أبحاث
الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (6)
ميثم
الجنابي
إن
استقراء تاريخ الفكرة السياسية الإسلامية وتطور مدارسها الكبرى تكشف عن أنها كانت تعبر
عن نوعية التحولات الكبرى
في تاريخ الدولة والثقافة. بمعنى إننا نرى فيها وفي تياراتها الكبرى ومرجعياتها النظرية اثر "المراحل التأسيسية" الكبرى لمسار الدولة والعقائد والنظام السياسي. وفيها ومن خلالها تبلورت الثنائيات الأكثر جوهرية بهذا الصدد مثل ثنائية الدين والدنيا وانعكاسها الخاص في علاقة الدين بالسلطان والأمة (أي بالدولة والنظام السياسي) ومختلف مظاهرها الأخرى.
في تاريخ الدولة والثقافة. بمعنى إننا نرى فيها وفي تياراتها الكبرى ومرجعياتها النظرية اثر "المراحل التأسيسية" الكبرى لمسار الدولة والعقائد والنظام السياسي. وفيها ومن خلالها تبلورت الثنائيات الأكثر جوهرية بهذا الصدد مثل ثنائية الدين والدنيا وانعكاسها الخاص في علاقة الدين بالسلطان والأمة (أي بالدولة والنظام السياسي) ومختلف مظاهرها الأخرى.
فقد
مر هذا التطور بأربع مراحل تأسيسية كبرى لازمت مراحل الانتقال الكبرى في بنية الدولة
والثقافة، ومن ثم النظريات السياسية. وهي على التوالي مرحلة النبوة العملية، ومرحلة
الخلافة الراشدية، ومرحلة الملكية الإمبراطورية، ومرحلة السلطانية الإسلامية (الثقافية).
فقد
كانت المرحلة الأولى هي مرحلة النبوة العملية، أو اللحظة التأسيسية التاريخية للوعي
السياسي الإسلامي وتقاليده اللاحقة. وفيها جرى تبلور الصيغة الخاصة للفكرة السياسية
الإسلامية بوصفها فكرة متسامية، أو أيديولوجية متسامية (دين عملي). ووجد ذلك تعبيره
في فكرة "تمام الدين" ولاحقا "ختم النبوة"، أي فكرة الإسلام
"دين كامل"، ومحمد "خاتم الأنبياء"، والقرآن "الكتاب الجامع
لعلم الأوائل والأواخر". ومن ثم بلور إحدى المرجعيات الخفية للعلاقة العضوية والدائمة
بين الدين والدنيا. ولم يكن ذلك معزولا عن دور الدين (الإسلام) بوصفه أيديولوجية متسامية
في توحيد الجزيرة والعرب وصنع الأمة والدولة على أساس الفكرة التوحيدية الجديدة، التي
ربطت في كل واحد الوحدانية المجردة بالتوحيد العملي. وفي هذا الربط كانت تكمن الأبعاد
التاريخية والروحية والميتافيزيقية في انتصار الإسلام المحمدي، أي الصيغة الأولية التي
ستتحول لاحقا، بأثر هذا الربط إلى قيمة مستقلة بذاتها ولذاتها. وفيها تتناغم في الوقت
نفسه قوة التاريخ والميتافيزيقيا الإلهية. الأمر الذي جعل منها انقطاعا في المسار التاريخي
واستمرارا روحيا لما قبله ولكن بمعايير الوحدانية والأمة الوسط. بمعنى انه بلور للمرة
الأولى فكرة "الإدارة الإلهية" للدولة والأمة، التي ينبغي أن تضمحل فيها
كل قواعد وأحكام الوجود الشرطي والتقليدي للبشر. ومن ثم صنع تقاليد نوعية جديدة تحتكم
إلى مبادئ وقيم أخلاقية وروحية متسامية، أي كل ما وجد تعبيره في فكرة الإرادة الإلهية،
والمشيئة الإلهية، ومنظومة القيم العملية الواجبة للمسلم والمؤمن مثل الجهاد، والكفاح،
والعمل، والصبر، والمروءة ومختلف القيم الأخلاقية الكبرى التي امتلئ بها القرآن. وعلى
رأسها جرى تتويج النبي محمد بلقب "عبد الله" بالضد من لقب "ملك للعرب".
لقد
كانت هذه الذروة المترامية ما بين ميتافيزيقيا الإله التوحيدي وتاريخ الجماعة الإسلامية
المتوحدة في "امة وسط"، تعكس المسار الروحي للفكرة العملية (السياسية). فقد
كان الإسلام الروحي وفكرته العملية السياسية مظهرا من مظاهر الشخصية المحمدية، أو يمكننا
أن نرى فيهما حقيقة ومضمون التراكم الفعلي لفكرة ونموذج "العمل السياسي".
تماما كما تجسدا من الناحية الزمنية فيما يسمى بالتاريخ المكي والتاريخ المدني، أو
التاريخ الروحي والتاريخ السياسي. رغم إنهما يبقيان في مسار الفكرة النظرية والعملية
كلا واحدا. وكما تنعكس في مكة صراع الروح من اجل الروح، فان المدينة تعكس صراع المدينة
من اجل المدينة (الدولة) المحكومة بقوة الشريعة الإلهية. من هنا بروز ملامح العمل السياسي
فيها، بوصفه أسلوبا يجمع بين الحلول الجزئية والكلية، بين الفكرة العابرة والثبات،
أي أسلوبا لتوحيد الروح والجسد من اجل بناء جماعة وأمة واحدة. وفي مجرى هذه العملية
تشكل مضمون الفكرة الإسلامية عن وحدة الدين والدنيا. أما انتصار محمد النهائي فقد أرسى
أسس الانتصار التاريخي للفكرة الإسلامية السياسية أيضا، أي فكرة الوحدة الواجبة بين
الدين والدنيا، التي كيّفت مجرى المسار التاريخي اللاحق وحددت منظومة مرجعياته الخفية.
بعبارة أخرى، لقد كانت الثورة المحمدية ثورة إسلامية، تطابقت فيها فكرة الإرادة الحية
وفكرة المرجعيات المتسامية. الأمر الذي جعل منها نموذجا مثاليا وعمليا مطلقا، وجد تعبيره
في تحول القرآن والسنة النبوية إلى مصدرين وأصلين جوهريين للعلم والعمل.
أما
المرحلة الثانية فهي مرحلة الخلافة الراشدية، أو اللحظة التأسيسية لفكرة المرجعية المتسامية
للدين والدينا. ومن ثم الصيغة المكملة والعملية للمرحلة النبوية. أي كل ما اصطلح عليه
بفكرة خلافة النبي محمد. مع ما ترتب عليه من بلورة فكرة التقليد والاجتهاد العلمية
التي تغلغلت لاحقا في الثنائية الكبرى للفكر الإسلامي عن وحدة الرواية والدراية، أو
المعقول والمنقول. وعلى ضفافها وفي مجراها، بوصفها تاريخيا سياسيا، جرى نقل أبعاد
"الفكرة المقدسة" عن مصادرها المباشرة (مشكاة النبوة) بإدخالها في باب الاجتهاد
العملي، التي حصلت على ذروتها الخالصة في الفكرة التي أطلقها وطبقها الخليفة الثالث
عثمان بن عفان القائل، بان "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وقد
كانت هذه العبارة القوية، فكرة تأسيسية وعملا بنيويا تغلغل في فكرة تطويع الدين وخدمته
للمصلحة السياسية. ومن ثم كانت تحتوي على توظيف واضح وفاضح بقدر واحد لتجارب ومآرب
الصراع السياسي من اجل السلطة (الإمام أو الخلافة) بعد موت النبي محمد. فقد كان عثمان
نتاجا ظاهريا لباطن الفكرة والسلوك المتراكم في مجرى خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب.
بمعنى انه خرج من نفس الحاشية التي تولت تقديمه وأحاطته برعايتها ووصايتها، بما في
ذلك توظيف مقتله على انه "الشهيد الأول" للإسلام! بينما كانت هي في حقيقتها
شهادة زور كبرى في تاريخ الروح، لكنها وثيقة واقعية فيما يتعلق بصيرورة الفكرة السياسية
بوصفها مؤامرة ومغامرة أيضا.
لقد
بلورت هذه المرحلة ليس فقط جملة من المفاهيم العضوية في الفكرة السياسية الإسلامية
مثل البيعة، والرضا، والطاعة، وأمير المؤمنين، والوصاية، والشورى، والاختيار، والإمام
والإمامة، بل ونشاط سياسي يتسم بقدر كبير من المراوغة والخداع والتبرير والتأويل وغيرها.
وفيما
لو افترضنا مسار الأمور بدون التمرد التاريخي الأول في الإسلام على السلطة، لكان قد
جرى بالطريقة التي أدت أيضا إلى استحواذ الأموية عليها، دون الحاجة إلى كل أساليب الغدر
والخيانة. الأمر الذي يشير إلى أن بداية المرحلة الراشدية ونهايتها كانت تحتوي أيضا
على مفاهيم وسلوك سياسي يبرر الغدر والمراوغة والخداع والجريمة. ومن الممكن رؤية ذلك
في خاتمتها وكيفية ظهور وانتصار الأموية السياسية.
إن
مسار الخلافة الراشدية كان يحتوي أيضا على ما يمكن دعوته بعناصر السير صوب أموية مبطنة.
والتمرد الإسلامي الأول للأمة (وقتل عثمان) هو الذي قطع بصورة مؤقتة هذا الطريق. فقد
كان هذا التمرد الأول هو المحاولة العملية لاستعادة واسترجاع الصيغة المثالية لوحدة
الدين والدنيا، أي للفكرة المتسامية والحياة الواقعية، كما تجسدت في صعود علي بن أبي
طالب للخلافة. لكن هزيمتها السياسية اللاحقة قد أدت إلى صعود الأموية وانتصارها السياسي.
وفي هذا كان وما يزال يكمن سرّ الحالة الدرامية في التاريخ السياسي للفكرة الإسلامية
وصراعها الداخلي على امتداد تاريخه لحد الآن. لكنها أدت إلى تغير بنيوي هائل أسّس للمرحلة
الثالثة في صيرورة الفكرة السياسية في الإسلام بوصفها فكرة ملكية (أموية).
فقد
تحولت هذه الحالة الدرامية إلى مفترق طرق فاعلة في تاريخ الإسلام وفكرته السياسية.
من هنا بقاء جذوتها الملتهبة لحد الآن. الأمر الذي يشير إلى أن تاريخ الفكرة السياسية
الإسلامية بهذا الصدد لم يذلل بعد فكرة الزمن، ومن جهة أخرى، تشير إلى أن الفكرة السياسية
لم تذلل حقيقة هذا الافتراق بالشكل الذي يجعلها فكرة مرجعية عقلانية في وعي الذات التاريخي
الثقافي والقومي والإسلامي. وعموما يمكننا القول، بان بقائها واستمرارها يشير إلى أنها
كانت جزء من صيرورة التاريخ السياسي. أما سبب تحولها إلى عصب الفكرة السياسية، فيقوم
في هيمنة التقاليد الدينية واللاهوتية التي جعلت من وحدة الدين والدنيا مرجعية قهر
للإرادة الاجتماعية وتحويلها إلى غلاف لاستبداد أيديولوجي عند الجميع، باستثناء الفكر
الثقافي الإسلامي الخالص، اي الفلسفي. ولهذا السبب أيضا نفهم لماذا كان الصراع وما
يزال حولها وعنها يجري وضعه وتناوله ضمن أنساق مذهبية عصبية وتقاليد ذهنية بدائية وتقليدية
لا يمكنها الفصل بين التاريخ السياسي وفكرة المقدس. مع انه لا مقدس في التاريخ. إذ
لا رابط جوهري بين حقيقة الإسلام وحقيقة عثمان، أو بين الفكرة الإسلامية والدموية،
أو بين السنية والأموية. والسبب يكمن في أن كل هذه الصنائع الخربة هي من نتاج الأموية،
بوصفها سفيانية مروانية قرشية تجارية ومالية عملية ونفعية مراوغة. أما حلّها العقلي
والعقلاني فيفترض كتابة التاريخ الإسلامي بمعايير التاريخ والحقيقة. لكي يجري فهمه
وعقله بمعايير الضمير الاجتماعي والحرية التامة للروح والعقل والجسد. وبدون ذلك يبقى
التاريخ الإسلامي زمن المشاحنات والخلافات الخبيثة والسخيفة، والغبية والدنيئة! أي
كل ما يبرر الانطباع الممكن عن أن الدين هو "عرين" الحمير!
أما
المرحلة الثالثة فهي مرحلة الملكية الإمبراطورية، أو اللحظة التأسيسية لفكرة الدولة
الإمبراطورية الصرف. فقد استتبت هنا فكرة وتقاليد الملك والملوكية والابتعاد التدريجي
عن تقاليد ومضمون فكرة الخلافة بوصفها نموذجا حيا لاستخلاف النبي فيما يتعلق بوحدة
الدين والدنيا، أو الشريعة والأمة. حيث تحولت السياسة العملية وفكرة المصالح والنفعية
إلى قيمة مستقلة بحد ذاتها وجوهرية في الموقف من كل شيء. ولعل الأحداث المتعلقة بالتمرد
على سلطة الخلافة وإعلان الحرب تحت شعار "قميص عثمان"، وحادثة رفع المصاحف
على الرماح، وقضية التحكيم، هي الصور النموذجية لهذا النمط الذي اخضع كل ما في الوجود
إلى فكرة المصالح الضيقة. ومن ثم الصيغة النموذجية للخداع السياسي، الذي جعل من الدين
وسيلة وأداة صرف لبلوغ المآرب السياسية. وترتب على ذلك إرساء أسس جديدة للانقطاع النوعي
عن تقاليد الخلافة الأولى، الذي وجد تعبيره في القول الشهير لمعاوية بن أبي سفيان عما
اسماه "يفطم الأمة من التجرؤ على السلطان". من هنا التقييم الذي جرى وضعه
بصيغة حديث نبوي يقول، بان الخلافة ثلاثون سنة وما بعدها ملك. وقد رافق ذلك حالة وكمية
ونوعية الفرقة والانقسام والاختلاف الفكري والعملي تجاه جميع المفاهيم الكبرى للإسلام
وتاريخه السياسي السابق.
لقد
كانت تلك المرحلة تتسم بقدر هائل من "التجريب" الذي طوع كل شيء لخدمة المأرب
السياسية وفكرة الدولة الإمبراطورية. ومن بين أكثرها تجريب الاستعمال النفعي والسياسي
للدين والفكرة الدينية والشعار الديني، وبالأخص ما يتعلق منه بإدخال "الله"
وزجه في حلبة الصراع وميادين الوغى ومأرب السياسة ومغامرات القوى المتحاربة، بعد أن
كان قوة متعالية وبعيدة فيما وراء "السماء السابعة". بمعنى إجبار "المشيئة
الإلهية" على الهبوط من علياء الميتافيزيقيا المتسامية إلى ارض المصالح العابرة.
من هنا بروز المفاهيم الكبرى المتعلقة بقضايا الذات والصفات الإلهية وبالأخص مفاهيم
المشيئة الإلهية والاستطاعة البشرية، والإرادة الإلهية والإنسانية، والقضاء والقدر،
والجبر والاختيار، والعقل والنقل، أي كل تلك القضايا التي كانت تعكس في جزئياتها إشكالية
السياسة والأخلاق. بمعنى بروز التأمل النظري والعملي للمفاهيم السياسية والأخلاقية.
أما
المرحلة الرابعة فهي مرحلة السلطانية الإمبراطورية، أو اللحظة التأسيسية لفكرة الإمبراطورية
الإسلامية (الثقافية)، التي تطابقت مع مرحلة الخلافة العباسية في تاريخ الإسلام. وفيها
بدأ التأسيس النظري للتاريخ السياسي عبر تعميم التجارب الذاتية وتجارب الأمم الماضية.
ومن ثم وضعها في منظومات فكرية سياسية.
لقد
بلورت هذه المراحل التاريخية الكبرى في لحظاتها التأسيسية معالم وتقاليد الفكرة السياسية
الإسلامية. بحيث يمكننا القول، إن لكل لحظة تأسيسية إدراكها الخاص، وتعاملها مع الفكرة
السياسية عن الدولة (الخلافة والإمامة)، والسلطان (نظام الحكم)، والأمة وما يتعلق بها
من إشكاليات عديدة ومفاهيم كثيرة تتداخل فيها مناهج الفرق والمدارس المتنوعة ورؤيتها
العملية في مختلف علومها وفنونها (الدينية منها والدنيوية).
***