما كان يبدو لوقت قريب كما ل انه
حقائق منطقية وعلمية ترتقي إلى مصاف البديهة.
لقد
كشف كل ذلك وسوف يكشف مع مرور الزمن عن أن هذه "الحقائق البديهية" في ميدان
التاريخ السياسي والثقافي لا تتعدى كونها بديهيات التجارب الجزئية وتمثلها المناسب
من جانب العقول البسيطة والنفسية الراديكالية وثقل الإرادة الفارغة من محتوى وعيها
الذاتي بوصفه إدراكا تلقائيا للإشكاليات الواقعية والبدائل المستقبلية.
فمن
الناحية الثقافية يشير ذلك أولا وقبل كل شيء إلى إشكالية الزمن والتاريخ، والحقيقة
والوهم، والتراث والمعاصرة، والثقافة الكونية والقومية. أما من الناحية الفعلية فانه
يشير إلى أن للأحداث التاريخية الجسام "منطقها" الخاص، أي مسارها الذاتي.
بمعنى أن رؤية البواعث الدفينة لهذه الظاهرة وأسباب صعودها، وأنماط علمها وعملها وكيفية
تعاملها مع إشكاليات الحاضر والمستقبل، ومن ثم آفاقها الفعلية بوصفها حركة تاريخية
طبيعية، يفترض النظر إليها ضمن المسار الواقعي لصيرورة الأمم والثقافات، أي تحرير الرؤية
من ثقل المزاج اللاهوتي في التفسير والتأويل، ومن تدخل "العلم الإلهي" ومكر
"العقل المطلق" وما شابه ذلك.
فمن
الناحية الثقافية والتاريخية أيضا، ليس الرجوع إلى نماذج قديمة سوى احد الأدلة الدقيقة
على أن الوعي النظري والعملي لم يذلل بقايا المرحلة الثقافية الدينية وذهنيتها اللاهوتية
في النظر إلى الواقع والمستقبل. بمعنى انه ليس قادرا بعد على النظر إلى الحاضر بمعايير
المستقبل، كما انه عاجز عن النظر إلى المستقبل بمعايير المستقبل. من هنا يصبح الرجوع
إلى الماضي فعلا ملازما للوعي والسلوك. كما يصبح في الوقت نفسه عملا ضروريا يصب في
اتجاه تذليل هيمنة الرؤية الدينية اللاهوتية والانتقال بها صوب درجة أرقى في سلم التطور
التاريخي للأمم والوعي. ومن الممكن رؤية هذه الآلية الصارمة في تجارب الأمم والحضارات
الكبرى، القديمة منها والحديثة على السواء. لاسيما وأنها العملية الملازمة لتراكم التطور
ونفي درجاته التلقائي.
وفيما
يخص الظاهرة الإسلامية الحديثة فأنها "تكرر" هذا المسار النظري، لكنها تعمل
على تذليله من الناحية العملية، بوصفها جزء ومستوى من مركزية إسلامية حديثة. فمن الناحية
العقائدية، تمثل فكرة "الأصول" الإسلامية مصدرا حيا و"أبديا" للرجوع
إلى الماضي. وذلك لان الأصول الأولى أولية ودائمة. ومن ثم فهي قديمة – حديثة. من هنا
جوهرية الرجوع إلى المصادر الأولى، ومن ثم هيمنتها في الوعي النظري والعملي السلفي،
وضعفها التدريجي فيما عداه، من خلال تفريغها في نماذج ومستويات متنوعة كالتأويل، والاجتهاد،
وحكم الضرورة، والفائدة وما إلى ذلك. وبالتالي تغير مضمون وفاعلية "المصادر الأولى"
و"الأصول".
بعبارة
أخرى، إننا نقف أمام اتجاهين ونمطين منهجيين مميزين للتطور التاريخي في كافة الميادين
بما في ذلك في تاريخ الحضارات والأمم، اتجاه الذهنية الدينية اللاهوتية (السلفية) واتجاه
الفكرة العقلية الفلسفية، أي اتجاه الفكرة التقليدية (بمختلف أنماطها ونماذجها) والفكرة
النقدية (بمختلف أنماطها ونماذجها).
وليس
مصادفة أن تتحول فترة النبوة المحمدية الأولى إلى بداية ونهاية التاريخ الإسلامي ووعي
الذات الثقافي والروحي القومي (للمسلمين). وسبب ذلك يقوم أساسا بفعل أربعة آثار كبرى
وهي:
• اثر
النبي محمد، بوصفه الشخصية المركزية للإسلام،
• واثر
الفكرة الإسلامية، المطابقة لمعنى العقيدة الشاملة،
• واثر
الفرق وعقائدها في الاختلاف،
• واثر
المرجعيات الفكرية في صنع الهموم المشتركة والإجماع الثقافي.
وقد
كانت هذه الآثار الأربعة نتاج مآثر أربع مراحل تأسيسية، صنعت بدورها أربع موجات فكرية،
وأربع تيارات كبرى في الفكرة الإسلامية السياسية، مازالت فاعلة في الوعي الديني السياسي
الإسلامي ونماذجه الحديثة الكبرى.
وتجدر
الإشارة هنا إلى أن الإسلام المحمدي هو نمط خاص، أقرب ما يكون إلى تيوقراطية الروح
المتسامي. من هنا تجزئتها في مجرى الصراع إلى تيوقراطية سياسية (فكرة السلطان)، وأخرى
روحية (فكر الإمام المعصوم في التشيع)، والتي يقابلها في الوعي النظري العملي كل من
الفلسفة وفكرتها عن الحكيم الإلهي والفيلسوف (الصيغة العقلية الصرف)، وفي التصوف وفكرته
عن القطب والإنسان الكامل (الصيغة الروحية الأخلاقية الصرف). بينما أدت المحاولات الأولى
لاستخلاف الصيغة النبوية إلى وضع أسس الفكرة السياسية للخلافة التاريخية، التي صنعت
في وقت لاحق نموذج أو أسطورة خلافة الراشدين. ففي مجراها جرى بلورة اغلب المفاهيم والقيم
العملية للفكرة السياسية بوصفها مغامرة ومؤامرة أيضا، والتي يمكن تتبع حيثياتها الهائلة
المسطرة في كتب التاريخ الإسلامية نفسها، مثل (تاريخ الأمم والملوك) للطبري و(الإمامة
والسياسة) لابن قتيبة وكثير غيرهم.
أما
المسار التاريخي الواقعي اللاحق للفكرة السياسية فقد جرى ضمن هيمنة فكرة الدولة والسلطة،
التي جعلت من الدين تابعا، أي أيديولوجية دولة. وبأثر ذلك ظهرت فكرة السلطة والسلطان،
التي شاطرتها، رغم مقدماتها المختلفة، التيارات العقائدية السلفية، السنية منها والشيعية.
الأمر الذي وجد انعكاسه في ظهور النظريات الأولي بهذا الصدد.
فقد
كانت الفكرة السنية تدور حول أولوية السلطان والجسد، التي وجدت تعبيرها في أفكار عديدة
مثل فكرة الفاضل والمفضول، وهيمنة "الإجماع" الشكلي، والقبول بالقهر والاستعباد
حسب مفاهيم المصلحة والفائدة، وفقه الظاهر والجسد. بينما حصلت في التشيع على فكرة أولية
الروح والعصمة، التي كانت تعني من حيث مذاقها ومسارها الوجه المعاكس (ظاهريا) والمقلوب
باطنيا لفكرة السلطة والسلطان. ولم يكن ذلك معزولا عن ثقل الفكرة الوجدانية في التشيع
وتقاليد المعارضة. وهي الصفة المميزة لكل تقاليد المعارضة العريقة والوجدانية، التي
سرعان ما تستعيد قوامها الطبيعي حسب قاعدة الخواص والعوام (أو النخبة والجمهور)، ومن
ثم تسير بنفس تقاليد السلطة والسلطان. في حين بلورت التقاليد العقلية والعقلانية للكلام
فكرة الخلافة المثالية. أما الفلسفة النظرية والعملية فقد بلورت فكرة الدولة والأمة
المدنية، التي نعثر على صيغها الأولية في الأدب السياسي كما هو الحال عند ابن المقفع،
والجاحظ، والتوحيدي، وفي التفلسف النظري والعملي كما هو الحال عند إخوان الصفا، ثم
في الفلسفة النظرية كما هو الحال عند الفارابي، وابن رشد وغيرهم.
لقد
ارتبطت هذه العملية التاريخية المعقدة والذاتية للصيرورة الإسلامية وفكرتها السياسية
بما يمكن دعوته بفكرة الأحوال التأسيسية في مقامات المسار (الرقي) التاريخي للأمم.
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالات تأسيسية وليست مراحل محورية. وذلك لان الأحوال التأسيسية،
هي الصيرورة الكامنة في وجود (ومعاناة) التجارب التاريخية للأمم، اي في إدراك وجودها
التاريخي بمعايير الوجدان الروحي أو الأخلاقي أو العملي، ولاحقا بمعايير العقل النظري.
وذلك لان توّسع وتعمّق التجارب التاريخية هو الذي يجعل منها مادة ضرورية في مجرى صيرورة
العقل الثقافي للأمم. وهذا بدوره ليس إلا العقل التاريخي للثقافات والأمم، اي الصيغة
الأكثر تجريدا للوقائع والحقائق الذاتية للأمم في مجرى تجاربها الخاصة لحل إشكاليات
وجودها الطبيعي والماورا طبيعي.
ذلك
يعني، أن العقل الثقافي هو الصيغة الملموسة والتاريخية للعقل النظري وذلك لأنه يتمثل
حصيلة الفكرة الوجدانية والمنطقية. وبالتالي، فان الأحوال التأسيسية هي المقدمة الوجدانية
للعقل العملي، اي القاع الذي تستند إليه أرضية العقل النظري في إرساء أسس البنيان التاريخي
للأقوام وثقافاتها، والأمم وحضاراتها. وذلك لان الحضارة تلازم فقط صيرورة الأمة وتكامل
كينونتها الثقافية. ومن ثم فهي تلازم بالضرورة مراحل الانتقال التاريخية الكبرى من
جهة، وكيفية تجسيدها لفكرة الإرادة (التحدي والتفاؤل) وفكرة العقل التاريخي (العقل
الثقافي) وغاياته العملية، من جهة أخرى. وبما أن الفكرة السياسية هي الصيغة العملية
المباشرة لفكرة الإرادة، من هنا تغلغلها بالضرورة في زوايا وخلايا العقل الثقافي من
خلال ترسبها أولا في قاع الوجدان وارتقائها لاحقا في بنيان الفكرة النظرية. وهو الشيء
الذي نعثر عليه فيما أسميته بالمراحل الأربع في مسار الانتقال التاريخي الكبير الذي
أحدثه الإسلام بالنسبة لإرساء مرجعياته الكبرى، بما في ذلك بالنسبة للفكرة السياسية.
إن
العلاقة بين الإسلام والسياسة وتبلور الفكرة السياسية الإسلامية كانت جزءا ومظهرا لصيرورة
التراكم التاريخي للدين للإسلامي ومنظومته الشاملة، أي أنها التعبير النظري والعملي
عن رؤيته المباشرة لإشكاليات النظام والوحدة بوصفها الصيغة النموذجية لفكرة التوحيد
الميتافيزيقية والوجودية، والتي حصلت على صيغتها المباشرة والعميقة في مرجعية الإله
الواحد والأمة الواحدة. وقد أدى ذلك إلى توسيع مدى ومستويات الوحدانية الإسلامية وصيغتها
التاريخية الثقافية في الواحدية الإسلامية (الدولة والحضارة). وفي مجرى هذه العملية
الدرامية الهائلة تراكمت النماذج الكبرى للتأسيس النظري والأحكام الفقهية والمواقف
العملية (السياسية والأخلاقية) وتباينت في كل شيء وتجاه كل شيء، بما في ذلك تجاه إشكاليات
الفكرة السياسية نفسها، بوصفه المسار الطبيعي لصنع تقاليد الفكر السياسي النظري والعملي
في الإسلام.
***