أبحاث
الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (7)
ميثم
الجنابي
لقد
بلورت المراحل التاريخية الكبرى (مرحلة النبوة العملية، ومرحلة الخلافة الراشدية، ومرحلة
الملكية الإمبراطورية،
ومرحلة السلطانية الإسلامية الثقافية) في لحظاتها التأسيسية، معالم وتقاليد الفكرة السياسية الإسلامية. الأمر الذي أعطى لكل لحظة تأسيسية إدراكها الخاص، وتعاملها المتميز مع الفكرة السياسية عن الدولة (الخلافة والإمامة)، والسلطان (نظام الحكم)، والأمة وما يتعلق بها من إشكاليات عديدة ومفاهيم كثيرة تتداخل فيها مناهج الفرق والمدارس المتنوعة ورؤيتها العملية في مختلف علومها وفنونها (الدينية منها والدنيوية). ووجدت هذه المراحل التاريخية انعكاسها في صيرورة أربعة أصناف منهجية في الفكرة السياسية، التي تعددت أنماطها من حيث مزاجها السياسي. إن هذه الأصناف الأربعة هي: السلفية الدينية، واللاهوتية السياسية، والإصلاحية الإسلامية، والإسلامية الثقافية.
ومرحلة السلطانية الإسلامية الثقافية) في لحظاتها التأسيسية، معالم وتقاليد الفكرة السياسية الإسلامية. الأمر الذي أعطى لكل لحظة تأسيسية إدراكها الخاص، وتعاملها المتميز مع الفكرة السياسية عن الدولة (الخلافة والإمامة)، والسلطان (نظام الحكم)، والأمة وما يتعلق بها من إشكاليات عديدة ومفاهيم كثيرة تتداخل فيها مناهج الفرق والمدارس المتنوعة ورؤيتها العملية في مختلف علومها وفنونها (الدينية منها والدنيوية). ووجدت هذه المراحل التاريخية انعكاسها في صيرورة أربعة أصناف منهجية في الفكرة السياسية، التي تعددت أنماطها من حيث مزاجها السياسي. إن هذه الأصناف الأربعة هي: السلفية الدينية، واللاهوتية السياسية، والإصلاحية الإسلامية، والإسلامية الثقافية.
وتمثل
السلفية الدينية الصيغة العامة لأغلب التيارات السنية التقليدية والشيعية المتأخرة.
وأكثر من أسس لها في البداية السلطة الأموية و"أهل الحشو" من فقهاء النقل
والحديث والرواية، ثم علم الكلام الحنبلي المتأخر، والتشيع المعارض في بداية الأمر،
ثم علم الكلام الشيعي المتأخر. وتتسم تقاليد هذه السلفية بتقديس العقائد، وترتيب القواعد،
والتبرير الدائم لها فيما يتعلق بالإمامة (السلطة) وكيفية تقلدها. بحيث تحولت هذه القواعد
إلى عقائد راسخة ثابتة و"مقدسة". بمعنى أنها تحجرت في فكرة سلفية (تقليدية)
بحد ذاتها لا علاقة لها بالأسلاف.
فقد
تطابقت الفكرة السنية النظرية والعملية من حيث الجوهر مع حالة العيش والعمل والاستذكار
بلا فكر وتفكر وتفكير، ومع حالة التمسك "بوحي نبوي" (الأحاديث) بلا وحي عقلي،
و"الهام إلهي" (القرآن) بدون استلهام ثقافي. الأمر الذي جعل منها في الأغلب
الصيغة الأيديولوجية للسلطة المتجبرة. بحيث تطابقت الفكرة السنية السياسية مع فكرة
السلطة، أو أن الأخيرة جعلت منها دعامتها الأيديولوجية. من هنا فقدان التاريخ الإسلامي
لمعارضة سنية للسلطة على امتداد تاريخ الخلافة وتنوع أشكالها ومراكزها. من هنا أيضا
تحول التيارات السنية إلى جزء من تقاليد السلطة، ومن ثم غياب أو اضمحلال العقل النقدي
والبدائل المستقبلية. ومع أن بعض هذه النظريات لا يخلو من رؤية واقعية وعقلية، لكنها
في الأغلب ليست عقلانية لان مهمتها تبرير الموجود، كما أنها تخلو من أية نزعة إنسانية
لأنها محكومة بعقائد الجماعة الدينية، ومعارضة لفكرة الحرية، وذلك لأنها في الأغلب
فكرة الجسد الميت والغرائز الحية! والاختلافات الفعلية بينها تدور حول تنوع التشدد
العقائدي في تأسيس وتبرير "الجهاد" من اجل تجسيد هذه المواقف. مما جعل منها
في نهاية المطاف تنويعات مختلفة الأصوات إما لتبرير سلوك ضيق، وإما لتطويع مصالح الجسد،
وإما لتقليد ميت لأموات، وإما تنشيط لفكرة العبودية والموت. وهذه كلها في خدمة السلطة
السائدة.
أما
الفكرة الشيعية النظرية والعملية الأولى، فقد ارتبطت بشخصية الخليفة الرابع علي بن
أبي طالب(23 قبل الهجرة – 40 هجرية = 599-661) الذي تحول إلى نموذج محوري، وشخصية تأسيسية،
وكيان جوهري ذائب في جميع التيارات الشيعية. بحيث أصبح موشورا انكسرت في أشعته جميع
الإشكاليات السياسية النظرية والعملية (الأخلاقية) لثنائية الدين والدنيا. ومن ثم مرآة
تنعكس فيها كل القضايا المعقدة لفكرة المثال والواقع، أي كل المتناقضات الحية لوجود
الدولة والأمة. وهو السرّ الذي يفسر تماهي التشيع مع فكرة الإمام المعصوم، وأنسنة المطلق،
وفكرة الإمامة بوصفه عقيدة حية أبدية ثابتة، وارتباطها بالأشخاص والعقيدة بقدر واحد.
رغم أن الفكرة الجوهرية المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب كانت ترفع الحق والحقيقة على
الرجال، بمعنى أولوية الحقيقة وطابعها المعياري المطلق مقارنة بالأشخاص أيا كانوا وليس
العكس.
إلا
أن الفكرة المنطقية الخالصة والحقيقة المجردة الموضوعتان في أساس الفكرة السياسية لا
يتطابقان بالضرورة مع مجرى تطورها العملي. وذلك لما في المسار التاريخي والصراع الدرامي
من قدرة على سك المتناقضات في قالب مصقول هو عين "الجمال والجلال" تمام كما
يتحول حجر المرمر إلى أعمدة الهياكل المقدسة! وقد جرى صقل ونحت وتثبيت أعمدة الهيكل
المقدس للتشيع السياسي في مجرى المغامرات الدرامية الكبرى للخلافة (الراشدية والأموية
والعباسية) وآثارها اللاحقة، وبالأخص ما يتعلق منها بصعود الأموية إلى السلطة وتثبيت
نهجها السياسي على انه تمثيل لفكرة "أهل السنّة والجماعة"، ومقتل الحسين
بن علي (4 - 60 للهجرة) = (626 - 680) ثم انتفاضة المختار الثقفي (1-67 للهجرة) =
(622 - 686) ، وانتفاضة ومقتل زيد بن علي (76- 122= ت - 740) وأثرهما في توسيع مدى
التشيع العقائدي والسياسي الأول. بينما أدت الانتفاضات والمواقف الفكرية (الدينية واللاهوتية
والسياسية) اللاحقة إلى توسيع نماذج الفرق الشيعية وتباين مواقفها ما بين الغلو والاعتدال
فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية والسياسية على السواء. ومن ثم لكل منها رؤيته الخاصة
فيما يتعلق بالإمامة وقضاياها التقليدية في الفكر الإسلامي. وعلى العموم انقسمت التيارات
الشيعية إلى أربعة أصناف كبرى فيما يتعلق بفلسفتها السياسية، وهي التيار الإمامي الإثنيّ
عشري، والتيار الإسماعيلي، والتيار الزيدي، وتيار الفرق الغالية.
فقد
عمق الاتجاه الإمامي (الاثني عشري) ووسع الفكرة السياسية الشيعية من خلال إرساء منظومة
الإمامة بوصفها نصا إلهيا وممثلا بأجيال من الأئمة معصومة. الأمر الذي أعطى للفكرة
السياسية أبعادا مقدسة هي الوجه الأكثر "رفعة" ونقاء من الناحية الظاهرية
للفكرة السلفية السنية السياسية. إلا إنهما يكملان احدهما الآخر من حيث حصر الفكرة
السياسية بعدد من العقائد الدينية ومعتقدات الفرق اللاهوتية السياسية.
غير
أن الإمامية، طورت، بأثر الإرهاب المنظم ضدها من جانب السلطة وقواها الأيديولوجية
(السلفيات السنية بشكل عام والحنبلية بشكل خاص)، وبأثر الدور التاريخي الذي قام به
جعفر الصادق (80-148 للهجرة = 702-765)، مختلف التقاليد السياسية العملية مثل مبدأ
التقية، والباطنية الدينية والسياسية، وفكرة الخواص والعوام، وعلاقة النظرية بالسياسة
العملية، ومنهج الظاهر والباطن في التفسير والتأويل، وفكرة المهدي المنتظر وصاحب الزمان،
التي تحولت إلى عروة سياسية وروحية، ومصدر فكري وعقائدي لكيفية توظيف ثنائية الظاهر
والباطن والتفسير والتأويل، والتقية والثورة في العمل السياسي.
أما
التيار الإسماعيلي، فقد عمق نتاج الفكر السياسي للتيار الإمامي من خلال بلورته لعدد
من المنظومات الفلسفية العميقة عن فكرة الإمامة والسياسة، أي انه كان من بين أكثر التيارات
الشيعية إبداعا من الناحية الفكرية والفلسفية والخيالية. كما انه أول من بلور ودقق
واستعمل الأشكال التنظيمية السرية للعمل السياسي، وأرسى أسس نظرية خاصة عن علاقة الخواص
والعوام (النخبة والجمهور)، والظاهر والباطن في علاقة وفكرة الأئمة المستودعين الجسمانيين
والروحانيين وكثير غيرها، واستطاع توظيفه في الدول الكبرى التي أنشئها كالخلافة الفاطمية
في مصر، والإمامة الزيدية في اليمن، والدولة الصفوية في إيران.
وتجدر
الإشارة هنا انه كما لا يختلف سلوك العباسية عن الأموية فيما يتعلق بفكرة السلطة، كذلك
لا يختلف سلوك التشيع حالما وصل إلى السلطة في المغرب ومصر (الفاطمية) واليمن (الزيدية)
وإيران (الإمامية) فيما مضى، عمن سبقه في تاريخ الإسلام بهذا الصدد. وذلك لأنه أدى
في نهاية المطاف إلى استعادة نفس تقاليد الأموية والعباسية في الموقف من السلطة. والسبب
يكمن في أنهم جميعا لم يستطيعوا الخروج بصورة نهائية عن اطر الرؤية الدينية اللاهوتية
في الموقف من النظام السياسي. بمعنى أنهم جميعا كانوا محكومين بفكرة السلطة. والفرق
بينهم يقوم في اختلاف تأسيسهم النظري لفكرة الإمامة (الخاصة بهم).
في
حين أكثر من مثل صنف اللاهوتية السياسية في الفكرة السياسية، هي تيارات المعارضة الأولى
من خوارج، ورجال القدرية الأوائل مثل الحسن البصري، ومفكري الجبرية الأوائل مثل الجهم
بن صفوان وغيلان الدمشقي.
فقد
مثل الخوارج في تقاليدهم السياسية احد النماذج الراديكالية التي لازمت إرهاصات الضمير
الملازمة لانكسار الوحدة وتجزئتها، التي عادة ما ترافق الانعطافات الحادة في تاريخ
الأمم الصاعدة والأديان والفلسفات الكبرى. فهي تساهم في تعميق التجربة السياسية وإدخال
ما يمكن إدخاله من عناصر الراديكالية المعنوية، كما تفعل في الوقت نفسه على ربط المكونات
المتصارعة في رؤيتها الخاصة. الأمر الذي يجعلها شديدة الحساسية تجاه كل من وما يعارضها.
مما يؤدي بها في حالات عديدة إلى نتائج متضاربة لكنها تكمل الأخرى، لعل أكثرها بروزا
هي الغلو السياسي، والفوضوية المتسامية، والتزمت الأخلاقي، وهوس الشك الوجداني (الخطيئة
والتوبة). وكل ذلك مخلوط بفكرة ونفسية التمرد والمعارضة لتقاليد الاستبداد.
واستطاع
الخوارج تأسيس الصيغة الأولية لأولوية الأمة على الدولة، والإنسان على السلطة، والحق
على المصلحة، التي وجدت انعكاسها الأول في تراكم وحدة القيم والمفاهيم النظرية والعملية
تجاه إشكاليات الحياة الفعلية. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل من فكر الخوارج نموذجا
أوليا لصنع المنظومات الفكرية في تاريخ الثقافة الإسلامية. فهم أول من أسس لوحدة المبادئ
النظرية والعملية، بمعنى إنهم أول من وضع أسس المنظومة الفكرية في تاريخ العقل الثقافي
الإسلامي. ومن خلالها أسسوا لفكرة الحرية، والمساواة، والانتخاب، والعلم والعمل، والاستقامة
وغيرها من خلال ربطها بتصوراتهم عن "حكم الله" أي تصوراتهم عن المطلق الإسلامي.
من هنا رفضهم الشديد لتجزئة ثنائية الإسلام والإيمان، لأنهم وجدوا فيها ثغرة الانكسار
المادي والمعنوي للشخصية الإنسانية وفكرة الحق والقيم الأخلاقية والروحية.
بينما
نعثر في القدرية الأولى بشخصية الحسن البصري (21- 110 للهجرة = 642 – 728) على الصفة
الفردية والفردانية لإمبراطورية الروح المناهضة لسلطان السلطة المستبدة. وذلك لأنه
جسّد بذاته خزين معارك القرن الأول للهجرة وصراعاته وبحثه عن البدائل، أي كل ما كان
يحتدم في أعمق أعماق النفس واشد مظاهرها بروزا في حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي
للفرد والجماعة والأمة والدولة. مما جعل منه في العرف الإسلامي العام احد المصادر الكبرى
للفكرة الإسلامية المتسامية رغم تباين المواقف السياسية منه. وهو أمر طبيعي. فالشخصية
الكبرى، التي تنذر نفسها من اجل صنع "الإجماع" عادة ما تصبح احد مصادر الخلاف
الأكبر. كما أنه القربان الروحي الضروري لكي تتكامل الدولة بمعايير الحق. وهي الفكرة
التي حاول الحسن البصري تحقيقها في سلوكه العملي وأفكاره الأخلاقية. بمعنى انه سعى
لأن يحقق في ذاته نموذج المواقف المتسامية عن صراع القوى الحزبية ونزوعها الضيق وأوهامها
وأهوائها وظنونها الجازمة! مما جعل منه نغما متموجا في دبيب النفس الاجتماعية، والعقل
الحر، والروح الأخلاقي. بحيث جعله على الدوام محل الاحتكاك والحراك، كما جعله قريبا
من الجميع وبعيدا عنهم. أما في الواقع فان القرب والبعد ليسا إلا الصيغة الظاهرية عن
حقيقة بعده عن الباطل والخطيئة والرذيلة وقربه من الحق والصواب والفضيلة. أما الحصيلة
العامة لكل ذلك في مجال الفكرة السياسية، فانه يقوم في تأسيسه الأول للوحدة الضرورية
بين السياسة والأخلاق من خلال ربطهما بفكرة الحق والحقوق.
وإذا
كانت القدرية الأولى كما مثلها الحسن البصري هي الرد الظاهر على جبرية الأموية السياسية،
فان الجبرية المتسامية، كما مثلها الجهم بن صفوان (78 – 128 للهجرة = 696 – 746)، هي
الرد الباطن عليها من خلال تذليل جبروت السلطة بجبروت المطلق الأخلاقي. بعبارة أخرى،
إن الجبرية المتسامية هي صيرورة الصيغة الباطنية لجبروت الإرادة الإنسانية بوصفها ظلا
من ظلال الإرادة المتسامية (الإلهية). وبالتالي هي الرد الفلسفي - اللاهوتي الجديد
على أوهام الجبرية السياسية للأموية وحدودها الهمجية.
فقد
واجهت الجهمية جبرية الأموية السياسية بفكرة "الجبرية" المتسامية. أما في
الواقع، فان "الجبرية" الجهمية ليست إلا الصيغة النظرية والعملية للوحدانية
الأخلاقية التي تذّوب جميع خامات السلطة أمام حرارة صدقها في العلم، كما تذّوب أمام
إخلاصها في العمل كل دعاوي الإرادة الكاذبة للسلطة. مما جعل من إرادة السلطة ومشيئتها
أشبه ما يكون بنشارة متناثرة مقابل مغناطيس الفكرة الوحدانية الأخلاقية للجهمية. وقد
أرعب ذلك السلطة بوصفها الصيغة المكملة لحالة الرعب التي أثارها فكر شيخه الجعد بن
درهم (46 – 105 للهجرة = 667 – 724). إذ اكتشفت الأموية فيهما "عدو الداخل"،
بعد أن كان صراعها الأساسي ضد "عدو الخارج". وهنا التقت للمرة الأولى القدرية
والجبرية في وحدة الهموم الأخلاقية. وكشفت عن أن "جبرية" السلطة هي الوجه
المخادع لمساعيها الخاصة من أجل تملك إرادة الكلّ، كما أن مساعيها لتملك إرادة الأمة
والأفراد ليست إلا الوجه الصريح لنفسية التجبر والسلطان. وفي كلتا الحالتين تمثلان
خروجا على الحق والعدل والتاريخ. وهو خروج كانت ملامحه المعاكسة تتراكم في تحسس معاناة
البحث عن بدائل هي عين المنظومة النافية للتجزئة الماكرة التي لازمت صعود الأموية إلى
سدة الحكم واستمرارها المتقطع فيه. ووجد هذا التحسس انعكاسه فيما يمكن دعوته بالانصهار
التاريخي لكافة هذه المكونات التي أدت إلى إدراك القيمة الضرورية للنظام والمنظومة.