عرض كتاب
زمكان
عرض الكاتب : عطا أبورزق
انتهيت
من قرأة هذه الرواية الشيقة والرائعة والتي تتمتع بأسلوب أدبي راقي وسلس، استطاع
الكاتب بأسلوبه الممتع أن يجمع ثلاث أزمنة مختلفة في مكان واحد هي مصر.
جسد الزمن الأول الإمام "أحمد إبن حنبل"
في زمن الخليفة العباسي " المعتصم "، ومثل الزمن الثاني "غريب
يوسف" عمدة قرية "السعيدية" (المحروقة) في محافظة الشرقية بمصر في
أواسط الأربعينات من القرن الماضي، وأحد التابعين لأحدى الطرق الصوفية والمتأثرين
بالإمام "أحمد إبن حنبل"، إذ كان دائم الدعاء بأن يجمعه الله بـ "أبن
حنبل" في الدنيا والأخرة. أما الزمن الثالث هو زمننا الحاضر وتمثل في عدة
شخوص كان أبرزهم هي شخصية " مصطفى الشرقاوي " حفيد " غريب يوسف
" عمدة "السعيدية" ، الذي فقد أغلى ما يملك مهجة قلبه، ونور عينيه،
إبنه "نور الدين" في حادثة سيارة، حزن عليه حزناً شديداً واصبح منذ ذلك
الوقت دائم المداومة في المقبرة بجوار قبر ابنه، والشخصية الثانية هي شخصية "
الشيخ عطية الكحلوت " أو كما سماه أهل قريته " اللحوس " من كثرة ما
كان يجهز على ما تبقى من أكل على موائد أهل القرية وهو صغير جراء الفقر المطقع
الذي كانت تعيشه اسرته، ولكثرة ما قبل الأيادي تزلفاً وتمسحاً بذوي الجاه والسلطان
من رجالات الأخوان المسلمون، والجماعات السلفية. كان عاق لوالديه، مقلد بارع
للمشايخ وخطباء المساجد، لم يفلح في دراسته، رغم قدرته العالية في الحفظ، كان محل
سخرية من اترابه ورفاقة في الصبا، لم ينل حظه بأن يحصل على مكانة مرموقة في بلده،
كان يشبع رغبته الجنسية في بيت "زغلولة" بالاسكندرية دون النظر والتدقيق
فيمن سيقضي معها متعته، المهم أن تكون بأجر بخس ، سافر للعمل في المدينة المنورة
ككاتب حسابات، تزوج أبنة شيخ يمني ثري، فتحت له نافذة الأمل في الجاه والثراء،
ورافق كبار علماء السنة مثل "الشيخ الالباني" وغيره من العلماء والفقهاء
في المملكة العربية السعودية، عاد لمصر بعد وفاة والد زوجته (حماة) بالاتفاق مع
احد ضباط الأجهزة الأمنية في مصر في عهد الرئيس المخلوع " محمد حسني مبارك"
ليكون بوقاً يدافع عن النظام ويكفر كل من يخرج على حكم ولي الأمر. وباقي الشخصيات
هي من السلفيين والاخوان المسلمين.
لقد
جمع الكاتب بين الشخصيات الرئيسية الثلاث في روايته " زمكان" بواسطة "عبدالله
الرصافي" الشخصية الوهمية ، إذ جمع بين الإمام "أحمد ابن حنبل"
الذي تعرض للتعذيب الشديد بالجلد والسجن على يد الخليفة العباسي " المعتصم
" بعد أن دافع "إبن حنبل" عن الأمة في مواجهته لفتنة خلق القرأن أي
الإدعاء بأن القرأن مخلوق من مخلوقات الله، مع "غريب يوسف" عمدة
السعيدية ( المحروقة) المتيم في حب "ابن حنبل" واحد اتباع الطرق
الصوفية، الخارج لأداء فريضة الحج مع زوجته "سيادة" في الأراضي
الحجازية، إذ ترك زوجته في خيمة الحجيج وخرج يلهث خلف صوت يصدح بتلبية الحجيج يبحث
عنه أعتقد أنه يعرفه، فأصيب بإغماءة بسيطة يأتيه خلالها شخصية "عبد الله
الرصافي" ليجمعه بشيخه الذي أحبه واتبعه الإمام "احمد إبن حنبل"،
فيدفنهما في المقبرة التي دفن فيها "نور الدين" إبن حفيد العمده "مصطفى
الشرقاوي". في ليلة من ليالي كانون الثاني في جو عاصف ماطر يخيل "لمصطفى
الشرقاوي" بأن هناك صوت ينبهه من نومه ويقول له إذهب إلى المقبرة ، وعند
وصوله للمقبرة يسمع صوتاً خارجاً من أحد القبور أعتقد أن أحد اللصوص أو البلطجية
قد دفنوا احد الاشخاص بعد أن قشطوه وضربوه واعتقدوا أنه مات، خصوصاً أن هذه هي الحالة
التي سادت مصر بعد ثورة 25 يناير 2010، فيسعى بمساعدة أحد الفلاحين كان يعمل في
ارضه المجاورة للمقبرة على اخراج إبن حنبل والعمدة ويأخذهما إلى بيته، يمسح عنهما
أثار الرمال والدماء التي كانت تغطي ظهر ابن حنبل اثر الجلد الذي تعرض له على يد
المعتصم ، وعلى قدمي العمدة اثر تمزقهما أثناء جريه في الصحراء كما خيل له.
يتعرف
"مصطفى الشرقاوي" على شخصيتهما ويعرفهما على المكان الذي يتواجدان فيه،
ينبهر "إبن حنبل" مما قد وصلت إليه الحضارة البشرية من تطور وتقدم،
يتعرف على كل الأشياء التي لم تكن موجودة في عصره مثل الكهرباء والمصاعد والقطارات
والطائرات والتفلزيونات والكمبيوتر والانترنت والهواتف النقالة والثابته، ويتعرف
أيضاً إلي ما موصلت إليه حالة الأمة وظهور ما يسمى بالجماعات الإسلامية (إخوان
مسلمين وسلفيين)، يتردد على المساجد، يستمع للخطب والدروس الذي يقدمونها الخطباء
وائئمه المساجد وما يسمون أنفسهم علماء الأمة، يرثي لحال الأمة، ويقرر الثلاثه "إبن
حنبل" و "العمدة غريب" و "مصطفى الشرقاوي" أن يتخذوا
خطوة مواجهة هذه الجماعات وتبيان زيف ما يدعون.
يدير
الكاتب مناظرة حوارية رائعة بين "أحمد إبن حنبل" وبعض مشايخ الدعوة
السلفية وعلى رأسهم الشيخ "محمد حسانين" والشيخ "عطية الكحلوت"
الذي اطلق على نفسه لقب "الشيخ ابو اسماعيل الرويني" في مسجده بحضور حشد
كبير من المصلين، يكشف الكاتب في هذه المناظرة الحوارية على لسان أحمد إبن حنبل
ضعف وجهل من يدعون بانهم علماء الأمة، ويفضح زيف ما يدعون نقله عن الإمام "إبن
حنبل" إذ يتعتبرون انفسهم من اتباع تعاليمه، فلم يطيق شيوخ الدعوة السلفية
المواجهه والمناظرة، فيقوم الشيخ "برهومة حجازي" صديق الصبا للشيخ
"أبو اسماعيل" بدفع الإمام "ابن حنبل" وايقاعه عن الكرسي
ويحرض عليه الغوغاء من اتباعهم ويقومون بطرد الإمام ومن معه من المسجد. فاستقبلهم
على بابه سيارة الشرطة التي تحمي من سخرتهم لخدمتها من مشايخ وخطباء وما يدعون
بأنهم علماء.
تميزت
الرواية بأسلوبها السلس الممتع وعرض الكاتب الكثير من القضايا الفلسفية والدينية
بشكل رائع وجميل، حيث يشعرك الكاتب وانت تقرأ روايته بانك تغوص احياناً في أعماق
التاريخ، تفتح صفحاته وتقلبها بين يديك، ثم يعود بك إلى زمن الأربعينات من القرن
العشرين سارداً الكثير من الوقائع والحوادث التي كانت تحدث في قرية "السعيدية"
وعن سبب تسميتها "المحروقة"، وتارة أخرى تراه يضعك في واقعك الحالي
وزمنك الحاضر مستخدماً عبارة يرددها دائما " الزمن يمر بنا ولا نمر عليه
".
يغمرك الكاتب بالمشاعر الصوفية والروحانية،
يبتعد فيك كثيراً بمناقشاته الفكرية، يفتح بها كثيراً من العقد التي تتشابك بفعل
تعقيدات الجهلة من أدعياء التدين في هذا العصر ،،، يجعلك تدرك بان سرداب الزمن
يحملك ويدور بك لترى الأشياء على حقيقتها ،،،،، إنها حقاً رواية تستحق القراءة.