جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

الظاهرة الإسلامية السياسية الحديثة(9)



ميثم الجنابي



إن كل ما جرى استعراضه وتحليله بصورة مكثفة ومجردة من تيارات كبرى ضمن سياق ما أسميته بالمركزية الإسلامية الحديثة، يكشف عن طبيعة المسار التاريخي للفكرة السياسية الإسلامية الحديثة، بوصفها تحديا للنفس في مجرى الصراع مع الغزو الخارجي. ذلك يعني أنها لم تكن مسارا تلقائيا خالصا. الأمر الذي لم يعط لها حرية التحرر التلقائي، بل حرية المواجهة والتحدي. وبالتالي تعرضها إلى ضغط التقاليد الذاتية القديمة والرجوع إليها في كل صغيرة وكبيرة من اجل تأسيس اليقين الجديد، وكذلك تعرضها إلى ضغط القوى الكولونيالية الأوربية وغزوها الثقافي والعسكري والسياسي في مجرى تأسيسها للفكرة السياسية العملية. الأمر الذي جعلها محاصرة بين تيارين كلاهما لا ينتجان حرية تامة وأصالة مبدعة. من هنا الطابع الدرامي لكل تلك المرحلة التاريخية التي لازمت مخاض "المركزية الإسلامية" الجديدة المجزأة جغرافيا وقوميا، والمتوحدة نسبيا في كمية ونوعية همومها الخاصة. وفيما بينهما تهذبت وتشذبت وتطورت مختلف النظريات السياسية العاملة من اجل استعادة أو تنشيط مرجعية علاقة الدين (الإسلام) بالسياسة. لكنه تهذّب وتشذّب لم يكن في اغلبه نتاج تأمل عقلي أو نظري "هادئ"، بقدر ما كان نتاج صراع هائل اشتركت فيه قوى اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة ومتصارعة ومتعادية من لندن حتى بطرسبورغ ومن اسطنبول حتى فاس. ومع ذلك يمكننا أن نرى فيه ملامح السطوة الخفية لمآثر الأسلاف وسلفية الذهنية الدينية من جهة، ودراما التاريخ الفعلي الحديث من اجل الخروج من الدورة المغلقة لحلقة الدين والدنيا اللاهوتية، من جهة أخرى.

ففي هذه العملية المترابطة والمتوحدة والمعقدة التي جرت على مدار أكثر من قرن من الزمن الحديث في العالم الإسلامي، يمكننا رؤية ملامح الموجات الأربع القديمة لتطور الفكرة السياسية الإسلامية. وهي على التوالي.
الموجة الأولى، التي تمثلت ومثلت التقاليد الدينية اللاهوتية.
والموجة الثانية، التي تمثلت ومثلت التقاليد اللاهوتية السياسية للإصلاحية الإسلامية والتقاليد الإصلاحية بشكل عام.
والموجة الثالثة، التي تمثلت ومثلت التقاليد اللاهوتية السياسية.
وأخيرا الموجة الرابعة، التي تمثلت وتتوسع في تمثيل وتجسيد التقاليد السياسية الثقافية الحديثة. ذلك يعني، إننا نعثر فيها، بما في ذلك من حيث مسارها التاريخي، على نفس مسار التيارات الكبرى المتراكمة في التاريخ الإسلامي القديم، اي تيارات السلفية الدينية، واللاهوتية السياسية، والإصلاحية الإسلامية، والإسلامية الثقافية. بمعنى إننا نقف أمام صيغة محدثة للتقاليد الفكرية والسياسية القديمة، ولكن في ظل صيرورة جديدة للمركزية الإسلامية الحديثة.
وليس مصادفة أن تحتل فيها قضية علاقة الدين بالسياسة موقعا مهما، بوصفه الجزء الفعال والمتحرك في صيرورة المركزية الإسلامية الجديدة. وذلك لان التيارات الإسلامية الجديدة لم تكن "وقائع موضوعية"، بل قوى تاريخية ثقافية لها رؤيتها وعقائدها وتراثها. وعموما أن علاقة الدين بالدنيا ليست إشكالية بل ظاهرة. لكنها تتحول إلى إشكالية مثيرة حالما تتحول هذه العلاقة إلى "قران مقدس" يرتقي في وعيها إلى مصاف "القرآن المقدس"، بمعنى الجمع بين مكونات هي من ثمار المخيلة المريضة وفساد العقل اللاهوتي.
مما حدد بدوره أيضا النمط الخاص والمميز لعلاقة الدين بالسياسة. بمعنى إننا نقف أمام نمط إسلامي له حيثياته التاريخية والثقافية، تماما كما كان للنمط الأوربي حيثياته التاريخية والثقافية الخاصة. وبالتالي لا يمكن التطرق إليها بمعايير مجردة، أيا كانت، وذلك لان هذه المعايير تبقى في نهاية المطاف مجرد انعكاس وتمثل نظري لتجارب خاصة وجزئية، هي بدورها جزء من تخطى مراحل التطور الثقافي للأمم. وضمنها فقط تتجسد وتتطور علاقة الدين بالسياسة حسب أصولها الخاصة. فقد جرت على سبيل المثال في أوربا من خلال فصل الدين والكنسية عن الدولة. مع ما ترتب عليه من بلورة فكرة وتقاليد الدنيوية الحديثة. وقد جرى المرور بها عبر الرجوع إلى تقاليد ما قبل النصرانية (اليونانية الرومانية) بوصفها "عالمها القديم" على الأقل فيما يتعلق بالفكر الفلسفي والأدبي والجمالي والسياسي. ولم يخل ذلك من تعقيد درامي وحروب خارجية وداخلية طاحنة على امتداد قرون، وفي ظل انتقال نوعي من أنماط اقتصادية اجتماعية تقليدية إلى نمط لا تقليدي (رأسمالي) قبل أن تهدأ الفكرة والضمير على حرية الفكر والضمير!
بينما واجه العالم الإسلامي هذه القضية في ظل صراع عالمي مختلف القوى والتوازن والأنماط الثقافية والاقتصادية والثقافية والعلمية. بمعنى بقاء العالم الإسلامي بمعايير التطور الشامل ضمن الفروق الزمنية للتاريخ الديني (الهجري- الميلادي)، ومن ثم بقاء علاقة الدين بالسياسة ضمن خصوصيتها القديمة في الإسلام. والقضية هنا ليست فقط في انعدام الكنسية وطبقة رجال الدين وهرميتها الفاعلة في الوجود والوعي، بل ولتباينهما التاريخي والثقافي والعقائدي والحقوقي والسياسي، اي تباين تجاربهم التاريخية الثقافية.
فقد جرت حالة الانتقال من الوعي الديني اللاهوتي في أوربا عبر الصراع مع الكنيسة والدين، بينما اتخذت في العالم الإسلامي، وعلى خلفية المواجهات المتنوعة مع الغزو الكولونيالي الأوربي على أبعاد ثقافية ودينية وسياسية، جعلت من علاقة الدين (الإسلامي) بالسياسة آنذاك قوة ايجابية. ولم يكن ذلك نتاجا فقط لدور الإسلام المتبقي آنذاك بوصفه "حصنا منيعا" أخيرا ضد الهجوم "الغربي النصراني"، بل ولمآثره في الوعي الثقافي والسياسي بوصفه قوة الروح واليقين، ومآثر الثنائية الحية للإسلام والسياسة بوصفها مرجعية متسامية ونموذجية في العلم والعمل.
بعبارة أخرى، إن الانتقال من المرحلة الدينية اللاهوتية إلى المرحلة الدينية السياسية جرت في أوربا والعالم الإسلامي على العموم ضمن الخطوط العامة للتطور التاريخي الثقافي، اي الانتقال من الوعي الديني اللاهوتي إلى الديني السياسي (مرحلة الإصلاح الديني). لكن الصراع والمواجهة الحديثة بينهما جرت في ظل تباين شاسع بمعايير التجربة التاريخية والثقافية والسياسية. فحتى فكرة الرجوع إلى النصرانية الأولى في أوربا كانت تعني تذليل فكرة الكنيسة والوصاية والوساطة. بينما كانت تعني في الإسلام ربط الدين بالدنيا، والسياسة بالدين عبر الرجوع إلى مرجعيتها التاريخية الثقافية ونماذجها المتنوعة.
فقد كان الرجوع زمن النهضة الأوربية، على سبيل المثال، إلى الماضي يعني فيما يعنيه أيضا تخطي النصرانية أو نفيها أو عدم إدخالها في صلب الرؤية الفعلية للحاضر والمستقبل. بينما كانت تعني بالنسبة للنهضة الحديثة في عالم الإسلام مزيجا من تمثل تجربة أوربية حديثة (من النهضة حتى القرن التاسع عشر وثقافة الإسلام والعرب الأدبية والدينية والفلسفية)، اي أنها لم تحتو في أعماقها على نفي الإسلام وتقاليده. على العكس انه تحول إلى مصدر ومنافس فعال مع تيارات النهضة الدنيوية الحديثة. من هنا طبيعة الخلطة غير الصافية للفكر والتفكر والنظر إلى الحاضر والمستقبل. والاهم من ذلك أن إشكالات العقل النظري والعملي لم تكن في اغلبها إشكالات تاريخية ذاتية. من هنا عدم قدرتها على صنع وعي نقدي وعقلي وعقلاني ذاتي متماسك.
إذ لم تشكل علاقة الدين بالدنيا بالنسبة للوعي الإسلامي معضلة ولا مشكلة بالمعنى "الدنيوي" الحديث. على العكس! لقد كان الصراع يدور حول كيفية تهذيب وتشذيب هذه العلاقة بوصفها مرجعية متسامية ومنهجا للرؤية وأسلوبا للحلول. بمعنى البحث عن صيغة مثلى لها وليس نفيها. وبالتالي، فان الاختلاف والتعارض بين الرؤية الأوربية والإسلامية الحالية هي نتاج تباين في مراحل التطور التاريخي الثقافي ونمط الوعي السائد. ففي أوربا (وغيرها) لم تعد قضية فاعلة في تصير الدولة والمجتمع والثقافة، بينما هي في العالم الإسلامي الحالي جزء من صيرورة وتطور ومدى المركزية الإسلامية والانتقال الداخلي فيها من نمط الوعي الديني اللاهوتي إلى الوعي الديني السياسي.
أما ظاهرة الرجوع الدائم (أو الأخير) "للإسلام الأول" ومصادره الأساسية (القرآن والسنة) في الوعي السياسي وظاهرة "الإسلام السياسي"، بما في ذلك بعد قرن من "الحداثة الدنيوية" في العالم الإسلامي، فأنها كانت وما تزال نتاجا لأربعة أسباب جوهرية وهي:
• الانقطاع الثقافي الراديكالي الداخلي وهيمنة التقليد ومن ثم توقف التطور التلقائي،
• والانقطاع الراديكالي (الخارجي) بأثر الغزو الكولونيالي الحديث ومن ثم السير ضمن مسار الزمن الأوربي وليس التاريخ الذاتي،
• وعدم تذليل مرجعية الدين والدنيا الإسلامية بمرجعية دنيوية ثقافية حديثة،
• وان كل ما يجري هو في الوقت نفسه جزء من حالة الانتقال الدرامية من المرحلة الدينية اللاهوتية إلى السياسية ومنها إلى المرحلة السياسية الاقتصادية.
***
الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *