جاري تحميل ... مدونة عطا ابو رزق

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

الاستراتيجية الفلسطينية .......ضرورة التغيير 1/2



عبد المجيد حمدان

النشأة والأصول
لم يتوقف الجدل حول شرعية الدعوة لعقد جلسة المجلس الوطني، وشرعية القرارات المحتملة، إلا ليفسح المجال لجدل آخر حول الحراك الشبابي الحالي. في الحالتين، كما هي العادة، تركز الجدل الفلسطيني حول المظاهر العامة – القشور - ، متجنبا الاقتراب من الجوهر والمضمون .

مشكلة النضال الوطني الفلسطيني، الذي لم يهدأ، وتناوبت عليه أجيال بعد أجيال، منذ نشأة القضية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، رغم تعدد صنوف البطولات، وعظم التضحيات، وتنوع المبادرات، أنه، وفي الحساب الختامي، لم يسفر إلا عن الخيبات والنكسات. لماذا؟ سؤال لم يطرح على مدى القرن وثلث القرن من عمر هذا النضال، خوفا ربما من اكتشاف أن العلة تكمن في استراتيجية النضال، وأنها، الاستراتيجية، استحقت، بل واستوجبت المراجعة فالتغيير، ومنذ زمن طويل.
كتبت في: " دخول إلى حقل المحرمات "، الصادر في 2010، والمتوفر على مكتبة الحوار المتمدن، أن الخطيئة الأولى والأساس، للثورة الفلسطينية المعاصرة، أن عرفات بدأ من حيث انتهى الحاج أمين الحسيني، ودون مراجعة، أو محاولة تقييم للمنهج، للسياسات والممارسات، فتبين الأخطاء التي أدت لسلسلة الكوارث التي نزلت بالشعب الفلسطيني، وتاجها النكبة الكبرى. وقلت أن ذلك عنى إصرارا على تكرار ذات الأخطاء، فتهيئة الأذهان لاستقبال كوارث أشد هولا، وهو ما جرى في الواقع.

وكنت قبل ذلك، وفي كتاب " إطلالة على القضية الفلسطينية " الجزء الأول، والمتوفر أيضا على مكتبة الحوار، قد توقفت عند الإرث الاجتماعي، الفكري، الثقافي والتاريخي لشعبنا الفلسطيني، وانعكاساته على وعي القيادة الناشئة لمتطلبات المواجهة مع الحركة الصهيونية. فالوطن الفلسطيني، ومنذ ما قبل إمبراطورية الإسكندر المقدوني، وحتى سقوط الخلافة العثمانية، ظل جزءا من إمبراطورية كبرى، تحمل على عاتقها عبء ومسؤولية الدفاع عنه، وعن وحدة ترابه، وتطور شعبه. ونتيجة لذلك، لم يحدث في كل تاريخ الشعب الفلسطيني، أن راوده مجرد الشعور، بأن مسؤولية صد خطر يستهدف فلسطين وحدها، أو مع غيرها تقع على عاتقه.
حال هذا الوضع، وعلى مر هذا التاريخ الطويل، بين الشعب الفلسطيني وبين إفراز وتطور قيادات سياسية وطنية، يسكنها أي هم من الهموم الوطنية، الاجتماعية والثقافية، والتي سكنت قيادات الشعوب الأخرى. قد يقال؛ تلك لم تكن حالة فريدة، خصوصا في منطقتنا، وهو صحيح، لكن المؤامرة الصهيونية أعطتها تلك الفرادة. وزاد الطين بلة أن حكومة الباب العالي في اسطنبول، ورغم انكشاف أطماع الحركة الصهيونية، وانتقالها إلى التطبيق، مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، واصلت حرمان الشعب الفلسطيني، ولأكثر من ثلث قرن، من تخليق وتطوير مثل هذه القيادة.
لقد فاجأ سقوط الخلافة، وعد بلفور، الاحتلال فالانتداب البريطاني، تمدد الاستيطان اليهودي في العهد العثماني – أكثر من خمسين مستوطنة، وأربع مدن؛ ريشيون ليتسيون ، بتاح تكفا ، رحوبوت وتل أبيب -، فاجأ الشعب الفلسطيني الذي خرج من الخلافة بلا قيادة ، وفوق ذلك غارق في لجج الفقر ، الجهل ، الأمية والمرض . وبسبب شغور مواقع القيادة من أي شاغل ما، كان بديهيا أن يقفز إليها وعليها، المتنفذون اجتماعيا وماليا؛ إقطاعيون، رجال دين، ممثلو عائلات، تجار، رؤساء وأعضاء بلديات ...الخ، ودون أي امتلاك لمؤهلات القيادة السياسية الوطنية. وكان أن انعكس ذلك على تقدير تلك القيادة الناشئة خصوصا، والجماهير الفلسطينية عموما، لخطورة وعد بلفور من جهة، ولأطماع وقدرات وإمكانيات الحركة الصهيونية وقيادتها، ولدور دولة الانتداب البريطاني في تطبيق الوعد، من جهة أخرى.
لكن الحقيقة المرة، والتي دأبنا على تجاهلها، أنه ومنذ دخول الجيش البريطاني، وانتهاء الوجود العثماني، وحتى تشكيل أول هيئة قيادية، أواسط الثلاثينات، ظل الشعب الفلسطيني بلا قيادة، فعلية أو حتى شكلية، اللهم إلا إذا اعتبرنا تنافس ممثلي العائلات، الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي، على الحظوة لدى المندوب السامي البريطاني، هو هذه القيادة.
وقفة:
وما لم ولا نتوقف عنده، أنه، وفي هذه الفترة التي طالت لقرابة العقدين – 18 سنة من 1918 إلى 1936 -، تحددت معالم ذلك المستقبل غير البهي لفلسطين، ومن ضمنه معالم استراتيجية النضال الوطني الفلسطيني، سارية المفعول حتى يومنا هذا.
كيف؟
الجواب يتطلب وقفة مع الماضي. ذلك أننا في أبحاثنا وكتاباتنا، واصلنا تجاهل حقيقة أن الإرث التاريخي، الفكري والثقافي، والممتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، وفي مركزه شبه انعدام المسؤولية الوطنية، عن صد العدوان الخارجي، والحفاظ على وحدة الوطن، أن هذا الإرث تحول إلى نوع من الموروث الجيني عندنا كفلسطينيين، وعند أشقاء – سوريين، أردنيين، لبنانيين وعراقيين -عاشوا ذات ظروفنا. كما تجاهلنا حقيقة أننا لم نحظ بقيادة وطنية سياسية، احتاجها شعبنا وهو يواجه قوات الدرك العثماني، تطرده من أرضه، وتسلمها لليهود – قرى الخضيرة وملبس العام 1882، وحيث بنيت عليها مدن بتاح تكفا وهديرا ، وفيما بعد أرض المدورة في بيسان والتي كانت ملكا لزوجة السلطان عبد الحميد نفسه - . قيادة احتاجها الشعب حين حل البوليس الإنجليزي محل الدرك العثماني، في طرد الفلاحين من أرضهم وهدم قراهم – وادي الحوارث ومرج ابن عامر كمثال -. قيادة احتاجها ومصادماته مع المستوطنين وقوات الانتداب تتوالى مرة بعد أخرى، ولا تهدأ إلا لتعود إلى الانفجار من جديد.
لكننا اعتدنا النظر لظهور دور لممثلي العائلات -الحسيني والنشاشيبي بالأساس – في العلاقة مع المندوب السامي البريطاني، على أنه تجسيد لهذه القيادة. كما اعتدنا تجاوز معاني ما انطوى عليه سلوكهم مع حكومة الانتداب، والمتمثل في التقرب من المندوب السامي الأول، هيربرت صمويل، المكلف بوضع أسس وقواعد تطبيق وعد بلفور، ثم مع من خلفوه في التنفيذ.

ولو أننا أمعنا النظر قليلا، لرأينا أن هؤلاء الممثلين للعائلات؛ الحسيني، النشاشيبي، الشقيري، أبو ماضي، عبد الهادي .... الخ، لم يروا في الانتداب البريطاني، بعد خيبة الأمل التي خلفها فشل الثورة العربية الكبرى، غير صورة لحلول الدولة المركزية الجديدة – بريطانيا -محل الدولة المركزية القديمة – الخلافة العثمانية ومن سبقها -. وهكذا عاشوا تلك الفترة الفاصلة في تاريخ القضية – أل 18 سنة -، على وهم دفع إدارة الانتداب لحمل عبء مسؤولية الدفاع عن الوطن، والحفاظ على وحدة ترابه من جهة، ودفع مسيرة تطوره من جهة أخرى. ومن هنا جاءت تلك المراهنة، والمقامرة القاتلة، على ذلك التوصيف بعدالة هذه الإمبراطورية الاستعمارية، ومناصرتها لحقوق الشعوب المستضعفة. مراهنة برزت في صورة اقتصار عمل القيادة العائلية، كما كان الحال أيام الخلافة العثمانية، على التظلم من ارتفاع وتائر الهجرة اليهودية، والشكوى من تصاعد عنف عمليات طرد الفلاحين الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم، فالمناشدة بتطبيق العدالة.
ولأن عمليات الطرد لم تمر بلا مقاومة، ولأن الهبات، ردود الفعل، التي ظلت الجماهير البسيطة والفقيرة عمادها، قد تتالت، فقد كان طبيعيا أن تولد من رحمها، وأن تتبلور استراتيجية للنضال الوطني، وفي هذه الفترة – أل 18 سنة – التي مارس فيها ممثلو العائلات دور القيادة. استراتيجية نشأت وتبلورت عشوائيا، في خضم، ومن رحم، الهبات الشعبية المتلاحقة، وفي غياب أية منهجية، تستند لقواعد معرفية وفكرية.
فكما أشرنا، وحتى في عهد الخلافة العثمانية، قاوم الفلاحون الفلسطينيون إجراءات هدم قراهم، ترحيلهم، وتسليم أراضيهم لليهود. وفي عهد الانتداب تصاعدت المقاومة، وتتالت موجاتها واحدة بعد أخرى. ولم تعرف فلسطين فترة هدوء واحدة تقترب من الخمس سنوات. لقد حدث ذلك في غياب تام لقيادة واعية، موجهة لهذه المقاومة . وبسبب ذلك اتسمت المواجهات بالواقعية، والمناطقة في أحسن الأحوال. وفي اختيار أساليب وآليات وأدوات المواجهة، استند المقاومون إلى خبرتهم الخاصة، المستمدة من تراث وخبرة صراعاتهم العائلية والحمائلية. ذلك التراث القائم على اعتبارات المكانة والكرامة، والرافض لحسابات توازنات القوى، وحيث شكلت مقولة:" الموت ولا المذلة " الانتحارية، جوهر فلسفته الحاكمة. وليكون شعار؛" موش مهم نخسر، المهم أن لا نستسلم "، هو الشعار الحاكم في المواجهات. ولأن الصراعات الحمائلية عنيفة بطبيعتها، واقتصرت أدواتها على ما تيسر لأطرافها من السلاح الأبيض؛ الحجر، العصا، الشبرية – كان الشباب خصوصا والرجال عموما يتمنطقون بها -، الخنجر، السيف، السكين، فقد شكلت كلها أدوات الصراع مع الاستيطان، ومع إدارة الانتداب.
ولأن الفزعة، في التقاليد الشعبية، ظلت آلية الحشد المعتمدة، لمواجهة الخطر الخارجي المهدد للحامولة وللقرية. ورغم مخاصمتها لقواعد التنظيم، وانحيازها للفوضى وضعف الاستمرارية، فقد انتقلت لتشكل آلية الحشد في كل المواجهات. وحتى بعد هبة البراق التي استقطبت مشاركة وتأييدا شعبيا واسعا، وإرهاصات الثورة المسلحة التي لحقتها – ثورة جبل المكبر وحركة الكف الأخضر -، فقد تواصل الحفاظ على أدوات الصراع تلك من جهة، وآلية الحشد هذه من جهة أخرى. والأهم من كل ذلك حدث ذلك بمعزل عن قيادة كان عليها أن تتولى مهام التخطيط، الإدارة، الحشد، التعبئة، التوعية والتنظيم .... الخ.
المبادئ:
وبعد، يمكن تلخيص المبادئ التي قامت عليها هذه الاستراتيجية في التالي: 1-حتمية انتصار الحق وهزيمة الباطل. 2-مركزية القضية للأمتين العربية والإسلامية. 3-التفوق العددي – الكثرة تغلب الشجاعة -.
لم يكن غريبا، ولا مستغربا، أن لا يدرك جمهور غرق في عالم الغيبيات، وفي عزلة تامة عن متغيرات العصر وتقلباته، عدم صلاحية هكذا استراتيجية، قائمة على هكذا مبادئ، لكسب صراع بكل هذا التعقيد مع الصهيونية. لكن الغريب، والمستغرب في ذات الوقت، أن ترتقي هذه المبادئ إلى مراتب القداسة، عند الأجيال التالية، وحتى يومنا هذا.
إن نظرة فاحصة، مهما كانت عابرة، على المبدأ الحاكم لفلسفة الصراع مع الصهيونية، وعلى هذه الاستراتيجية ومبادئها، تظهر، وبوضوح شديد، القناعة الفلسطينية التامة، بتفوق العدو الصهيوني الكاسح، وفي مختلف الميادين، ومن ثم انعدام فرص صد خطره، ناهيك عن هزيمته، بالاعتماد على القدرات الذاتية وحدها. كما وتظهر، وبوضوح لا لبس فيه، أن القيادات الفلسطينية، على ضعف مؤهلاتها، وتدني درجات وعيها، كانت تدرك أن ذلك التفوق يرجع إلى ذلك البون الحضاري الفاصل بين طرفي الصراع. والحقيقة المؤلمة أن تلك القيادات، وهي ترى القيادة الصهيونية، تعمل بكل جد ودأب، على توسيع وتعميق ذلك البون، فقد رمت، هذه المسألة، وراء ظهرها، ونامت مطمئنة، على هدهدة أحلام استراتيجية تمت ولادتها على تلك الصورة العشوائية.
فعلى عكس قياداتنا التي واصلت العيش في الماضي، كانت القيادة الصهيونية ابنة العصر. تتابع متغيراته وتعيشها. تقرأ تاريخ صراع العصر وتعي دروسه. وهي لذلك تدرك تماما أن الصراع المقدمة عليه، رغم أنه صراع الحق الفلسطيني وباطلها، تحسمه القوة القابضة على زمام العلم وتقنياته. وأن الاستناد لأمة بحجم الأمة العربية، أو حتى الأمة الإسلامية، يبطله، وحتى يعكس اتجاهه، تعاطف قوى دولية نافذة، ورأي عام متقدم، يمكن الوصول إليه عبر استخدام متقن للإمكانيات والقدرات المتنوعة، والتي يملكها يهود العالم.
وفي موضوع التفوق العددي الفلسطيني، لم تقف جهود القيادة الصهيونية عند حدود الزيادة السريعة لأعداد المهاجرين الجدد، ورفع النسبة لعدد السكان فقط. ذلك أنها أولت اهتماما بالغا للنوع، العنصر الحاسم في كسب الصراعات، كما دللت عليه تجربة قرنين كاملين من تاريخ الاستعمار على مستوى العالم أجمع. ففي حين كان الإنسان، وجودة الخدمات المقدمة له، وعلى تنوعها، محط اهتمام وعناية القيادة الصهيونية، ظل في المقابل موضع إهمال القيادة الفلسطينية، آنذاك وحتى يومنا هذا. كيف؟
مفارقات:
حتى في العهد العثماني، وحين كان المستوطنون ما زالوا أقلية لم تصل إلى نسبة أل 10 %، فقد استقلوا في إدارة مجتمعهم، مشكلين ما يشبه دولة داخل الدولة، وليتوسع هذا الاستقلال في عهد الانتداب. أداروا تعليمهم، صحتهم، بيئتهم، صهروا شتات مجتمعهم، شقوا طرقهم، كهربوا مستعمراتهم، أقاموا بنيتهم التحتية ......الخ. ومع أن ذلك كله كان يجري تحت سمع وبصر الفلسطينيين وقيادتهم، وأن القيادة الصهيونية تبني مشروعا يستهدف التحول لدولة تحتل مركزا متقدما بين دول العالم، فإنه لم يحفزهم على تبني مشروع يسرع الخروج من حالة التخلف الكارثية، والموروثة من الخلافة العثمانية.
في التعليم مثلا اكتفت القيادة الفلسطينية بالثقة في جهد الانتداب، بنقل التعليم من نظام الكُتَّاب إلى النظام المدرسي. وهي لذلك لم تعر جودة التعليم، وهو مضمون البناء للمستقبل، أي اهتمام. وأغلب الظن أنها لم تدرك أهميته، رغم قوة مثل التجربة الصهيونية الماثلة. وهكذا وفي العام 47، بداية النكبة، كانت لدينا بضع مدارس ثانوية، ومدرسة فوق ثانوية واحدة، هي الكلية العربية. هشاشة هذا الوضع كشفته حقيقة أن عدد المتقدمين لامتحان الثانوية العامة، بلغ 219 طالبا فقط وفي كل فلسطين، بينهم عدد من الطلبة اليهود.
على الجانب المقابل، وضعت القيادة الصهيونية حجر الأساس لجامعة التخنيون حيفا العام 1912، أي في العهد العثماني، وللجامعة العبرية العام 1918، وبدأ معهد وايزمان – روحوبوت – العمل العام 1934. وفي العام 47 بلغ عدد طلاب الجامعة العبرية 2500 طالب وطالبة. وجدير بالذكر، مرة أخرى، أن جودة التعليم، والبحث العلمي تصدرت أولويات برامج القيادة الصهيونية آنذاك.
وفي الصحة، وحين كان الإنسان وصحته، يحتل صدارة اهتمام القيادة الصهيونية، وحين كان مستشفى هداسا مثلا يجمع بين خيرة المتخصصين وفي كل الفروع، بقيت فلسطين العربية بلا مستشفيات تقريبا. مرة أخرى عهدت القيادة الفلسطينية لإدارة الانتداب معالجة هذه التركة الثقيلة. صحيح أن الانتداب أنشأ عيادات ومراكز صحية مختلفة، لكن محافظة القدس، والتي ضمت ألوية القدس، رام الله، أريحا وبيت لحم كمثال، ظلت بلا مستشفى واحد، وحتى بداية العهد الأردني.
والمثالان السابقان ينطبقان على باقي المجالات. الريف الفلسطيني مثلا ظل مقطوعا عن المدينة، حتى ربطه الانتداب بطرق ترابية ضيقة ووعرة، خدمت أغراض تحركاته بالأساس. وسكانه واصلوا الشرب من قنوات الينابيع، إلى أن سقف الانتداب القنوات وبنى الحواويز – الخزانات-البديلة، ولم يعرف الريف الفلسطيني شيئا اسمه الصرف الصحي، وآخر اسمه البنية التحتية للاقتصاد. فقد بقي بلا كهرباء وشبكات مياه واتصالات حتى ثمانينات القرن الماضي وما بعدها.
وظل الحال الاجتماعي هو الأخطر. فالمجتمع الفلسطيني لم يعرف شيئا اسمه التنظيم حتى مطلع الثلاثينات، باستثناء مجالس بلدية في بعض المدن. وظلت الحامولة هي نواته. ولها -الحامولة والقبيلة والعشيرة -كان ولاء الفرد أولا وثانيا وثالثا وعاشرا، وفي مرتبة متأخرة يأتي الولاء للوطن. وكان مفهوم الوطن في الثقافة الدينية السائدة بدعة، والولاء له كفر. كما وتفوقت عوامل الخلاف على عوامل الائتلاف. لقد كان مجتمعا مفككا وأبعد ما يكون عن الوحدة.
وعلى العكس سار مجتمع المستعمرات. فالتنظيم في هيئات، مجالس مستعمرات وبلديات، جمعيات، نقابات، نوادي، تنظيمات سياسية وعسكرية ...الخ، صهر هذا الشتات غير المتجانس في كتلة واحدة متماسكة، وحتى شديدة الصلابة، وخلق منه مجتمعا حديثا بكل معنى الكلمة.
هيئة قيادية:
كان تواصل وتطور المواجهات، ونشوء الأحزاب السياسية، مطلع الثلاثينات، قد أنضج الظروف لنشوء هيئة قيادية عليا، رسا اسمها على الهيئة العربية العليا، ورئاستها للحاج أمين الحسيني.
ولما كان من غير المقدر لهذه القيادة، بسبب ظروف نشأتها، ومؤهلات أعضائها، أن تعيد النظر في استراتيجية النضال التي نشأت وترسخت في غيابها، فقد فاجأها الإضراب الكبير والشامل عام 36. كانت إدارة نضال بهذا العمق والاتساع أكبر من قدراتها. وذهبت مناشداتها لإدارة الانتداب أدراج الرياح.
وكانت خيبة الأمل، من فشل الثورة العربية الكبرى، قد تراجعت، إثر ظهور عدد من الممالك العربية، بشبه استقلال تحت الحماية البريطانية. ولأن منظمي الإضراب الكبير لم يستجيبوا لنداءات قيادتهم، فقد عهدت أمرهم للقيادة العربية الناشئة. وبالفعل توقف الإضراب نتيجة الوساطة العربية، وركونها لحسن نوايا بريطانيا الصديقة. وجاءت النتيجة بقدوم لجنة بيل وصدور قرار التقسيم الأول، والذي شكل صدمة قاسية للجماهير الفلسطينية وبعض أعضاء قيادتها الناشئة.
الثورة:
أسقط قرار التقسيم آخر مراهنات الحاج أمين على العدالة البريطانية. وفر، مع عدد من أعضاء القيادة، إلى سوريا ولبنان، مستفيدا من حالة الخصام بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني آنذاك. ومن منفاهم، " قادوا! " ثورة 37 – 39 التي اندلعت فور إعلان قرار التقسيم.
نحن في فلسطين لم نتوقف، لا مليا ولا سريعا، عند هذه المحطة الأهم على مدار النضال الوطني الفلسطيني. نعم؛ هي كانت واحدة من أعظم ثورات الشعوب على الاستعمار البريطاني. لكنها في ذات الوقت قدمت لنا اختبارا بالغ الأهمية لاستراتيجية النضال الوطني. فلقد أثبتت، وبالملموس أن بند مركزية القضية للأمة، معبرا عنها بالأنظمة الحاكمة، أو النظام العربي، قبض ريح. وهي في أحسن الأحوال وسيلة متاجرة، مقايضة وتثبيت لهذه الأنظمة. وجاء اختبار حرب العام 48 أشد سطوعا. كيف؟
أولا كانت ثورة 37 – 39 ثورة فلاحين شكلا ومضمونا، جرت المدينة لمساندتها. وهي، تبعا لأوضاع الريف؛ حيث سيادة الجهل، ضعف الوعي، الإيمان بالقدر، انتشار وتنوع الخلافات، تضارب المصالح، كانت عصية على الانضباط، التخطيط، التنظيم والتوجيه. وزاد الطين بلة وجود القيادة في الخارج، والصعوبة البالغة في وسائل الاتصال، الأمر الذي سهل على الانتداب تفعيل سياسة فرق تسد، وضربها من الداخل، وحيث حملت في سنتها الثانية الكثير من المآسي لشعبها. وثانيا أن هدف الثورة انقلب من مواجهة الصهيونية والاستيطان، إلى مواجهة دولة الانتداب، بصفتها راعية ومؤسسة وحامية الاستيطان. والثالثة والأهم، أن القيادة الفلسطينية لم تسترجع من القيادة العربية تلك الصلاحيات التي تنازلت عنها طوعا، لحل معضلة الإضراب الكبير، ولتكون الأخيرة هي القيادة الفعلية.
بانت هذه المسألة واضحة جلية، مع ظهور نذر الحرب العالمية الثانية، ومن خلال مناشدات هذه القيادة العربية فصائل الثورة وقفها، مساعدة للصديقة بريطانيا في جهدها الحربي ضد دول المحور، ومشفوعة بوعود إنصاف الصديقة بريطانيا لشعب فلسطين، عقب تحقيق النصر على النازية.
وجاءت نتائج الثورة التي كانت موضع إعجاب عالم المستعمرات بأسره، مخيبة لآمال الشعب الفلسطيني من جهة، وكسبا صافيا للحركة الصهيونية، والنظم العربية من جهة أخرى. الحركة الصهيونية التي أراحتها الثورة من عبء المواجهة حققت زيادة كبيرة في تدفق المهاجرين، وإقامة عشرات المستوطنات الجديدة أولا، واستغلال حالة الحرب لتحصين المستعمرات وتحويل عدد كبير منها لقلاع عسكرية ثانيا، وإنشاء المنظمات العسكرية ورفع وتائر التجنيد، التدريب والتسليح ثالثا، وتطوير استراتيجية الحركة الصهيونية بإضافة ضرورة الحرب مع الشعب الفلسطيني، لتحقيق حلم الدولة اليهودية، بالمساحة المطلوبة رابعا.
على الجانب الآخر، وعلى عكس نظيرتها السورية التي انتزعت اعتراف فرنسا بحق سوريا في الاستقلال، وقيام حكومة محلية، فشلت الثورة في تحقيق أي مكسب، وخرج الشعب منهكا، ومجردا حتى من الأسلحة البيضاء. واضطرت القيادة لمغادرة لبنان إلى بغداد. وبسبب انحيازها لثورة رشيد عالي الكيلاني غادرت إلى طهران. واستقر المقام بهرب الحاج أمين إلى ألمانيا وتحالفه معها.
لهذه الأسباب وغيرها واصلت القيادة مسلسل التنازلات عن صلاحياتها للقيادة العربية. وفي فترة الأربعينات كلها، وخصوصا بعد نشوء الجامعة العربية، باتت القيادة الفلسطينية شكلا مجردا من أية صلاحيات. ورغم شن اليمين الصهيوني حرب عصابات ضد إدارة الانتداب، بحجة عرقلتها تدفق موجات المهاجرين الهاربين من جحيم النازية، واصل الشعب وقيادته حالة السبات، وكأن ما يجري كان يحدث على كوكب آخر. أما القيادة، ممثلة بجامعة الدول العربية، فقد ردت بعقد سلسلة من مؤتمرات القمة، كان استبعاد القيادة الفلسطينية عنها، وتكريس نقل صلاحياتها، هي كل نتائجها.
حرب 48 والنكبة:
وكان أن حرب العصابات الصهيونية دفعت بريطانيا للطلب من الأمم المتحدة التدخل، وإنهاء انتدابها. ذلك التدخل الذي أسفر عن قرار التقسيم الثاني، رافعا حصة الدولة اليهودية من 22% في التقسيم الأول، إلى 56 % في التقسيم الثاني. وكان الرفض العربي والفلسطيني للقرار، والتلويح بالحرب؛ الهدف الذي خططت واستعدت له القيادة الصهيونية، وانتظرته بفارغ الصبر.
الحاج أمين، والذي كان لاجئا سريا في القاهرة، واستنادا لمبدأ مركزية القضية للنظام العربي، سارع إلى إعلان الحرب، والبدء في تشكيل جيش الجهاد المقدس، ومن الصفر، في وقت زادت القوات الصهيونية المزودة بأحدث الأسلحة عن الخمسين ألفا، بما في ذلك فرقة تمرست في ساحات الحرب العالمية الثانية. وتمثلت محصلة هذه الحرب الفلسطينية الصهيونية، ما بين 29 / 11 / 47 و15 / 5 / 48، في نجاح القيادة الصهيونية لتطبيق مخططها للتطهير العرقي، في كامل المنطقة المخصصة للدولة اليهودية، حسب قرار التقسيم. لم تهتم قيادة الحاج أمين لهذه الخسارات الفادحة. كانت واثقة ومطمئنة لقدرة العرب على استرجاعها، وإعادة بناء ما دمر. ولم يثر انتباهها في حينه، ولا في الفترات اللاحقة، واقع أن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين في 15 / 5، وقفت على حدود التقسيم، وبمن فيهم متطوعو جيش الإنقاذ، جيش الجامعة العربية، والتزمت استراتيجية الدفاع. وتتالت بعدها فصول المؤامرة العربية، من تسليم الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، وإلحاق الباقي بالأردن، والإطاحة بحلم الاستقلال وتقرير المصير. ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد. فقد استكمل في اتفاقيات رودس للهدنة، والتي وظفت الجيوش العربية حارسة لحدود دولة إسرائيل الناشئة، وضامنة لأمنها واستقرارها من جهة، وتبديد حلم العودة في مؤتمر لوزان الخاص بتطبيق القرار 194 الداعي لعودة اللاجئين، من جهة أخرى.
ومن هذا المكان، من حيث انتهى الحاج أمين، بدأ عرفات وباقي الفصائل مشوار الثورة الحديثة. ورغم أن مياها كثيرة مرت من تحت الجسر، لم تر القيادة الفلسطينية الثورية، مبررا لإعادة النظر في هذه الاستراتيجية. كيف؟ ........يتبع في الحلقة القادمة.

الاستراتيجية الفلسطينية ......وضرورة التغيير 2/3
2015 / 11 / 23
الحركة بفعل القصور الذاتي
قلنا أن عرفات، والثورة الفلسطينية الحديثة، بدآ من حيث انتهى الحاج أمين، رغم أن الفاصل الزمني بينهما كان أيضا، ويا لغرائب الصدف، 18 سنة – من 49 إلى 67 -، تجدد فيها بقاء الشعب الفلسطيني المشتت بلا قيادة. فترة شهدت متغيرات كثيرة وعميقة؛ وطنيا، عالميا، عربيا وإسرائيليا، أو كما يقال، مرت فيها مياه كثيرة من تحت الجسر. ومن حقنا الآن أن نسأل: هل وعى عرفات والقيادة الجديدة هذه المتغيرات، وتأثيراتها المتبادلة، قبل أن يتخذوا قرارهم بالبدء من حيث انتهى الحاج أمين؟ أو بعبارة أخرى، قبل تبني نفس استراتيجية النضال الوطني، والتي كما سبق وأوضحنا في الحلقة السابقة، ولدت وتبلورت عشوائيا قبل أن تتبناها قيادة الحاج أمين؟ إذن وقبل محاولة الإجابة، تعالوا نتوقف قليلا عند بعض الخطوط العريضة لتلك المتغيرات.
1-وطنيا:
كانت النكبة قد أضافت لحالة تمزيق جسد الشعب وتفرقه في تيه الشتات، والعصف بهويته الوطنية، بعد إلحاق الضفة الغربية بالأردن، وإخضاع قطاع غزة لحكم عسكري مجحف، أضافت تمزيق بناه السياسية، الثقافية، الاقتصادية والاجتماعية، وخلقت واقعا جديدا، ومخالفا تماما للواقع القديم. ولم تكتف النكبة بتمزيق الأحزاب السياسية، كما فعلت بالهيئات والحياة الثقافية، بل ووأدت أكثرها، ولم يتبق غير شتاتي الحزب الشيوعي و جماعة الإخوان المسلمين، اللذين تواءمت أجزاؤهما مع الأوضاع الجديدة. ولأن الحياة لا تقبل الفراغ، فقد التحق الفلسطينيون، خصوصا منتسبو الأحزاب المنحلة، في الشتات وفيما تبقى من فلسطين، بأحزاب وحركات سياسية جديدة؛ وطنية، قومية وإسلامية، ظلت أجزاء من أحزاب وحركات عربية عابرة للقطرية. أما الهيئة العربية العليا، وبعد موت سريري طال لبضع سنوات، فذهبت دون أن يترحم عليها أحد، وحتى دون سرادق عزاء.
وكانت النكبة قد أطاحت بكامل التركيبة الاجتماعية لأغلبية الشعب، عقب تجريد الطبقات والفئات السابقة من ممتلكاتها. خلقت طبقة جديدة، تتساوى في الفقر وفي انعدام أدنى مقومات الحياة الإنسانية، عرفت باسم اللاجئين. صحيح أن التركيبة الاجتماعية، في الأجزاء المتبقية من فلسطين، بقيت على حالها، لكن إغراقها بالطبقة الجديدة المعدمة من جهة، وإلحاقها بالتركيبة الاجتماعية للدولة الحاضنة – إسرائيل، مصر والأردن -، من جهة أخرى، قضى على ما كان لها من قوى ونفوذ. ولأن الحياة لا تعرف السكون، فقد تواصل الفرز الاجتماعي في الظروف الجديدة، ونشأت نواة لطبقة رأسمالية وطنية وكومبرادورية، حلت محل طبقة الإقطاع وكبار الملاكين المنهارة، إلى جانب فئة فلاحين ضعيفة، واصلت البقاء في ريف الضفة والقطاع.
وكان منطقيا أن يبحث اللاجئون أولا، وباقي الفئات الاجتماعية، عن تعويض لحالة الفقر وكوابيس المعاناة التي وجدوا أنفسهم فيها، وأن يجدوا ضالتهم في التعليم الذي وفرته وكالة الغوث، وطورته لغير اللاجئين الأردن ومصر. وجاءت النتيجة بفئة واسعة من المتعلمين، الموظفين والمثقفين، لعبت أدوار متعاظمة في كل من الحياة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية أولا، ثم الثورية فيما بعد. ومن هذه الفئة الأخيرة، انحدرت القيادة الجديدة، والشابة، للثورة الحديثة. أي من أصول اجتماعية مغايرة لسالفتها، الهيئة العربية العليا، وبرصيد وتأهيل سياسي ومعرفي مغاير تماما.
2-عالميا:
على الصعيد العالمي، وفي فترة أل 18 سنة الجديدة – من 49 إلى 67 -، والتي بقي الشعب الفلسطيني فيها بلا قيادة، تعززت نتائج الحرب العالمية الثانية، وكان أبرزها:
 1-سقطت الإمبراطوريتان الاستعماريتان؛ بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، راعية تطبيقه، وحليفة وحاضنة الحركة الصهيونية، وفرنسا المستعمرة للمغرب العربي، والحليفة للحركة الصهيونية، من على عرشهما العالمي، متحولتين إلى دولتين من الدرجة الثانية.
 2-صعد الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة، كقوتين عظميين، إلى موقع قيادة العالم.
 3-دشنت نتيجة الحرب بداية انقسام العالم لكتلتي الاشتراكية والرأسمالية، ووضعت حجر الأساس لنهاية عصر الاستعمار.
 4-نشأ العديد من حركات التحرر الوطني، ونشب العديد من الثورات الاشتراكية والوطنية، والتي تكلل أكثرها بالنجاح.
 5-ولم ينقض عقد الستينات حتى كانت عشرات المستعمرات قد تحولت إلى دول مستقلة، حظيت بعضوية الأمم المتحدة. وفي العديد منها، انتقلت حركاته الوطنية وبنجاح، من طور الثورة الوطنية إلى طور الثورة الاشتراكية، وليتسع معها تفهم قضيتنا الوطنية، والتضامن معها، تضامنا واتساعا غير مسبوق.
 6 – ولأن الحرب الباردة نشبت مباشرة عقب انتهاء الحرب، ولأن العالم انقسم إلى كتلتين اقتصاديتين اجتماعيتين كبيرتين، الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، والرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، كان بديهيا أن تنشأ الأحلاف العسكرية، وأن ينحاز الاتحاد السوفييتي إلى، وأن يحتضن حركات التحرر الوطني، وأن تحتضن الولايات المتحدة القوى المحافظة، وأن تنشئ، تمول، تسلح، وتقود الثورات المضادة، وأن تتخذ من إسرائيل قاعدة متقدمة لها في المنطقة.
3- عربيا:
العالم العربي لم يكن بعيدا عن هذه التطورات. ففي هذه الفترة – من 49 – 67 -انتقلت دول الاستقلال الشكلي، في ظل الحماية البريطانية والفرنسية، إلى الاستقلال الفعلي. وبثورات مجيدة حققت أكثرية المستعمرات العربية استقلالها. وفيه نشأت، إلى جانب الأحزاب الشيوعية وجماعة الإخوان المسلمين، أحزاب وحركات وطنية وقومية وإسلامية جديدة، كلها عابرة للقطرية الوليدة، كما سبق وأشرنا. وفي هذه الأحزاب والحركات انخرط الفلسطينيون، مؤمنين أن طريق الوحدة العربية، والوحدة الإسلامية، هو الطريق لتحرير فلسطين. ونجح ممثلو الأحزاب والحركات القومية في اعتلاء سدة الحكم في كل من مصر، سوريا، العراق والجزائر. ومع أنها كلها، باستثناء مصر، تعرضت لسلسلة من الانقلابات العسكرية، وبالتالي عدم استقرار الحكم، إلا أن كل انقلاب كان يستهل بيانه بشعار تحرير فلسطين، باعتبار قضيته المركزية.
ومثل كل العالم، انقسم العالم العربي بين ملتصق بالقائم، ويسعى للحفاظ عليه، ولم يجد مجالا غير اللجوء للحماية الأميركية، وبين ثائر على هذا القائم، يسعى إلى تغييره والتخلص من إرثه الثقيل، ويمهد الأرض للانطلاق إلى أمام. ومن ثم وجد نفسه، مضطرا أو مختارا، في الجبهة العالمية للتحرر الوطني. ومبكرا جدا أدى هذا الانقسام إلى صراعات عربية عربية . الطرف الأول وجد في الأحلاف التي دعت لها بريطانيا وأمريكا فرصته، فيما وجد الطرف الثاني نفسه مجبرا على رفضها وقيادة الشعوب العربية وحركاتها التحررية لمواجهتها. وفي هذه المعركة الضارية، والتي امتدت على مساحة الوطن العربي، حقق الطرف الثاني انتصارا مؤقتا، ساهم مساهمة فعالة في انجاز استقلال من تأخر منها على الاستقلال.
ولأن فترة مواجهة الأحلاف وإسقاطها شهدت فورانا شعبيا هائلا، وصعودا للنشاط السياسي غير مسبوق، فقد دفع هذا الفوران النظم العربية إلى تجريب تحقيق الوحدة. وحدة بين دول ترفع لواء التحرر الوطني، مصر وسوريا أولا، ثم مصر، سوريا والعراق، ثم مصر وليبيا، ومصر والسودان فيما بعد. كما شهد وحدة مضادة بين مملكتي الأردن والعراق وبمباركة السعودية وأمريكا بالطبع .... الخ. وجاءت النتائج بفشل كل هذه التجارب، حتى أن دولتين – سوريا والعراق -حكمهما حزب واحد هو البعث، انتقلتا من حالة حسن الجوار، إلى حالة الخصومة القاسية.
ولسخرية القدر شذت وحدة الضفة الغربية مع الأردن، وهي الوحدة الإلحاقية، والمطيحة بهوية الشعب الفلسطيني، وبحقه في تقرير المصير، وبدولته المستقلة، كما أقرتها قرارات الأمم المتحدة، شذت عن حالة الفشل العامة تلك، وثبتت. والمدهش، في الفكر الفلسطيني، أن القوميين الفلسطينيين، ورغم معرفتهم بدور النظام الأردني في ضياع فلسطين، رأوها، وباقتناع تام، بداية الطريق للوحدة العربية الشاملة، ولتحرير فلسطين.
4 – إسرائيليا:
ولقد جرت العادة فلسطينيا، وعلى الأخص ما بين 49 و67، ألا نتوقف عند المتغيرات والتطورات التي حدثت وتحدث في إسرائيل. لماذا؟ لأن إسرائيل، من منظور رؤانا الحقوقية، القانونية، التاريخية، الإنسانية، الثقافية .... الخ، ليست دولة، وإنما كيان غاصب، وحتمية زواله مؤكدة. وهذه الحتمية هي ما يتوجب أن تكون مدار الاهتمام، ومقتضى التركيز، وليس المتغيرات والتطورات العابرة في، وعلى كيان عابر.
وكي لا نستبق الأمور، ونقول إن هذا الفهم، فالتعامل مع بند الحق التاريخي في استراتيجية النضال الوطني الفلسطيني، كشف عن عيب، وعن خلل خطير، في هذه الاستراتيجية، تعالوا نطالع بعض تلك المتغيرات، والتطورات الكبيرة التي سبقت ولادة القيادة الفلسطينية الجديدة.
أولاها أن القيادة الصهيونية، وقد لاحظت تحول بريطانيا، عقب الحرب العالمية الثانية، إلى دولة من الدرجة الثانية، وصعود الولايات المتحدة لقيادة العالم الرأسمالي، لم تتوان عن الانتقال للحضن الأميركي، وعن تركيز نشاطها الإعلامي، الدعائي، الدبلوماسي .... الخ في الأرض الأمريكية، مع الحفاظ على قوة تحالفها مع كل بريطانيا وفرنسا، ودول أوروبية أخرى. وبهذا التغيير لم تضمن سندا وحاميا دوليا لمشروعها فقط، بل وتثبيت وحماية مكتسباتها المنتظرة، وصيانتها من أي تهديد خارجي.
وثانيها أن حصول إسرائيل على عضوية الأمم المتحدة، لم يكسبها الشرعية الدولية، القانونية والحقوقية فقط، بل ووفر لها ضمانات بقائها وتطورها. ولأننا أدركنا خطورة هذه العقبة الجديدة، والتي تجعل من مشروع تحرير فلسطين بإزالة إسرائيل، ضربا من الخيال، كانت التعبئة عندنا بالنقمة على الأمم المتحدة، والرفض للشرعية الدولية، والذي ساد خطابنا السياسي قبل الإعلامي.
وثالثها أن إسرائيل لم تكتف بكل هذه الضمانات الجديدة لتأكيد بقائها وحفظ أمن مكتسباتها، ونصف أرض الدولة الفلسطينية في مقدمتها. عملت على تحويل قوتها العسكرية إلى قوة ردع باطشة، انتقلت بها سريعا من الاعتماد على الجيوش العربية في حفظ أمن حدودها، من تسلل أصحاب الأرض، وأخذ ما يسدون به الرمق، إلى التهديد والغارات الإجرامية عبر هذه الحدود.
ورابعها أنها أخذت على محمل الجد، تهديدات بيانات الانقلابات العربية بإزالتها. طورت استراتيجيتها العسكرية، استنادا لدعم الحليفة أمريكا، لتحقيق تفوق مطلق على الجيوش العربية مجتمعة، وذلك عبر امتلاكها لأحدث التكنولوجيات العسكرية، اعتمادا على بنيتها الحضارية، والتي سبق وأشرنا لها في الحلقة السابقة، من جهة، والإسراع، بمساعدة الحلفاء، فرنسا وأمريكا ...الخ، في بناء وتشغيل مفاعلها النووي، وامتلاك ترسانة نووية من جهة أخرى. الأمر الذي جعل أي تفكير مسؤول في إزالتها، نوعا من مغامرة مهلكة.
وخامسها أنه وفي نهاية العام 48 انتقلت حيازة الحركة الصهيونية، ثم إسرائيل، من 7 % إلى 78 % من مساحة فلسطين. ذلك عنى أن القيادة الصهيونية واجهت فراغا، احتاجت فيه لمساعدة النظم العربية في الحفاظ على حدود هذا الفراغ من جهة، والسرعة في تعبئته السكانية من جهة أخرى. وكان قانون حق العودة ومنح اليهودي الجنسية لحظة أن تطأ أقدامه أرض فلسطين، أول ثمارها. ورغم أن تدفقا هائلا في الهجرة قد حدث، إلا أنه لم يسد غير جزء من ذلك الفراغ. وجريا على العادة في كل العقود الماضية، سارعت النظم العربية لمد يد العون، وفتح طاقة الفرج. فتحت مزاعم الثأر والانتقام من الهزيمة العربية، تم اقتلاع وطرد الجاليات اليهودية من أوطانها العربية، وإلقاؤها في فلسطين. ومن عجب أننا، نحن الفلسطينيين، قبلنا هذه الجريمة وبررناها. كما قبلتها الشعوب العربية وبررتها. والأنكى أن حركات تحرر وطنية وقومية، وتيارات إسلامية شاركت فيها. والكل نظر إليها كنوع من الثأر لما حل بنا، ولم ير الحقيقة المرة أن كل النظم العربية، وبلا أي استثناء، شاركت فيها، وأكثرها بتعاون مباشر مع القيادة الإسرائيلية. أيضا تغافلنا، أو غفلنا عن حقيقة أن عدد هؤلاء المطرودين من أوطانهم، 650 ألفا، قارب عدد لاجئينا، وأنهم حلوا بديلا لهؤلاء اللاجئين في بيوتهم وحقولهم. وبكلمات أخرى تمت تعبئة الفراغ السكاني، نتيجة الفرار الجماعي لأهلها.
وسادسها أن القيادة الصهيونية استغلت كارثة المحرقة النازية أبشع استغلال. ليس فقط أنها، باحتكارها تمثيل الضحايا، نجحت في إخراس كل الأصوات اليهودية المعارضة للمشروع الصهيوني، وإلى حد دمغها بالخيانة لذكرى الضحايا، بل وذهبت أبعد من ذلك، وإلى حد ابتزاز الضمير الإنساني، تحت زعم السكوت على جريمة معاداة السامية. وانتقل هذا الابتزاز إلى طور أعلى، بجعل أي نقد لجرائم إسرائيل في فلسطين معادلا لمعاداة للسامية، وخالقا لمناخ وقوع محرقة جديدة، وبأيد عربية هذه المرة.
وسابعها أن البنية الحضارية التي عملت القيادة الصهيونية عليها في عقود الانتداب، أهلت إسرائيل، الدولة الناشئة، لتحتل مكانة متقدمة بين دول العالم الأول، فيما بقيت الدول العربية تستقر قريبا من قاع العالم الثالث. أكثر من ذلك ساعدت هذه البنية المتقدمة؛ التعليمية، الثقافية، القانونية، الديموقراطية، السياسية، الصحية، الإدارية، الاقتصادية، الاجتماعية ......الخ، على استيعاب وصهر هذا الخليط المتنافر، عرقيا وثقافيا وإنسانيا .... الخ، من مهاجري يهود العالم، في بوتقة المجتمع الجديد، وليغدو أكثر وحدة وأشد تماسكا من أي مجتمع عربي محيط.
والآن:
والآن، وبعد هذا الاستعراض السريع لبعض، أهم المتغيرات التي وقعت ما بين العامين 49 و67، نعود للسؤال الذي سبق وطرحناه: هل وعى عرفات، والقيادة الجديدة، هذه المتغيرات، وانعكاساتها على قضيتنا، وتأثيراتها المتبادلة، قبل أن يقرر البدء من حيث انتهى الحاج أمين؟ هل فكرت مليا، أو سريعا، في صلاحية استراتيجية النضال الوطني، ومدى ملاءمتها للأوضاع الجديدة، أي ذلك التغير الكبير على هدف ومهمات النضال؟
ففي الفترة التي سبقت النكبة، وعلى مدى يزيد على السبعين عاما، تركز هدف النضال، على الحيلولة بين الحركة الصهيونية، وحليفتها بريطانيا، وبين تنفيذ مشروع إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وكان أن تناسبت المهمات، وتحددت الوسائل والأساليب، بالقدر الذي تلاءم مع الوعي الشعبي آنذاك، مع هذا الهدف. وبعد النكبة وتحقق المشروع الصهيوني، وقيام دولة اسمها إسرائيل، وتشرد الشعب الفلسطيني، فقد تبدل الهدف من منع تنفيذ المشروع الصهيوني البريطاني، إلى تحرير الأرض المحتلة، وإزالة هذا الكيان الغاصب. أو بعبارة أخرى، العودة لما كان عليه الحال في ثلاثينات القرن الماضي. ومع ذلك لم يتم طرح السؤال: ألم يستلزم تغير الهدف تغيير الاستراتيجية، ومن ثم تغيير المهمات، الأساليب، الوسائل والآليات؟
الانطلاقة:
كانت التحضيرات للثورة الحديثة قد وقعت أواسط الستينات. وفيها استلهمت القيادة الجديدة تجربة الحركة الفدائية / قطاع غزة، العام 55. وحفز ضرب إسرائيل لهذه الحركة، وإذلال مصر، الرئيس عبد الناصر لإعادة تسليح الجيش، فخوض معركة كسر احتكار السلاح. وبعد دحر العدوان الثلاثي، أو حرب السويس العام 56، بدا لنا نحن الفلسطينيين، أن معركة تحرير الوطن باتت قريبة. فليست مصر وحدها من نجح في تحديث الجيش، ونقله من قوة محدودة العدد والتسليح، إلى قوة ضخمة، بل وانضم إليها كل من سوريا والعراق، وهي معا من تتجه له الأنظار لإنجاز مهمة التحرير.
ورغم فشل تجارب الوحدة بين الدول الثلاث، وانعكاسه على العلاقات بينها، وعداء النظم العربية الأخرى، شديد الشراسة لها، واصطفافها الواضح مع إسرائيل، رغم كل ذلك، بقي الأمل في وفاء الدول الثلاث لالتزامها بالتحرير قائما. ذلك أن إعلامها واصل المبالغة في دغدغة حواس الجماهير، عن تنامي قوة هذه الجيوش، وفعالية أسلحتها، واقتراب لحظة الحسم ...الخ. لكن الانتظار طال، والصبر الفلسطيني أخذ في النفاذ. إذ بدا أن هذه الدول، خصوصا مصر عبد الناصر، منشغلة في معالجة مشاكلها الداخلية. ولهذا كله، جاء استلهام تجربة الحركة الفدائية، العام 55، لغرض الضغط على مصر عبد الناصر، وفض حالة السكون القائمة، والدفع لبدء معركة التحرير الواقعة على عاتق هذه الدول الثلاث. وكما قلت في كتابي: " دخول إلى حقل المحرمات "، وقفت أهداف الثورة الفلسطينية الحديثة، عند حدود التحريك لا التحرير، رغم تصدر عبارة التحرير لأسماء الفصائل الفلسطينية الناشئة.
لكن وقبل أن تدخل استعدادات الثورة دائرة الفعل، وقبل أن يكون لها أي دور في التحريك، انفضت حالة السكون، وجاءت حرب حزيران، العام 67، بتلك الهزيمة المروعة للجيوش العربية المشاركة، وسقوط فلسطين كلها في قبضة الاحتلال، ومعها سيناء المصرية والجولان السورية، وشكلت لحظة الولادة الفعلية للثورة الفلسطينية الحديثة. وكما نعرف كلنا، نقلت الفصائل قواها المنظمة من الداخل الفلسطيني إلى الخارج، ولتباشر منه فعل المقاومة. لكن، ورغم الاندفاع الكثيف على عضوية التنظيمات، فقد توفرت دلالات، أشكال التنظيم، الإدارة والانضباط، وعمليات العبور والاشتباك، أن مهمة التحرير بقيت موكلة إلى الجيوش العربية. ورغم أن عبد الناصر باشر فورا في إعادة بناء الجيش، تفعيلا لمقولته الشهيرة؛ " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها "، ورغم أن الحليف السوفييتي سارع لمد حليفتيه؛ مصر وسوريا، بما تحتاجانه من أجل إعادة البناء، إلا أن هدف المقاومة بقي على حاله؛ الضغط على مصر وسوريا، للإسراع في إعادة بناء جيوشها، واستئناف حرب التحرير.
وفي " دخول إلى حقل المحرمات " طرحت السؤال التالي: هل لو تحقق للعرب، في حرب حزيران، أو في أية حرب لاحقة، نصر كامل على إسرائيل، يمكن إعادة عقارب الساعة إلى وراء، إلى وضع ما قبل نكبة 48؟ وأضفت: ولو افترضنا أن حلفاءها، الولايات المتحدة، فرنسا وبريطانيا وآخرين، التزموا موقف الحياد، وهو المستحيل بعينه، فماذا عن ترسانتها النووية؟ وأجبت أن عرفات كان يعرف، ومعه كل قادة الفصائل، أن مثل هذا النصر، لو حصل، لن يفعل أكثر من تحسين شروط العرب في مفاوضات سياسية، سقفها الأعلى تطبيق قرار التقسيم، وإعادة اللاجئين إلى بيوتهم وممتلكاتهم. وفوق ذلك، فإن إسرائيل، في حال تحقق قادتها من هزيمة قد تنذر بالإزالة، ستلجأ إلى استخدام ترسانتها النووية، تطبيقا لخطة شمشون التاريخية المعروفة؛ علي وعلى أعدائي يا رب. هذا استنتاج كان عبد الناصر قد أشار له مطلع الستينات، وجر عليه غضب الشعب الفلسطيني آنذاك، الأمر الذي اضطره إلى التفكير، فإقناع جامعة الدول العربية، العام 64، ومع تحفظات عربية كثيرة، بإعادة إحياء القيادة الفلسطينية، تحت مسمى منظمة التحرير الفلسطينية هذه المرة. حينها، وبعد كل ما مرت به الثورة من تطورات؛ نجاحات وانتكاسات، لم يطرح في أي من أروقتها السؤال: إذن ولما كان الأمر كذلك، فلماذا تم تبني استراتيجية للنضال، نشأت وتطورت في ظروف أخرى مغايرة تماما؟ ولماذا تمت تعبئة الجماهير على أهداف التحرير، مستحيلة التحقيق في الظروف الدولية الجديدة؟ ومن أي حالق ستسقط الجماهير، حين تحين لحظة الحقيقة، ويتم التفاوض على أهداف أدنى بكثير من هدف التحرير الشامل؟
ربما وقف التطور الصاعق للثورة، وراء ذلك التأجيل غير المبرر، لطرح الأسئلة السالفة والإجابة عليها. إذ لم تمض سوى شهور قليلة على انطلاقة الثورة، حتى حظيت بدعم شعبي، وطني، عربي وعالمي هائل. كما حظيت بمساندة دولية عربية وعالمية؛ سياسية، مادية، معنوية وأدبية ...الخ، غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. لكن وبدل استيعاب التطورات الجديدة، ومنها سقوط مقولة عداء العالم، والأمم المتحدة لقضيتنا، أصيبت القيادة، وفصائلها، بداء الغرور القاتل لأية ثورة تواجه عدوا بشراسة ولؤم وخبث وقدرات العدو الإسرائيلي، وحلفائه على امتداد العالم، والإدارة الأمريكية في المقدمة. وبدل استثمار هذا الدعم المتنوع، وطرح استراتيجية نضال جديدة، وتعبئة الجماهير على الهدف القابل للتحقيق، هدف استعادة الدولة الفلسطينية التي أطاحت بها النكبة، جرى رفع سقف الأهداف. ويا ليت الأمور وقفت عند هذا الحد. ذلك أن الفعل على الأرض جرى على عكس النوايا والأماني تماما. كيف؟ ..........................يتبع في الحلقة القادمة.

الوسوم:
يتم التشغيل بواسطة Blogger.

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *