أبحاث
الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة (8)
ميثم
الجنابي
ااستثار
الصعود المتنامي للمركزية الإسلامية الحديثة أنماط أخرى جديدة في تأمل وتأسيس النشاط
السياسي، تمثلت تقاليد
الإسلام العقلية والعقلانية والإصلاحية والفلسفية القديمة مع تأثر حي بنتاج الفكر الأوربي الحديث بشكل عام والفرنسي والانجليزي بشكل خاص. من هنا الانزواء النسبي للوهابية وانحصارها ضمن الجزيرة العربية، وصعود حركات الإصلاح الحديث والنهضة القومية الأدبية والإصلاحية في مختلف مناطق العالم الإسلامي.
الإسلام العقلية والعقلانية والإصلاحية والفلسفية القديمة مع تأثر حي بنتاج الفكر الأوربي الحديث بشكل عام والفرنسي والانجليزي بشكل خاص. من هنا الانزواء النسبي للوهابية وانحصارها ضمن الجزيرة العربية، وصعود حركات الإصلاح الحديث والنهضة القومية الأدبية والإصلاحية في مختلف مناطق العالم الإسلامي.
ففي
العالم العربي نرى الملامح الظاهرية والفعلية لهذا النمط الإصلاحي الجديد في شخصيات
جمال الدين الأفغاني (1839-1897)، ومحمد عبده (1849-1905)، وعبد الرحمن الكواكبي
(1849-1903)، وغيرهم. وفي العالم الإيراني (العراقي) نراها على مثال محمد حسين النائيني
(1273-1355 للهجرة) وغيرهم. وفي العالم الهندي نراها على مثال احمد خان
(1817-1889) وأمير علي (1849- 1928) ومحمد إقبال (1877- 1938) وغيرهم. وفي العالم التركستاني
- الروسي على مثال "الحركة الجديدية" وشخصياتها الكبيرة مثل شهاب الدين مرجاني
(1818-1889)، ومفتاح الدين اكمولا (1831-1895)، وحسين فيض خان (1823-1866)، وإسماعيل
غاسبرينسكي (1851-1914)، وموسى بيغيف (1874-1949) وغيرهم.
فقد
أسست الإصلاحية الإسلامية الكلاسيكية بشخصية الأفغاني وعبد والكواكبي لثلاث أفكار كبرى
هي بقدر واحد مبادئ متسامية ومناهج عملية.
فقد
أسس الأفغاني لفكرة كيفية مواجهة العدو الخارجي (الكولونيالي الأوربي) من خلال بلورة
مبادئ الجامعة الإسلامية والهموم الفعالة المشتركة والسعي العملي للحرية السياسية والأصالة
الثقافية.
بينما
أسس الكواكبي لفكرة كيفية مواجهة العدو الداخلي (الاستبداد) من خلال بلورة مبادئ العمل
السياسي الاجتماعي من اجل القضاء على الاستبداد ومن ثم بناء الدولة القومية الحديثة
المتنورة بمبادئ الحرية والعدل والمساواة والنظام الدستوري.
أما
محمد عبده فقد أسس لفكرة كيفية مواجهة العدو الباطني من خلال بلورة منظومة الرؤية الواقعية
للتنوير والنهضة الثقافية والعلمية الأصيلة عبر محاربة التقليد والجمود الفكري والعقائدي.
وقد
سار محمد إقبال من حيث الجوهر ضمن نفس فصول وأصول الأفكار الكبرى للإصلاحية الإسلامية
الكلاسيكية، ولكن من خلال تطبيقها العملي على واقع الهند وتوظيفها السياسي المباشر
في فكرة الدولة الإسلامية (الباكستان).
أما
النائيني فقد كان الأكثر تدقيقا وتوفيقا في فكرته السياسية الإصلاحية، التي وضعها في
احد أدق الرسائل الفكرية الحديثة للفكرة الإصلاحية الإسلامية السياسية كما هو جلي في
كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة).
لقد
انطلق النائيني من أن ما اتفق عليه "عقلاء العالم أجمع، هو أن استقامة نظام وحياة
النوع البشري متوقفة على وجود سلطنة وحكومة سياسية، سواء قامت بشخص واحد أو بهيئة،
وسواء كان المتصدي لها غاصباً قاهراً أو وارثاً منتخباً". وانه "مما هو معلوم
بالضرورة أيضاً أنه لا يمكن حفظ شرف استقلال أية أمة أو قومية وحفظ خصائصها الدينية
والوطنية إلاّ إذا كان النظام الحاكم فيها منتزعاً منها".
وان
استعراض تاريخ ونوعية السلطة (النظام السياسي) تشير إلى أن الأنظمة القاهرة (الاستبدادية)
هي مصدر خراب الأمم واندثارها. بينما تكشف التجارب القديمة والحديثة عن أن أفضل الأنظمة
السياسية هي الأنظمة الدستورية، التي تصنع سلطة تناسبها هي "السلطة المحدودة،
والمقيدة، والعادلة، والمشروطة، والمسئولة، والدستورية". أما بنائها فمرتبط بأمرين
وهما "إيجاد دستور وافٍ بالتحديد المذكور، بحيث تتميز الوظائف التي يُلزم السلطان
بإقامتها عن المجالات التي لا يحق له التدخّل فيها والتصرف بها. ويتضمن أيضاً كيفية
إقامة تلك الوظائف وإيضاح درجة استيلاء السلطان وحرية الأمة وما لفئاتها وطبقاتها من
حقوق، على وجه يكون موافقاً لمقررات المذهب ومقتضيات الشرع"، والثاني "إحكام
المراقبة والمحاسبة، وإيكال هذه الوظيفة إلى هيئة مسددة من عقلاء الأمة وعلمائها الخبراء
بالحقوق الدولية المطلعين على مقتضيات العصر وخصائصه، ليقوموا بدور المحاسبة والمراقبة
تجاه ولاة الأمور الماسكين بزمام الدولة، بغية الحيلولة دون حصول أي تجاوز أو تفريط،
وهؤلاء هم مندوبو الأمة والمبعوثون عنها".
ووجد
في هذا النظام السياسي الدستوري ضمانة الحرية والمساواة، باعتبارهما أهم مبادئ الوجود
الإنساني الحق. ووجد في هذه الحصيلة شيئا يستجيب ويتطابق مع حقيقة الفكرة الإسلامية
عن الدولة والسلطة والحاكم. من هنا رده بنفي قاطع على ما إذا كان من الممكن في العالم
الحديث وجود بديل عن الحكم الدستوري. ووضع ذلك في أجوبته على ما اسماه بالشبهات التي
أثيرت حول الحكم الدستوري. إذ وجد فيها مجرد وساوس، هي بدورها كانت وما تزال
"ناتجة من أعمال الطواغيت وجبابرة الأمم ومن إفرازات شعبة الاستبداد الديني. وقد
ألقيت من قبل بعضهم بهدف الحفاظ على شجرة الاستبداد الخبيثة".
ولا
تشذ الفكرة الإصلاحية وشخصياتها في العالم الروسي والتركستاني عن هذا الاتجاه العام
رغم خصوصيته النسبية آنذاك. فقد كانت شخصية المرجاني، على سبيل المثال، تجسيدا حيا
للروح الإصلاحي العقلاني والتنويري النقدي. فهو الأول من بين التتر المسلمين في روسيا،
الذي استطاع إرساء التقاليد الإصلاحية العقلية في مختلف الميادين العلمية والعملية.
وأرسى هذه الأسس من خلال محاربة التعصب وضيق الأفق الديني والثقافي والقومي. وتجلى
ذلك بوضوح في موقفه من الاجتهاد والدعوة الدائمة إليه. وانطلق بذلك من يقينه بأنه لا
إنسان معصوم من الخطأ، وان الاجتهاد فضيلة، وبابه مفتوح على الدوام. لأن التقليد يحّجر
عقل الإنسان ويقلل من قدره وقيمته، بما في ذلك من وجهة نظر الإيمان. كما أن محاربة
الاجتهاد هو منافاة لحقيقة الدين الإسلامي. فالتقليد يجعل الإنسان عبدا للماضي ويقيّد
عقله الذي وهبه الله إياه للتفكر والإدراك. لاسيما وأن الإسلام لا يقرّ بعبودية لغير
الله، ومن ثم فان العبودية لغيره أيا كانت هو منافاة لحقيقته.
أما
إسماعيل كسبرالي (غاسبرينسكي) ، فقد أرسى رؤيته الإصلاحية من خلال فكرة ومشروع (الوفاق
الروسي الشرقي). فقد كانت أعماله الفكرية تهدف إلى إنهاض الروح العملي عند المسلمين.
وانطلق في رؤيته عن وحدة المسلمين من ضرورة اعتمادها على عقول مستنيرة وناس قادرين
على التضحية والعمل. وهي مهمة مستحيلة في ظل سيادة الجهل والتخلف المادي والمعنوي.
من هنا وضعه قضية الاهتمام بالمعارف والعلوم في صلب تصوراته الإصلاحية. وأكد بهذا الصدد
على ضرورة الاستفادة من إيجابيات الثقافات الأخرى في مختلف الميادين والعلمية منها
بالأخص. فهو يسير هنا في نفس تقاليد العقلانية الإسلامية وتقاليدها الإصلاحية القديمة
عن أن العلم بحد ذاته فضيلة. بحيث جعله ذلك يقر بإمكانية بل وبضرورة توسع روسيا في
المناطق الإسلامية ولكن بشرط مساهمتها في إنهاض المسلمين ثقافيا وعلميا. وبنى اجتهاده
هذا، الذي كان يهدف ضمن تصوراته إلى خدمة وحدة المسلمين على اعتبارين، الأول هو حقيقة
الإسلام التوحيدية والأممية، والثاني رؤيته عن طبيعة المكونات الثقافية لروسيا نفسها.
ووضع في الاعتبار الأول الفكرة القائلة بان عظمة الإسلام تقوم في قدرته ومساعدته المسلمين
على الاحتفاظ بهويتهم الثقافية. من هنا فانه لا معنى لتجزئة المسلمين على أساس العنصر
والمكان والتراب. ووضع في الاعتبار الثاني ما اسماه بالعامل الوسط في الثقافة الروسية
بين الغرب والشرق، وبالعامل الوسط للمسلمين في روسيا بين روسيا وعالم الإسلام. وأعطى
لهذه "الوسطية" أيضا أبعادا سياسية وروحية، بحيث جعلته يتكلم عن "المكان
الشرعي" للروس والمسلمين في روسيا بين الغرب والعالم الإسلامي، وذلك بفعل التوافق
الباطني بين المسلمين والروس.
وحاول
أن يؤسس لفكرته عن الوفاق الروسي – الشرقي(الإسلامي) من خلال ربط الأبعاد الجيوسياسية
والثقافية للعلاقة الروسية – الإسلامية في كل واحد. فقد انطلق مما اسماه بضرورة تذليل
خطورة الصين والإنجليز. فالصين تتميز بسيادة فكرة السلطة من اجل السلطة والتصنين، الذي
يسحق الأصالة الثقافية للشعوب والقوميات الأخرى، بينما يتميز الإنجليز بالصلف وعدم
احترام تقاليد الشعوب الأخرى. أما الروس فإنهم على خلاف ذلك. فهو لم ير شعبا سائدا
يعامل الشعوب الأخرى الخاضعة له ضمن الدولة على قدر المساواة، كما أنهم ينظرون إلى
الآخرين كما لو أنهم منهم واليهم. ولا يتميز الشعب الروسي بروح العداء للمسلمين، بل
هم أكثر تسامحا واعدل في علاقتهم بالشعوب التركية المسلمة في روسيا من أتراك السلطنة
العثمانية تجاههم. إضافة لذلك أن الروس يختلفون عن الأوربيين الغربيين المتميزين بالأنانية
والنفعية الباردة. فالمسلمون يرون في الروس أيضا ذاتهم المشتركة مثل الانفتاح والتسامح
والصداقة وحب الآخرين. لهذا اشترط في ترسيخ الوفاق الروسي الإسلامي اعتماده على الشعور
المشترك بالانتماء المعنوي لروسيا، لا على أساس الاعتبارات النفعية والسياسية الضيقة.
وطالب المسلمين بان يكونوا أولا وقبل كل شيء وطنيين والعمل مع الروس من اجل التنوير
والنهضة.
ويفترض
ذلك من الدولة الروسية العمل من اجل تخليص المسلمين من الجهل والتخلف. إذ لا ينبغي
أن تكون السيطرة الروسية من اجل السيطرة والاستغلال ودفع الجزية. ومن العيب على روسيا
أن تكون مهمتها بهذا الصدد مجرد الاستعاضة عن القاضي بتسمية الحاكم وعن النائب بتسمية
الشرطي. إن مهمة روسيا كما خطط لها كسبرالي في الوفاق المفترض هي مهمة حضارية. واعتقد
بان سياسة كهذه سوف تدفع حدود روسيا إلى كل مناطق الأتراك المسلمين. بحيث تصبح هذه
المناطق عاجلا أم آجلا جزءا من الدولة الروسية.
إننا
نعثر فيما جرى استعراضه بصور مكثفة لبعض نماذج الإبداع النظري والسلوك العملي لرجال
الإصلاحية الإسلامية على نوعية الرؤية الإصلاحية المرافقة لكمية ونوعية التحولات الاجتماعية
والسياسية والثقافية والروحية في العالم الإسلامي آنذاك. كما تنعكس فيها تنوع التجارب
الفردية والقومية من جهة، ونوعية الحلول الواقعية والمفترضة من جهة أخرى. والاهم من
ذلك أنها استعادت بطريقة جديدة وآفاق مستقبلية ثنائية الدين والدنيا دون أن تجعل منها
مرجعية لاهوتية. بمعنى أنها نظرت إليها بوصفها مرجعية ثقافية سياسية. من هنا جوهرية
التحرر والحرية من الغزو الكولونيالي، وأهمية النهضة العلمية والثقافية بوصفها الصيغة
المكملة أو الخط الموازي للتحرر الفعلي. وكلاهما يشكلان خطوط القاطرة الجديدة للرقي
المادي والمعنوي بوصفه حقيقة الإسلام وجوهره.
***